اللغة العربية من سؤال الهوية إلى رهان التنمية

اللغة العربية من سؤال الهوية

إلى رهان التنمية

د. إدريس مقبول

باحث وأكاديمي مغربي

[email protected]

لابد أن نشير في البداية أن بحث أسئلة الهوية عند الإنسان العربي نريد من خلاله توضيح أفق اهتمامنا بضرب من الطموح العربي والإسلامي المتجه صوب صياغة مشروع حضاري يمكن أن يشكل إطارا فكريا يساعد الإنسان الرسالي على ممارسة حضور فاعل ومبدع في التاريخ المعاصر.

إن البحث في الهوية([1]).. وعن الهوية ليس بحثاً ميتافيزيقياً مجرداً، غايته إرضاء نزعة" شوفينية" عند أبناء الأمة، بقصد الحصول على صك بتمايزها- ولا أقول تميزها- عن سواها من الأمم. إنما هو بحث يجب أن يهدف أصلاً إلى المساهمة في عملية النهوض الشاملة، التي تتطلع إليها الأمة. إنه تنمية حضارية، هدفها خوض نضال حضاري، ضد تحد حضاري يواجهنا، وما زلنا نتعرض لضغوطه المتزايدة:" لاسيما عبر فرض نوع من التنمية الاقتصادية المشوهة، والتابعة، والتي لايمكن أن تقود إلا إلى مزيد من التبعية..."([2])‏.

إن تصورنا للمشروع الحضاري العربي والإسلامي الذي يشكل الإنسان ركيزته وأساسه البشري لا يدخل في باب الحديث عن التصور الجاهز أو الاختيار المغلق، إن الأمر يتعلق قبل كل شيء بمشروع أو بمسعى يتجه نحو بناء وعي رسالي مطابق لمتطلبات الأحوال العربية والإسلامية في إطار مواجهتها لمصيرها الحالي، ومن منظور نقدي وتحليلي.

فنحن قد خرجنا من القرن العشرين ودخلنا القرن الحادي والعشرين وما تزال كل طموحات الأمة التي بلورها الخطاب النهضوي منذ منتصف القرن التاسع عشر بدون تحقق: ما يزال مشروع استكمال الاستقلال، تحقيق الوحدة، بلوغ عتبة التنمية الاقتصادية، استيعاب وضعيتنا الحضارية، إلخ،..ما تزال كلها آمالا في أغلب وطننا العربي والإسلامي.

 البحث في أسئلة الهوية... وعن أسئلة الهوية إنما نريد الوصول من خلاله إلى إطار مرجعي، لكي نشيد مجتمعاً عربياً يريد أن يحقق شيئاً... الإطار المرجعي الصالح ، الذي يؤخذ من أنفسنا وممن حولنا. إذا لم نبدأ بهذا الإطار ، فلن يكون لدينا فكر أو انتاج ، أو- حتى ثقافة، أو إنجاز، ولعل سر الارتباك الذي نعيشه هو تعدد الأطر المرجعية، ولكي نبدأ السير من نقطة معينة، علينا أن نجمع على هدف معين، يدفعنا إليه فكر معين([3])‏.

فيتحصل من كل ما تقدم أن موضوع الإنسان العربي وأسئلة الهوية دعوة للتفكير العقلاني في المستقبل العربي، ومحاولة للتغلب على معطيات الحاضر وسعي لصياغة الرؤى والبرامج القادرة على تفعيل أوضاع الأمة بالصورة التي تمكنها من النهوض والتقدم ، إنه مشروع الجميع وعنوان مرحلة لا تسمح بالتخاذل والتراجع قدر ما تتطلب شحذ الضمائر والهمم والإرادات لإثبات الذات وبناء الهوية واكتساب ما يؤهلنا لاحتلال المكانة المناسبة لطموحنا التاريخي وطموحنا الحضاري.      

الإنسان العربي وعقدة الانبهار امام الغرب:

يمكن تلخيص موقف شريحة مهمة من الشباب العربي من الآخر ( النموذج الغربي )، وهو ما يطلق عليه الأستاذ( حسن حنفي ) ظاهرة التغريب-بما يلي:‏

* اعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه.

* اعتبار الغرب الإنسانية جمعاء وأوربا هي مركز الثقل.

* اعتبار الغرب المعلم الأبدي واللاغرب التلميذ الأبدي ([4]).

