الأزمة المالية
ومستقبل أسعار النفط
د. أنس بن فيصل الحجي
أكاديمي وخبير في شؤون النفط
أسعار النفط سترتفع، ولكن قبل الخوض في الموضوع لابد من توضيح ما يلي: لم أدافع عن الرأسمالية في حياتي، ولم أدافع عنها في المقالات السابقة، كما ادعى البعض. وقناعة هؤلاء بأنني أدافع عن الرأسمالية يعود إلى جهلهم بحقيقة مهمة وهي أن الدفاع عن حرية الأسواق لا يعني بالضرورة الدفاع عن الرأسمالية. لقد دافعتُ عن حرية الأسواق لأنها مبدأ إسلامي أصيل، ولأنه يتناسب مع الفطرة البشرية، ولأن أضرار التدخل الحكومي لا تحصى. من ناحية أخرى، خلط بعض الكتاب والمعلقين بين عملية إنقاذ البنوك والنظرية الكينزية، مع أن الأولى لا علاقة لها بالثانية، وفشل عملية الإنقاذ أثبت صحة هذه الفكرة.
الكساد وأسعار النفط
ارتفعت أسعار النفط في السنوات الثلاث الماضية حتى قاربت 150 دولارا للبرميل بسبب عدم نمو الإنتاج بشكل يوائم النمو في الطلب، وكان من الواضح، حتى خلال تلك الفترة، أن أسعار النفط ستظل في مستوياتها المرتفعة لفترة من الزمن، إلا إذا ضرب الكساد الاقتصاد الأمريكي. في حالة الكساد ستنخفض الأسعار، ولكن كمية الانخفاض ستعتمد على ما إذا انتقلت عدوى الكساد إلى الصين أم لا. وكان سبب التنبؤ بالكساد فكرة مستقاة من تاريخ الولايات المتحدة، وهي أنه بالنظر إلى بيانات النمو الاقتصادي خلال 70 سنة الماضية، نجد أن الاقتصاد الأمريكي نما في فترة الحروب ثم ضربه الكساد في نهاية كل حرب. والفترة الوحيدة التي عانت فيها الولايات المتحدة من الكساد قبل انتهاء الحرب، هي حرب فيتنام التي طالت لعدة سنوات فحصل الكساد قبل نهاية الحرب. وتشير بيانات النمو الاقتصادي إلى أن الاقتصاد الأمريكي عانى من الكساد بعد كل فترة ارتفعت فيها أسعار النفط بشكل كبير. قبل الأزمة الحالية كانت أسعار النفط مرتفعة، في وقت تحارب فيه الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. بعبارة أخرى، اجتمع الاثنان، الحرب وارتفاع أسعار النفط. كان من الصعب توقع فترة حصول الكساد، ولكن البيانات تشير إلى أنه سيحصل عندما تسحب الولايات المتحدة أغلب جنودها من العراق، أو يبدأ الإنفاق الحكومي في الانخفاض. ما حصل هو أن الأزمة المالية عجلت بحدوث هذا الكساد، أو أننا في مرحلة الكساد الناتج عن الأزمة المالية، وهناك كساد آخر سيليه عندما تتوقف الحكومات الغربية عن ضخ الأموال في شرايين اقتصاداتها. باختصار، كل البيانات تشير إلى ضرورة بقاء أسعار النفط مرتفعة لولا احتمال الكساد.
