الرقص على المحيط
الرقص على المحيط
نسب أديب حسين /فلسطين
صبرًا يا عزيزتي لا تتثاقلي في التنقل بين محطات حياتي.. واحتملي المنعطفات، اجلسي بقربي حادثيني.. ليس لي سواك في سفري الطويل وانتِ مرافقتي الوحيدة بين القرية والمدينة.. حادثيني ذاكرتي.. فلن تجدي من يبادلك الحديث، بعد سفري الأخير..
صعدت اتخذت المقعد في الصف الاول من الحافلة خلف السائق، وكلما فعلت كنت أتعرف على مسافرٍ جديد وانقطعت عن الحديث مع رفيقتي الدائمة. في ذاك اليوم تعرفت على فتاة من المدينة المجاورة لقريتي، كانت قد بادرتني بالحديث عن طول السفر الى القدس، وكانتا اثنتيهما تلك الجالسة بقربي والاخرى الجالسة بداخلي قد تنازعتا على شد أطراف الحديث.
شدّتني ذاكرتي الى كل من التقيت في بلدتي ولن القى في مدينة غربتي. سألتني الفتاة عن قريتي وأبدت حبها للغة العربية، ورغبتها في اتقانها، خطت اسمي في الهواء وسألتني ان كانت قد كتبته بصورة صحيحة اذ أنها تعلمت اللغة العربية في الصف التاسع بمستوى مشابه لما تعلمته باللغة العبرية في الصف الثاني. قالت:" اللغة العربية لغة جميلة ويجب أن نتعلمها ونتقنها فنحن شعبين نحيى في ذات الارض ويجب أن نتعايش ونحيى بسلام معًا". نظرت يسارًا فرأيت الجدار الفاصل يمتد قبالتي وشعرت به يشق الأرض ليمتد بيني وبينها رغم أنها كانت قريبة جدا.
صاحت الذاكرة "عن أي تعايش تتحادثان والعربي متهم بعروبته في هذه الدولة، هل تذكرين ذلك الاحتفال في مركز المدينة"، ويومها حضرنا احتفالا أنا وأصدقائي في مركز المدينة وبين الجماهير الغفيرة التي تواجدت بالمكان، لم يتجه الجنود الا نحونا لطلب هوياتنا، تسائلنا يومها لماذا نحن بين كل هذه الجموع، فكان الرد "كفى أرونا هوياتكم" وبعد القاء نظرة في هوية كل مناّ تركونا، فغادرنا اذ كان واضحًا أنه لا يحق لنا أن نحضر الاحتفال بسلام مثل الاخرين.
عادت الفتاة لتسيطر على دورها في الحديث متحدثة عن البراعة التي من الممكن للاعلام أن يستخدمها في ايصال الفكرة التي يريد بشكل غير مباشر وعندها من الممكن أن يكون تأثيره أكبر، وعرضت مثالا على ذلك مغني يهودي صاعد يُدعى جاكو كان قد حصل على لقب "كوخاب نولاد"، قد رفض الخدمة العسكرية وأثار هذا الرأي العام اليهودي، قالت أنه تم عرض برنامج على القناة الثانية يتحدث عن جاكو وطفولته ويُظهر كم هو قراره سيء في عدم تقديم الخدمة العسكرية ليرضي المشاهد، وفجأة في النهاية ينعكس ليقول أن جاكو بطبيعته المرهفة وحبه للموسيقى لا يحتمل فكرة حمل السلاح والقتال في الجيش، وبذا كان البرنامج لصالحه.
وجدت فيها ميولا يسارية ، لكن تساءلت الذاكرة ماذا تفيدنا هي والاشخاص الذين يحملون ميولا مثلها، لا يزيدون الا على الاعتراض على ما يحدث ولم نرَ منذ سنين وعقود أي توقف لسيل الدم والدمع ومكائد العدوان، والاستيطان، لم يزيدوا هم وشيوخ العرب الا على الامتعاض والاستنكار حول محيط دماء وطننا النازف، وكلما ازدادت البُقعة ازداد ابتعادهم وازدادت حلقة المحتجين أيضًا..