لاشك أن هذا الوضع الذي عليه أكثر الشباب العربي مأتاه من مسرب تعليمي خطير([5]) كرسته مناهج التربية والتعليم وبرامجها عبر سائر الأسلاك والمراحل حيث رُتِب على أسطورة الثقافة العالمية واعتبارها مرادفة لكل الثقافات المحلية وبديلا عنها لا فرق في ذلك بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية مع أن كل علم هو تعبير عن رؤية للعالم، وجزء من المكون الحضاري. وعلى كل منها التأقلم معها والتخلي عن خصوصيتها العالمية، وهو ما عرف في الانثربولوجيا الثقافية باسم المثاقفة أو التثاقفAcculturation .الثقافة الغربية هي الثقافة العالمية التي على كل ثقافة أن تتمثلها باعتبارها ثقافة العقل والعلم والإنسان والحرية والتقدم والمساواة، ثقافة التنوير وحقوق الانسان، في حين أن الثقافة المحلية مرادفة للخرافة والسحر والدين والقهر والتخلف والتعصب واللاعقلانية([6]).

ومن ينظر مليا في أسباب هذه الآفة التي دخلت على شبابنا العربي حتى بات يرى أن التقدم في أن يحاكي الغرب ويتماهى فيه شكلا ومضمونا لفظا ومعنى ، فإنه لا يلبث أن يتبين أنها ترجع إلى كون السياسات التعليمية والتربوية في وطننا العربي والإسلامي أخلت بالركن الأساسي الذي تقوم عليه الهوية وتحتمي به ، وهو مبدأ المحافظة الواعية والتي تتجلى من خلال تقديم الخاص على العام ، والتعريف بالمحلي والقومي قبل الكوني ، والتحيز في الذات بدل التحيز في الآخر، وما يزال الأمر على حاله حتى صرنا في بعض أنظمتنا التربوية إلى تقليد الآخر ومتابعته حذو القدة بالقدة حتى إذا دخل جحر ضب دخلناه . فتجد مناهجنا وبرامجنا التعليمية عبارة عن استنساخ كربوني لبرامج مستعمر الأمس فرنسيا كان او أنجليزيا. وإذا ضاع المنهج والشكل تلاشى المضمون وتشوهت الأفكار، لأنه لا بقاء لمفردات الهوية مع دوام التقلب في استعارة الأشكال من الخارج من غير النظر في ملاءمتها مع حاجيات الذات وخصوصيتها.

وبهذا، يتضح أن النزعة الإمعية التي استحوذت على شطر كبير من شبابنا العربي هي أثر من آثار ما يسميه الدكتور طه عبد الرحمن "غياب معنى"المعية الرافعة"([7]). التي يعتبر "التعالي" شاهدها الأمثل، المعية التي تستصحب نموذجا أصيلا وفطريا وتاريخيا ممتدا بفروعه للمستقبل ، ولا يضر هذه الهوية آنئذ أن تتوسط بالقيم المادية أو تزدوج بها، نظرا لأن هذه القيم تبقى تابعة لها ومسترشدة بها([8]). وينقلب النموذج السالب لعقول شبابنا إلى نموذج نسبي ومحدود ، وهي مرحلة أولى ترشح لمرحلة تربوية يرتقي فيها العقل لينظر إلى النموذج باعتباره موضوعا محل نقد لقصوره ومحدوديته واختزاليته، وبذلك نتخلص من عقدة إسار الغرب أو ما يسميه بعض الدارسين المرض بالغرب أوالتغرب.

إذا تبينا هذا جاز لنا أن نستوعب المقصد المنهجي من تقديم مبحث الانبهار بالغرب([9]) في درس أسئلة الهوية عند شبابنا العربي ، لأن مبحث الانبهار بالآخر هو المفتاح لمعالجة أزمة الذات، هذه الذات التي فقدت مناعتها وبوصلتها نتيجة لتظافر عوامل داخلية وأخرى خارجية فباتت تعرف كل شيء إلا اتجاهها في الحياة، وهو أعظم خطر يتهدد وجودنا ورسالتنا.

