قراءة في غزوة تبوك

(16)

بئر بني سعد

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

قال الواقدي : حدّثني يونس بن محمد بن يعقوب بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال :

قدم نفر من بني سعد بن هُذيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك ، فقالوا :

يا رسول الله إنا قدمنا عليك ، وتركنا أهلنا على بئر لنا قليلٍ ماؤها . وهذا القيظ ، ونحن نخاف إن تفرقنا أن نُقتطَع لأن الإسلام لم يفشُ حولنا بعد ، فادعُ الله لنا في بئرنا . وإن روينا فلا قوم أعزّ منا ، لا يعبر بنا أحد مخالف لديننا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابغوني حُصَيّات .

فتناولت ثلاث حصيات ، فدفعتهنّ إليه ، ففركهنّ بيده ، ثم قال : اذهبوا بهذه الحصيّات إلى بئركم ، فاطرحوها واحدة واحدة ، وسموا بالله .

فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعلوا ذلك ، فجاشت بالرواء ، ونَفَوا مَن قاربهم من المشركين ووطئوهم ، .

فما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطأوا من حولهم ، ودانوا بالإسلام

إضاءة :

1- توافد المسلمين على النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك ، وعلى الطريق إليها ، ومنها يعلمنا أموراً عديدة منها : أولاً أن في الحركة بركة ، وأن الداعية الواعي هو الذي يأتي الناس قبل أن يأتوه ، ويقصد من لا يستطيع المجيء إليه . وثانياً أنه يتصل بهم في ديارهم ، فيتعرف مشاكلهم ، ويعينهم بإذن الله على حلها . وثالثاً أنه يعلمهم أمور دينهم دون واسطة ويرتبطون به رباط الثقة والمحبة والولاء .

2- التئام شمل الجماعة قوة لها ودعم لمسيرتها ، فبنو سعد ماؤهم قليل ، وبعضهم مضطر للهجرة إلى مكان آخر سعياً إلى الماء والكلأ ، وهذا التفرق يضعف قوتهم ويُذهب مهابتهم ، وبقاؤهم معاً يزرع المهابة لهم في قلوب جيرانهم . فكيف إذا كانوا مسلمين يحيط بهم  بحر من المشركين ؟.

3- هذه الحصيات التي فركها النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة كانت الرسالة المنتظرة من الله تعالى لبئر بني سعد ليتفجر ينابيعه ، ويكثر ماؤه . وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى ومعجزة أجراها على يد نبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم ليثبّت قلوب المؤمنين الجدد على الإيمان بهذا الدين العظيم .

4- واختيار أحدهم هذه الحصيّات بيان للجميع أن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويجعل من الجماد حياة طيبة ،" وإن منها لما يتفجر فيخرج منه الماء " "  ألم يتفجر الماء بضربة من عصى موسى عليه السلام اثني عشر ينبوعاً للعشائر الاثنتي عشرة كي يستقوا دون زحام أو شجار ؟ " وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً ، قد علم كل أناس مشربهم " . 

5- ومن كان صادقاً يسر الله أمره وأعانه في هدفه ، فبنو سعد حين كثر ماؤهم تجمعوا حوله ، وبسطوا سلطانهم على من حولهم ، ودعَوا إلى الله ، فانتشر الإسلام حولهم ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً .

(17)

حث الرسول على النفقة وشأن عثمان في ذلك

قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا (الأجر عند لله )، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها .

قال ابن هشام : حدثني من أثق به أن عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ارض عن عثمان ، فإني عنه راض "

شأن البكائين

قال ابن إسحاق : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاءون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ، وعلبة بن زيد ، أخو بني حارثة وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار وعمرو بن حمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن المغفل المزني - وبعض الناس يقول بل هو عبد الله بن عمرو المزني - وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعرباض بن سارية الفزاري . فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة فقال لا أجد ما أحملكم عليه ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.

قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقى أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال ما يبكيكما ؟ قالا : جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه ورودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

إضاءة :

1-تحتاج المعركة الاستعداد وتهيئة الأمور قدر المستطاع " وأعدوا له ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ، الله يعلمهم .. " والاستعداد يحتوي الوجوه كلها من جنود ومال وأسلحة وعتاد ومراكب وماء وطعام ..