فاليسار اليوم في أصعب وأضعف حالاته ومع السنين يزداد ضعفًا في تأثيره على الحكومة، وهناك رأي يقول أن اليسار قد تعرض لعدة صدمات أدت أو زادت بطريقة أو بأخرى الى صدمة اليساريين مثل العمليات التفجيرية التي حصلت في اسرائيل وراح مدنيين ضحية لها، وكذلك صعود حماس الى الحكم زاد كلا الطرفين تطرفًا فبات الرأي العام الاسرائيلي يتجه أكثر نحو اليمين، وراحت الذاكرة تتلو بعض اسماء اليساريين مثل أوري افنري،ميرون بينبشتي ومعارضتهم للسياسة الاسرائيلية. لكن المعارضة اليسارية بالمجمل تبقى في الاطار النظري. وعندما اخرجت كتاب "الامل المار" لعضو حركة تعايش ديفيد شولمان من حقيببتي لاتم قراءته ابتسمتُ اذ وجدتني امام محادثة للكاتب مع شاب فلسطيني تتطابق مع ما واردني من افكار، اذ حدّثه الشاب عن أمر لمصادرة اراض ٍ شاسعة تعود ملكيتها له ولعائلته وذلك لاقامة الجدار الفاصل وايضًا لحماية مستوطنة سوسيا القريبة منهم، يقول له ديفيد:" مع ذلك لعلنا ننجح في انقاذ معظم المساحات التي تم مصادرتها. ولا بدّ أن يحل السلام في احد الايام. معظم الاسرائيليين يريدون السلام" يسأله الشاب :" ما معنى قولك هذا أنهم يريدون السلام؟.. إن هذا لا يعني شيئًا، اذا كنتم غير مستعدين للعمل على تحقيق السلام. جميعهم يريدون السلام نظريًا، لكن أين مئات آلاف الاسرائيليين الذين كان من المفروض منهم ان يخرجوا الى الشوارع ليطالبوا بوضع حد لهذه الانتهاكات اللانهائية؟ لماذا يقبعون صامتين في بيوتهم؟"
وصلنا القدس وعند المحطة المركزية كان علينا أن نُفتش ونفترق، شاهدت رجل شرطة وجندي قريبًا مني وسرعان ما حذرتني الذاكرة ان علي اخفاء ابتسامتي اذ كنت كلما مررت هناك ويظهر في وجهي معالم الفرح يوقفونني حالا لفحص هويتي، لينقلب فرحي عبوسًا، وكما كل المتناقضات الكثيرة هنا، عندما أمر بهم حزينة يتركونني لأمر بسلام، كانت صديقتي تقول لي في مثل هذا الموقف " ما بكفي عربي وكمان مبسوط..!"، أو كما حدثني شابٌ مقدسي عن حفلات التفتيش على المعابر ، اذ اختاره ذات مرة جندي من بين مجموعة أشخاص وقام بفحص هويته وتفتيشه جيدًا وعندما لم يجد فيه ما يثير الاشتباه نظر اليه مستغربًا سائلا:" اذًا لماذا تضحك؟"
مررتُ بسلام.. سرت في الطريق ومع اقترابي من أول لافته رأيت الملصقة "נ נח נחמ נחמן מאומן" قد ألصقت على الكتابة باللغة العربية، كما هي عادة بعض المتطرفين في محو الايضاحات بهذه اللغة عن اللافتات، استدرت لأنظر الى رفيقة السفر، كانت قد ابتعدت كثيرًا، وددتُ لو أناديها لتأتي وترى.. هل كانت ستخلع المُلصقة وتقول "اللغة العربية لغة جميلة وتستحق أن تُقرأ.." ؟؟!!