لقد تقرر في الدراسات الاجتماعية والنفسية أن الشباب هو مرحلة اكتشاف للذات التي تعرف بأزمة الهوية، والتي يكتنفها شعور بالاغتراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يأخذ صورة الثورة والرفض لأغلب القوانين والأنظمة القائمة على أثر ما يصادفه الشباب من إحباط وفقدان ثقة، ما يزيد شعوره بالتناقض الذاتي ما بين رغبة في الاستقلال، وضرورة الاعتماد على الآخرين ، ما بين رغبة في الانغلاق على مفردات الهوية وحاجة لتكسير كل ما من شأنه أن يعترض انطلاق الطاقة الشبابية وتحررها حتى وإن كان من عناصر الهوية([10]). هذه الوضعية إزاء مقومات الهوية يمكن أن نرصد بعض ملامحها من خلال بعض أركان الهوية من قبيل: اللغة والدين والتاريخ والوطن ، لكننا سنقصر حديثنا في هذا المقام على اللغة.

اللغة وسؤال الهوية:   

يذهب بعض الباحثين إلى أن اللغة هي أقدم تجليات الهوية، أو لنقل: هي التي صاغت أول هوية لجماعة في تاريخ الإنسان. "إن اللسان الواحد هو الذي جعل من كل فئة من الناس"جماعة" واحدة، ذات هوية مستقلة. ويزداد الاهتمام باللغة والهوية معا ويشيع الحديث عنهما، في المنعطفات أو المفاصل التاريخية في حياة الجماعات"([11])

ولا مراء في أن اللغة العربية باعتبارها اللغة القومية تعد بحق أعظم كنز وأعظم وعاء حفظ تراثنا القديم الخالد، ونحن في وثبتنا الحاضرة محتاجون إلى أن نزود أبناءنا وشبيبتنا من هذا التراث حتى يظلوا على دوام الصلة به. واللغة أداة التفكير والتعبير في آن واحد، ولا تستغني التربية التي تتطلبها حياتنا الحاضرة عن تلك الأداة اللغوية، التي تشرح أهدافنا وحاجاتنا، وأوضاعنا في الميادين المختلفة.

وإذا تأملنا وجدنا أن تربية الشباب تحتاج في كثير من الحالات إلى تعبئة القوى وإيقاظ العواطف وتنبيه القلوب، واللغة القومية بما تملك من التعبير المؤثر، والتصوير البارع المثير، تستطيع أن تحقق هذه الغايات.

وسؤال الهوية في هذا الموضع يتجلى من خلال ما نلاحظه من ظواهر سلبية تضعف من قوة هذه اللغة في الواقع لصالح لغات ولهجات أخرى، فمن ذلك الإعلام الذي باتت العربية فيه تشكو إلى ربها النسيان والهجران كما تشكو ظاهرة التخليط والتلوث اللغوي الذي يعتبر قتلا بطيئا لجمالية اللغة العربية . ومن جهة أخرى ما تزال عدد من الإدارات في عالمنا العربي تعتمد لغات المستعمر الأجنبية (الفرنسية أو الإنجليزية)في مراسلاتها ومخاطباتها مما يزيد الهوة اتساعا ويكرس حالة من الاستلاب الحضاري تؤكد مع الوقت مقولة ابن خلدون بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب.

ولعله من مظاهر هذا الانحدار ما نراه من مسارعة للأسر العربية لتسجيل أبنائها في المدارس الأجنبية والخاصة الأنجلوساكسونية والفرنكوفونية اعتقادا منهم أن هذا المسلك هو وحده الذي يمنح التميز والتفوق في المستقبل، حتى يصير الشباب المتخرج من هذه المدارس فاقدا لأهم شرط في وجوده وهو هويته اللغوية التي أصبح غريبا عنها وغريبا عن قيمها الحضارية والدينية والثقافية بالاستلزام.

إننا لا نقصد من تنبيهنا على هذا الركن ضمن مشمولات الهوية أن نقصر المعرفة اللسانية عند شبيبتنا على اللغة العربية، فنضرب حولها بسور حصين يحبسهم في مجال من الثقافة والفكر  مغلق، ويضطرهم إلى نوع من العزلة الفكرية الموحشة، ويقطع ما بينهم وبين الآفاق الحيوية التي تزخر ولا شك بالمعرفة والثقافة الحية المتجددة. وإنما المقصود ترتيب الأولويات لأنها تشكل الخارطة المعرفية والنموذج الإدراكي  على حد قول الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي يسمح باحترام الخصوصية والدفاع عنها وتقديمها حيث تزاحمها هويات أخرى في زمن التشكل النفسي في مرحلة النضج عند الشباب.