أزمات عالمية والأسعار في حدود 60 دولارا؟
بقاء أسعار النفط حول 60 دولارا للبرميل رغم وجود أسوأ أزمة مالية شهدها العالم منذ الكساد الكبير في عام 1929، ورغم فترة الكساد في كافة القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة أمر محير, لسببين:
1. كانت أسعار النفط في هذا المستوى عندما كان النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في حدود 4 في المائة، وفي الصين في حدود 11 في المائة، والهند 7 في المائة، فكيف لها أن تكون في هذا المستوى ولدينا كساد في الولايات المتحدة وانخفاض، ليس في النمو الاقتصادي في الصين والهند فقط، بل في كثير من دول العالم؟
2. في الفترة التي كانت فيها أسعار النفط في هذا المستوى (عندما تجاوزت 50 دولارا لأول مرة، ثم وصلت إلى 60 ثم إلى 70)، لام عدد من وزراء "أوبك" المضاربين على رفع أسعار النفط، فكيف لنا أن نفسر الأسعار وهي في نفس المستوى الآن، في وسط أزمة مالية واقتصادية وغياب المضاربين؟
أزمة ضخمة وغياب للمضاربين، هل يعقل أن تبقى الأسعار في هذا المستوى الذي كانت عليه عندما كانت الظروف معاكسة تماماً؟ هذا يعني أحد أمرين. الأول أن الأسعار مازالت مرتفعة وأنها ستستمر في الانخفاض إلى مستويات متدنية، خاصة أن العلاقة التاريخية بين أسعار النفط والنمو الاقتصادي تشير إلى أن أسعار النفط يجب أن تنخفض إلى ما دون 25 دولارا للبرميل. أو أن أوضاع السوق العالمية ما زالت تشير إلى عدم مواءمة الإنتاج للطلب على النفط في المدى الطويل، الأمر الذي يعني أن الأسعار الحالية، وبناء على الوضع الاقتصادي المزري، هي أرضية صلبة لا يمكن أن تنزل الأسعار عنها، وأن أسعار النفط ستعاود الارتفاع مرة أخرى مع ظهور بوادر الانتعاش في الاقتصاد الأمريكي وغيره. وهنا لا بد من التركيز على نقطة مهمة، وهي أن أسعار النفط، وبالتالي عوائد دول الخليج، ومن ثم نموها الاقتصادي، مربوط بشكل شبه كامل بصحة اقتصادات الدول الصناعية. وبذلك فإن سرور البعض بما حدث للاقتصاد الأمريكي لن يطول إذا انخفضت أسعار النفط بشكل كبير، وبدأت الحكومات الخليجية باتخاذ إجراءات تقشفية تؤثر في المواطنين والمقيمين في هذه الدول. المشكلة أن لدى الدول الصناعية كل مقومات الانتعاش، ولكن انتعاش دول الخليج مرهون بأسعار النفط.
الأسعار سترتفع
إذا كانت مستويات 60 إلى 70 دولارا للبرميل هي فعلا أرضية لأسعار النفط في هذه الظروف، فإن هذا يعني أن الإمدادات لا تكفي لمواجهة الطلب في حالة الانتعاش وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، لذلك فإنه ليس هناك طريق للأسعار سوى الارتفاع، بحيث إنها تعود إلى مستويات 100 دولار بعد انتعاش اقتصادات الدول الصناعية والهند والصين. وما يعزز وجهة النظر هذه هو أن الانخفاض الحالي وأزمة المال الحالية لن يخفضا الإنتاج فقط، بل يؤخرا الاستثمار في كثير من المشاريع النفطية حول العالم، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض المعروض مقارنة بالطلب. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، انخفاض أسعار النفط والأزمة المالية أثرا أيضا في مصادر الطاقة الأخرى، التي ستتأجل مشاريعها أيضاً، الأمر الذي يعني زيادة الحاجة إلى النفط في المستقبل. وتشير البيانات إلى أن الطلب على البنزين في الولايات المتحدة بدأ أخيرا في الارتفاع مع انخفاض أسعار البنزين، رغم الأزمتين المالية والاقتصادية، الأمر الذي يعني إمكانية استرجاع بعض الطلب مع الانتعاش الاقتصادي وزيادة الدخول.
خلاصة القول، أسعار النفط سترتفع حتى لو لم تتدخل "أوبك" وتخفض الإنتاج. "وإن غداً لناظره قريب"!