هل يمكن أن تصاب البنوك الإسلامية بأزمة مالية مماثلة؟

هل يمكن أن تصاب البنوك الإسلامية بأزمة مالية مماثلة؟

د. أنس بن فيصل الحجي

أكاديمي وخبير في شؤون النفط

[email protected]

تبين في المقالات الماضية أن سبب الأزمة المالية الحالية هو التدخل الحكومي الذي أجبر البنوك على إقراض من لا يمكن إقراضه، وضمان الحكومة لخسائر هذه البنوك. كما تبين أيضا أن ما زاد من حدة الأزمة هو القانون الذي يجبر الشركات على تسعير أصولها حسب سعر السوق في تقاريرها المالية ربع السنوية، الأمر الذي جعل الشركات تعلن عن خسائر ضخمة، ولكن أغلبها خسائر على الورق فقط، الأمر الذي جعل البعض يتساءل: هل تبخرت الأموال، أم أن هناك مؤامرة جعلت الأموال تنتقل من مالك إلى آخر؟ هذا القانون جعل الأموال تتبخر، ولكنها ستعود متى ما ارتفعت أسعار الأصول.

وتبين في المقال الماضي أنه يجب على كل من نادى بتطبيق مبادئ التمويل الإسلامي أن يكون بحجم الرسالة وأن يكون مسلما حقا بكل تصرفاته، عندها يمكن للآخرين أن يقتنعوا بهذه الأفكار بسهولة، ولن يقتنع غير المسلمين بهذه الأفكار وهم يرون فينا سوء الأخلاق والعشوائية وسوء المعاملة والعنصرية. وكان بعض الإخوة قد أشاروا في مقالاتهم وتعليقاتهم إلى أنه رغم الإيمان أن الاقتصاد الإسلامي هو الحل، إلا أنه لا توجد آليات للعمل بها وعلى المختصين تطوير هذه الآليات بما في ذلك السياسات المالية والنقدية للحكومات، التي لا تطبق حاليا في أي دولة. هذه الآليات والسياسات كانت شغلنا الشاغل عندما كنا طلابا ندرس الاقتصاد الإسلامي في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لأن أساتذتنا وشيوخنا كانوا يقولون لنا إن هذه الآليات والسياسات ضرورية، ونأمل أن نخرّج جيلا يستطيع بناء هذه الآليات والسياسات. ما حصل بعد ذلك مَنَع تطوير الاقتصاد الإسلامي، حيث تم قصره على أمور التمويل، وأمور التمويل لا تمثل إلا جزءا بسيطا من الاقتصاد الإسلامي. وإذا كانت هناك مؤامرة ضد المسلمين، فإنها تكمن في قصر الاقتصاد الإسلامي على أمور التمويل، وفي فمي ماء، وهل ينطق من في فيه ماء!

في ظل هذه الأزمة تنبأ البعض بسقوط الرأسمالية، وبسقوط أمريكا، وقام كثيرون بلوم الأزمة على التعامل بالربا، مع أن الحقيقة هي أن المشكلة تتعلق بالقدرة على الدفع. وهنا لا بد من الإشارة إلى ما أعلنه مؤشر ستاندرد آند بورز في الأسبوع الماضي في تصريح رسمي ذُكر فيه أن خسائر الأسهم المصنفة على أنها متفقة مع الشريعة الإسلامية بلغت 5.6 تريليون دولار من قيمتها في الربع الثالث من هذا العام! هل يمكن لمن يقولون إن الربا هو سبب الأزمة أن يوضحوا لنا سبب هذه الخسائر في أسهم وأصول مصنفة على أنها "متفقة مع الشريعة"؟

ويتضح من المقالات والآراء المختلفة أن هناك خلطاً بين السبب والنتيجة أو السبب والظاهرة. اقتراض الفقراء كان نتيجة تدخل الحكومة، لذلك فإن التدخل الحكومي هو السبب، وكل ما حصل بعد ذلك هو نتيجة له. ضمان الحكومة لخسائر البنوك هو السبب في التوسع في الإقراض وظهور السندات والتأمين عليها. لولا هذا الضمان لما توسعت البنوك في الإقراض، ولما تم التأمين عليها بهذه السهولة. ضمان الحكومة سبب، ما حصل بعد ذلك هو نتيجة.

ويرى بعض من انتقد فكرة دور التدخل الحكومي في المشكلة أن الأزمة حدثت بسبب التنافس الشديد بين البنوك في ظل نظام رأسمالي جشع، الأمر الذي نتج عنه إقراض من لا يستطيع الوفاء، أو ما يطلق عليهم "أصحاب الملاءات الضعيفة". إذا كان هذا صحيحا، فإن دعوتهم لتبنّي طرق التمويل الإسلامي ستؤدي إلى الكارثة نفسها، وستؤدي إلى إفلاس البنوك الإسلامية! فهذه البنوك هدفها الربح، وتوسعها يعني تنافسها، وتنافسها سيؤدي إلى تمويل أصحاب الملاءات الضعيفة.