إن اللغة ليست من منظورنا وسيلة للتواصل فحسب، وإنما هي أداة تختزن تصورنا ورؤيتنا وتقطيعنا الخاص للعالم على حد قول اللساني الفرنسي أندري مارتيني A.Martinet ، وهي بالتالي تعكس تحيزاتنا الحضارية والثقافية التي تحفظ استمراريتنا الوجودية، ومن دونها نصير إلى التلاشي والذوبان. إن لغتنا العربية القومية هي ضمان تجذرنا حتى لا تذهب بنا رياح اللاتوجهIndeterminacy في العالم المعاصر حيث لا يوجد مركز ولا توجد أية توابث  على حد قول فوكو Foucault ([12])، وحيث السيطرة للالتباس والانقطاع والهرطقة والانزياح عن المألوف والشذوذ والتحويل التشويهي وما إلى ذلك من آفات الإبداع الإنساني الجديد.

وإذا نحن تأملنا في طبيعة السؤال اللغوي في منظور تماسك بناء الهوية وجدنا الجواب في أن اللغة القومية أداة من أدوات تخليد الأفراد والجماعات رمزيا عبر الزمان والمكان، فعلى المستوى الجماعي تمكن اللغة المكتوبة على الخصوص المجموعات البشرية من تسجيل ذاكرتها الجماعية والمحافظة عليها وتخليدها وذلك رغم اندثار وجودها العضوي والبيولوجي، وهو أمر لا حاجة للاستدلال عليه في ثقافتنا العربية والإسلامية([13]).

وللذين ما يزالون يعتقدون من شبابنا في عجز اللغة القومية عن التعبير عن حاجات العصر نذكرهم بأن أول مراتب الهزيمة هي في هذا الاعتقاد، ولنتذكر جميعا كيف نهضت اليابان بلغتها وليس بلغة غيرها، وهي اليوم على رأس قافلة الحضارة الإنسانية، والياباني وإن تعلم لغات أجنبية فهو معتز بلغته اليابانية التي يكتب بها ويفكر بها ويبرمج الحواسيب بها والتي يعتبرها اللساني تادانوبو تسونودا (Tadanobu Tsunodo) في كتابه المخ الياباني (The Japanese Brain) سر الفرادة والتميز الياباني ) Japanese Uniqueness([14]) يقول : يبدو أنني اكتشفت ما يفسر الأوجه المتفردة العامة للثقافة اليابانية، لماذا ينهج اليابانيون هذا السلوك المتميز؟ وكيف شكلت الثقافة اليابانية ملامحها الخاصة وطورتها ؟ أعتقد أن مفتاح الإجابة عن هذه الأسئلة يكمن في اللغة اليابانية، أي أن اليابانيين يابانيون لأنهم يتكلمون اليابانية التي تختزن تصورهم للعالم ماضيه وحاضره ومستقبله.

وقد سأل فرانسيس غزافيي ([15]Francis Xavier)()، الذي جاء إلى اليابان سنة 1549 : لماذا لا يكتب اليابانيون «بطريقتنا «من اليسار إلى اليمين أفقيا ؟ فأجابه الدليل الياباني الذي كان يرافقه بسؤال كان يمكن أن يفيد فرانسيس لو أجهد نفسه في فهم مضمونه. والسؤال هو : لماذا لا يكتب الأوربيون بالطريقة اليابانية، من اليمين إلى اليسار، ومن أعلى إلى أسفل ؟

ونحن ينبغي أن نستوعب من هذا درسا نعطيه لأبناء أمتنا في قوة التحيز للغتنا العربية وفاعليته في النهوض بعيدا عن التسول الحضاري والاستيراد البليد. يقول أبو يعرب المرزوقي منبها إلى هذا المنزلق "إن الاستيراد الميت يصيب الأمم اللواقح بالعقم لكونه يحول دونها والمعاناة التي يتدرج بها الفكر من زاده الخاص إلى الإسهام في تحقيق الزاد الإنساني العام تدرجا مسهما في إبداع هذا الزاد، إذ دون ذلك لا تكون الكونية والكلية بين البشر إلا الاشتراك في الحيوانية طبيعة، والعبودية للسائد تاريخا"([16]).

إن اللغة العربية هي أهم عناصر الهوية، والتفريط في اللغة هو تفريط في هويتنا التاريخية وقيمنا الثقافية والأخلاقية وسيادتنا القومية. وكلما اهتم الإنسان بلغته كان ذلك دليلا على قوته ونهضته وأصالته، والعكس صحيح.