2-" من جهز غازياً فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" أطلق النبي الكريم هذه الصيحة فسارع المسلمون يقدمون ما استطاعوا للجهاد في سبيل الله ، حتى كان أحدهم يأتي بمل كفين من التمر ، ونعى القرآن على المنافقين الذين لمزوا المتطوعين بالقليل " الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم ، سخر الله منهم ، ولهم عذاب أليم . "

3-واحتمل الأغنياء كثيراً من الفقراء المجاهدين الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجهزهم للقتال ، فهم  فقراء ، فردهم الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء حين لم يجد ما يحملهم عليه ، أنْ لا يجدوا ما ينفقون ، فبكوا بكاء مراً . فلما احتملهم الأغنياء مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الحامل والمحمول ، لأنهم في الجهاد سواء .

4-أما الكريم الحيي عثمان رضي الله عنه فقد كان الفارس المجلي في هذا المضمار حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم " وقلت فيه شعراً هذا بعضه :

وجهّـز  غـزوة الإعسار جوداً      لوجـه  الله يرجـوه المثـابـة

وكـان المصطفى يثـني عليـه       لنِعـْمَ الفضـلُ في يوم الإنابـة

5-       أما ثواب من حبسهم العذر فهو كبير لأن نيتهم كانت خالصة لله ورغبوا في الجهاد فلم يستطيعوا . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة تبوك : إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالمدينة ؟ قال " نعم حبسهم العذر " وقال :"  إنماما

( 18)

كعب بن مالك

تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من السنة التاسعة للهجرة من شهر رجب فقال:

لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك.. تخلفت عنها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا جميعاً للخروج معه.

غير أني قد تخلفت كذلك في غزوة بدر أول قتال بين المسلمين والكافرين، ولم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ممن تخلف عنها، فقد كان يريد عير قريش القادمة من بلاد الشام، فخرج ومن كان معه من أصحابه، لا يريدون قتالاً، لكن الله تعالى قدره لأمر يريده سبحانه، فجمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ونصرهم عليهم، فكان ذلك وسام فخر لمن حضرها، فكان يقال له: البدري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر في كل مناسبة مادحاً البدريين قائلاً:

"كأن الله اطلع عليهم فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".

ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، فكنت من أوائل الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا.. وأن نكون دعاة إليه سبحانه، وانطلقت الدعوة الوليدة إلى المدينة على أيدينا، فكنا لا نعدل بهذه البيعة مشهداً آخر، وما أُحِبُّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكَرَ في الناس منها.

    أما قصة تخلفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقد كانت درساً بليغاً لي ولغيري ممن عقلها. فقد كنت إذ ذاك غنياً موسراً، صحيح البنية قادراً على تجهيز نفسي لهذه الغزوة التي ندبَنا رسول الله إليها دون عنَتٍ أو تكلف، بل أستطيع تجهيز عدد ممّن عذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفقرهم، أو ضعف ذَوات أيديهم.م.

1- أن المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جداً.

2-وأن الطريق مفاوز وصحارى، يجب الاستعداد لها أتم الاستعداد.

3-وأن العدو قوي عُدَّةً وعدداً، فهم الروم أكبر دولة،وأشرس عدو.

4-وأنه صلى الله عليه وسلم يريد تجنيد أوفى عدد من المسلمين، فأرسل إلى القبائل كلها يأمرهم أن يشتركوا في هذه الغزوة.

5-وأنه يريد أن يثأر للمسلمين في غزوة مؤتة من عدوهم الذي فاق عدده المسلمين عشرات المرات.

6-وأنه مصمم على إثبات وجود هذه الدولة الناشئة في جزيرة العرب، وعلى الروم أن يفكروا ألف مرَّة قبل أن يهاجموها.

وأجاب المسلمون نبيَّهم، فوفدوا إلى مدينته صلى الله عليه وسلم، فكانت تَعُج بهم، بعضهم حمل معه جهازه، ومنهم مَنْ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهِّزَهُ، ودعا رسول الله المسلمين إلى البذل والعطاء، فالأمر يحتاج إلى ذلك، وبَذل المسلمون، فهذا الصديق رضي الله عنه يضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ماله، وهذا عمر رضي الله عنه يقدم نصف ما يملك، وهذا ذو النورين عثمان رضي الله عنه يجهز الحملة كلها، فقدّم ألف بعير محمَلٍ بالزاد حتى دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم له بالخير، وبشره بالجنة فقال: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".;.

    ولم يبخل الصادقون منهم بما يستطيعون، وهل يمتنع المسلمون عن اكتساب فرص الفوز برضا ربهم جلَّ شأنه ونبيهم الكريم،؟! إنها نفحاتٌ مَنْ تعرَّض إليها أفلح ونجا.