إن عدم وجود أزمة مالية مماثلة في البنوك الإسلامية، وأؤكد هنا على كلمة "مماثلة"، لا يعود إلى "تطبيق الشريعة"، إنما إلى الشروط الصارمة التي يتم بناء عليها تمويل البيوت والعقارات وغيرها في البنوك الإسلامية، ولكن إذا تم التساهل في هذه الشروط، إما بسبب المنافسة، كما أشار بعض الكتاب، وإما بسبب الضغط الحكومي كما حصل في أمريكا، فإنه يمكن لهذه البنوك أن تصاب بالإفلاس إذا تباطأ النمو الاقتصادي، وارتفعت معدلات البطالة، وعجز الناس عن الدفع. في هذه الحالة لن يحصل البنك على الدفعات الشهرية، تماما كما حصل في أمريكا، وسيطرد صاحب البيت من بيته، تماما كما حصل في أمريكا، وستنخفض أسعار العقارات، تماما كما حصل في أمريكا، وستنخفض السيولة إلى مستويات خطيرة، تماما كما حصل في أمريكا، وسيفلس البنك، تماما كما حصل في أمريكا، إلا إذا تدخلت الحكومة وضمنت البنك، تماما كما حصل في أمريكا. وإذا باع البنك العقار لمستثمرين على شكل صكوك، فإن إفلاس صاحب البيت سيؤدي إلى خسارة هؤلاء المستثمرين، تماما كما خسر المستثمرون الأمريكيون في السندات المدعومة بعقارات.

مثال توضيحي بسيط

إذا اشترى عبد الله بيتا من بنك "الصلاح والتقوى" بمبلغ 600 ألف ريال، دفع منها 100 ألف ريال واتفق مع البنك على تقسيط الباقي على مدى 20 سنة وفقا للمبادئ الإسلامية التي تنظم هذا النوع من العقود (حسب فهم الهيئة الشرعية للبنك). هذا يعني أن عليه أن يدفع 2083 ريالا شهريا لمدة 20 سنة. قام البنك بتحويل ملكيته في البيت إلى صكوك حسب الشريعة الإسلامية وباع حصته في البيت من خلال هذه الصكوك إلى مستثمرين. الآن عبد الله يملك سدس البيت 100 من 600، بينما يملك المستثمرون الباقي 500 من 600. مع مرور الزمن تتزايد حصة عبد الله وتتناقص حصة المستثمرين. تصبح ملكية البيت كاملة لعبد الله مع نهاية العام ال 20.

قد يتساءل القارئ: كيف يحصل المستثمرون على عائد استثماراتهم من شراء الصكوك الإسلامية؟ العائد في هذه الحالة هو الفرق بين سعر البيت أو العقار في السوق لو اشتراه عبد الله نقدا، والسعر الذي باع فيه البنك لعبد الله بالتقسيط. صحيح أن عبد الله سيدفع 600 ألف ثمنا للبيت، ولكن البنك اشتراه ب 400 ألف ريال فقط وباعه لعبد الله ب 600 ألف. هذا الفرق هو أرباح المستثمرين، كما أنه يتضمن بعض التكاليف الإدارية المتعلقة بالبيع والشراء.

إذا ساءت الأحوال الاقتصادية وأفلس عبد الله، وأفلس معه أناس كثيرون، فإن هذا يؤدي إلى ثلاثة أمور: خسارة عبد الله بيته، خسارة البنوك ومالكي الصكوك بسبب عدم استمرار عبد الله وغيره بدفع المدفوعات الشهرية، وخسائر أخرى تتعلق بانخفاض قيمة العقارات، فإذا انخفضت قيمة عقار عبد الله إلى 200 ألف ريال، فإن عبد الله يخسر جزءا كبيرا من ماله بما يتناسب مع حصته في البيت، ويحقق البنك أو أصحاب الصكوك خسائر كبيرة تتناسب مع حصتهم.

لن تكون هناك أي مشكلات إذا استمر عبد الله بالدفع، تماما كما حصل في أمريكا مع الذين استمروا بالدفع.

وإذا كان المستثمرون شركات بدلا من أفراد، وكان هناك قانون يجبر الشركات على تسعير أصولها حسب سعر السوق في تقاريرها ربع السنوية، فإن هذه الشركات ستحقق خسائر كبيرة على الورق، تماما كما حصل في أمريكا. في هذه الحالة تقوم الشركة بتسجيل قيمة البيت بسعر السوق 200 ألف ريال، وليس بسعر الشراء 400 ألف، أو بسعر البيع 600 ألف. قانون كهذا لا علاقة له فيما إذا كان النظام رأسماليا أو اشتراكيا، لأن هدفه تنظيم الدفاتر المحاسبية بطريقة تمنع التلاعب وتخفف من الفساد الإداري.

الخلاصة

الأزمة سببها التدخل الحكومي ومرتبطة ب "القدرة على الدفع" ولا علاقة لها فيما إذا كان العقد ربويا أم لا. إذا توسعت البنوك الإسلامية في عمليات التمويل وبدأت بتمويل أصحاب "الملاءات الضعيفة"، فإنه قد يصيبها ما أصاب البنوك الربوية.

إن على الذين يعتبرون أن السبب هو الربا عليهم أن يتذكروا أن الاقتصاد الإسلامي كليٌّ لا يتجزأ، وإذا كان السبب هو وجود "أصحاب الملاءات الضعيفة" بيننا، أو الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، الذين يطمحون كغيرهم من البشر إلى الحصول على بيت، فإن عليهم أن يسألوا "هل ستوجد شريحة كبيرة من هؤلاء في مجتمع يطبق الاقتصاد الإسلامي كما أراد رب العباد؟" لماذا يتناسون لب المشكلة ويتشدقون "بالتمويل الإسلامي" أمام الأمريكيين والأوروبيين؟ هل يعتقدون أن تبني أمريكا الاقتصاد الإسلامي سيجعلها تجبرنا على تبنيه؟ ربما!