اللغة العربية ورهان التنمية:

لقد كان مفهوم التنمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عقد الثمانينات -قاصرًا على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية، ولكن مع تدشين مفهوم التنمية البشرية سنة 1990 عندما تبناه برنامج الأمم المتحدة للإنماء، أصبح الإنسان هو صانع التنمية وهدفها. فصار الحديث يتناسل عن المؤشرات الجديدة على هذا المفهوم، وكيف السبيل إلى تحقيق جودة حياة لهذا الإنسان، من خلال الارتقاء بمستويات عيشه المادية والمعنوية في توازن مع محيطه وثقافته وتاريخه ولغته. فمفهوم التنمية البشرية يستند إلى الإنسان وتكون غايته الإنسان, فهدف التنمية البشرية هو تنمية الإنسان في مجتمع ما, من كل النواحي: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والفكرية([17]).

وفي اللسان العربي نجد التنمية كلمة مشتقة تعني الزيادة والانتشار, ومن هنا نعرف أن التنمية يجب أن تعني زيادة ورفعة وتحسين ما هو موجود أصلاً ونشره وتعديه إلى غيره, بحيث يساهم في رفعة غيره وتحسينه أيضاً.

ونحن ممن يعتقد أن التنمية البشرية إذا كانت تبدأ بالإنسان وتنتهي به، فإنها لا ينبغي أن تتجاهل أهم معطى تواصلي يربط هذا الإنسان بمحيطه ويرسم له علاقاته ويحددها بل ويختزن خريطته عن العالم والوجود ألا وهو اللغة.ومهما اجتهد الإنسان في تلبية سائر احتياجاته المادية وتنميتها متغافلا عن العناية بلسانه فإنه يكون كمن يتحرك تحركا أعرج متعثرا.

ولما كانت اللغة هي مرآة الحياة، فإنها تتأثر بكل أحداثها([18])، وهي كما تتأثر بالأحداث فإنها تؤثر فيها، بل وتصنعها على ما يعرفه أصحاب نظرية الأفعال اللغوية، والعربية بإمكانها أن تكون لسانا مساهما في التنمية بالمعنى الشمولي، وذلك أن مخاطبة الناس المعنيين ببرامج التنمية إذا كانت بغير لسانهم فإن اللغة حينئذ تصير معيقا تنمويا يعطل عجلة التطوير والتقدم، لما تشكله إجراءات التواصل بغير اللسان العربي بين العرب من إعاقة نفسية وعملية تظهر من خلال تأخر سيرورات الفهم والتفاهم في نفس الآن والحاجة للترجمة المكلفة من غير فائدة.

كما أن تعطيل اللغة العربية واستبعادها من الحياة العامة ،أي من الإدارة والقضاء والتجارة والإعلام وغيرها ،يتعطل معه جزء كبير من التفاعل النفسي الذي تحتاجه برامج التنمية إذ التنمية ليست عمليات ميكانيكية أو برامج قسرية نخضع لها الإنسان قصد تحقيق نمو مطرد أو ازدهار محسوب، وإنما هي قضية تفاعل ومشاركة وجدانية جماهيرية يساهم فيها اللسان العربي بقدر وافر في الدفع بكافة الأطراف وتشجيعهم على المضي والاستمرار في تطبيق هذه البرامج التنموية.

   إن ربط اللغة العربية بالتنمية البشرية له ما يبرره على مستوى توطين المعرفة واتخاذ ما يلزم لتمكين اللغة العربية من استرجاع وظيفيتها وجعلها لغة العلم والإدارة والتعليم والتسيير والاقتصاد، وشان التعامل باللغة العربية في هذه القطاعات الحيوية  داخليا على الأقل شأن التعامل بعملة موحدة في مجال التجارة، فكلما كانت العملة واحدة موحدة كانت المعاملات أكثر يسرا وأبعد عن التعقيدات وأنجع في الفائدة والتبادل والتفاهم.

وحاصل العلاقة بين اللغة العربية والتنمية يمكن أن يكون ذا بعدين نصوغهما في السؤالين التاليين:

الأول : كيف تخدم اللغة العربية باعتبار ها لسان الأمة مسارات التنمية؟

والثاني: كيف يدخل تطوير اللغة نفسها ضمن مشاريع التنمية؟

فيظهر من خلال المدخلين قيام نوع من التخادم بين اللسان والإنسان (أداةَ وغايةَ كل تنمية بشرية). وذلك لأن اللسان العربي يحتاج حتى يواكب متطلبات التنمية تطويرا لأساليب تدريسه وتوسيعا لوعائه بانفتاحه على ما جد في عالم المعرفة وتقنياتها. كما أن عملية التطوير هذه أو التجديد اللساني قصد إعداد اللغة العربية لمتطلبات الحياة المتغيرة مرتهن أيضا بنهوض الأمة وبضرورة تقوية الأواصر بين أقطارها المختلفة تحقيقا لاتحادها.

والحمد لله رب العالمين

              

[1] - الهوية كلمة تتمحور دلالاتها حول الذات والحقيقة والماهية والوحدة والاندماج والانتماء والتساوي والتشابه، وهي مع هذه المرادفات –على الرغم من بعض الفروق التي تقوم على اعتبارات متباينة- قادمة من عالم الفلسفة. وهي لغويا من قبيل المصدر الصناعي فقد تم توليدها من النسبة إلى"هو" الذي هو في اصطلاح الفلاسفة"الغيب" أو "الحقيقة المطلقة" أو "الله" وبعد الحقيقة المطلقة أصبحت تطلق على الحقيقة ، حقيقة الشيء، حقيقة الإنسان أو غيره. يراجع: محمد عابد الجابري: الموسوعة الفلسفية العربية، بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986، 2/821.

[2] - صلاح قانصوه: الهوية والتراث. ندوة شارك فيها عدد من الباحثين." دار الكلمة، بيروت، 1984"، ط1.‏

[3] - المصدر السابق، ص 95.‏

[4] - حسن حنفي:موقفنا الحضاري: من بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول –  ص 30

[5]   - للمزيد من المعلومات يراجع العمل المفيد للدكتور جلال أمين: خرافة التقدم والتأخر، العرب والحضارة الغربية في مستهل القرن الواحد والعشرين، دار الشروق، ط1، 2005. ص9.

[6] - يراجع: حسن حنفي: المشروع الحضاري الجديد، الماضي والحاضر والمستقبل، ضمن مجلة الوحدة، ع105، 1994، ص19.

[7] - يراجع: طه عبد الرحمن: روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص120.

[8] - طه عبد الرحمن: م.س. ص118.

[9] - جلال أمين: خرافة التقدم والتأخر، ، م.س. ص141 وما بعدها.

[10] - يراجع:ناهد عز الدين"الشباب العربي ورؤى المستقبل" ، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006، ص36.

[11] - فيصل الحفيان: العلاقة بين اللغة والهوية، ضمن اللغة والهوية وحوار الحضارات، جامعة القاهرة، برنامج حوار الحضارات، 2006، ص75.

[12] - يراجع: المسيري عبد الوهاب: اللغة والمجاز، بين التوحيد ووحدة الوجود، دار الشروق، 2002، ص130

[13] - يراجع: محمد الذاودي في كتابه عن اللغة باعتبارها أرقى الرموز الثقافية:

M.Daouadi,Toward Islamic Sociology of cultural Symbols(Kuala Lumpur:A.S.Nordeen1996)

وأيضا في مقالته: المنظور الإسلامي والرموز الثقافية كمفهوم متعدد الاستعمال في التخصصات المعرفية الحديثة،2004، ص59 ضمن المجلة التركية للدراسات الإسلامية .Islam Arastirmalari Dergisi

[14] - باتريك سميث. اليابان (رؤية جديدة). ترجمة سعد زهران. عالم المعرفة. ع 268. ص 176.

[15] - مسعود ظاهر. النهضة العربية والنهضة اليابانية. تشابه المقدمات واختلاف النتائج. عالم المعرفة. ع 252. ص 23.

[16] - المرزوقي أبو يعرب: آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب الريح ،دار الطليعة بيروت، ط1، 1999، ص71.

[17] - عن مفاهيم التنمية تراجع الندوة التي نظمها برنامج حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، تحت عنوان"الأمة وأزمة الثقافة والتنمية" تقديم عبد الحميد أبو سليمان دار السلام ط1، 2007.

[18] - محمد محمد داود: اللغة والسياسة في عالم ما بعد 11 سبتمبر، دار غريب القاهرة، 2003، ص57.