كان الصيف حاراً، والسفر ذا مشقةٍ، ونفسي تميل للبقاء، فقد أينع الثمر وطاب، وشدّتني ظلال الأشجار وبردُها إلى الأرض، فأنا أتأرجح بين الامتثال إلى دعوة الجهاد تحت راية الرسول المجاهد، وبين التثاقل إلى الدعة وخفض العيش، ورخاء الحياة، والبونُ شاسع بين هذه وتلك، فكنت أخرج أحاول تجهيز نفسي ، فأعود متثاقلاً لم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، ولم أزل على هذه الحال من التردد والتباطؤ حتى استمر الناس بالجد، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً.. الرغبة في صحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار تشدني ، فأغدو لأجهز نفسي وأعد راحلتي وزادي، فأعود وقد اجتمع عليَّ شيطاني وحبٌّ الأرض والمال والنساء والأولاد، فأراني اثاقلت إليها والتصقت بها حتى أسرعَ ركب الجهاد وتسابق، فخَلتِ المدينة منهم، ثم ابتعدوا عنها وتفارطوا.

ما أشد وحشة المدينة مذ فارقها ضوءها، وما أشدَّ كآبتي فيها حيث خلا منها الحبيب والأنيس... يا ويحي! أهذه المدينة التي أهواها ؟ أراها باهتة!! أهذه المرابع التي ملأت قلبي فأحببتها ، وجاهدت عنها في أُحد والخندق؟ غاب عنها النور، ابتعدت عنه مصابيح الهداية، غادرها المسلمون بقيادة هاديهم إلى مهمة عظيمة، يا ويحي!! ما لي أنظر في أرجائها فلا أرى فيها إلا المنافقين يرتعون ويمرحون.. أأنا منهم؟! رحماك يا رب.. هؤلاء بعض الضعفاء من المسلمين جالسين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعفهم... ولست منهم، فأنا صحيح الجسم معافى.. ما الذي أخرني عن حبيبي وقرَّةِ عيني.. رحماك يا رب، وهؤلاء بعض المسلمين الفقراء جاءوا إلى رسول الله يسألونه أن يحملهم معه للجهاد فيعتذر حين لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولّون باكين، وأعينهم تفيض من الدمع أنْ لم يجدوا ما يبلغون به تبوك.. وأنا غني ميسور.. رحماك يا رب!! أي معصية حلت بي ، وأيُّ فتنة لزمتني؟!

أدور في أنحاء المدينة كاللديغ  لا يقرُّ لي قرار، ثم أعود إلى بيتي وبستاني وزرعي وظلي وأهلي..!!.. بئس ما صنعتُ.. رحماك يا رب رحماك يا رب....

ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: "ما فعل كعب بن مالك؟" واخجتلاه منك يا سيدي يا رسول الله! واخلجتي منك يا سيد المجاهدين وبطل المحاربين، قد خاب ظنك بكعب هذا.. ليت كعباً لم تلده أمه..

رحمك الله يا أخي معاذ، وأجزل لك المثوبة، هكذا تكون الأخوَّةُ.. جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً.

ويسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبس ببنت شفة، فلعله قصد من سؤاله أنه على علم بمن تبعه، ومن تخلّف عنه، وأن الفرق كبير بين من استجاب ولبى، ومن تخلّف وتكاسل.. نعم إن الفرق كبير والبَوْنَ واسع، وينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه، فيرى في قلب الصحراء المترامية الأطراف مِن بين السراب المتلألى هيولى تتحرك باتجاه المسلمين، سرعان ما يظهر رجل يخب السير نحوهم، يلبس البياض... ويبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد عرفه، إنه الصحابي الجليل أبو خيثمة الذي لم يستطع أن يقدّم لجيش المسلمين سوى صاع تمر، فلمزه المنافقون وضحكوا منه، وقالوا: إن الله غني عن صاع هذا، ونسى هؤلاء الطاعنون العابثون أن الأعمال بالنيات، وأنّ درهماً سبق ألف درهم.. لم يستطع الرجل أن يلحق بالمسلمين أوّل مسيرهم، فلحق بهم، بَعْدُ مسرعاً وسرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعبّر عن سروره حين قال: "كن أبا خيثمة" فكان أبا خيثمة، وتمنى كعب لو فعل مثل ما فعل أبو خيثمة، ولكن سبق السيف العذل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر جيش الروم ليعلمه كيف يكون الجهاد والقتال، وكيف يكون الصبر على المبدأ والدفاع عنه، لكنَّ الروم الذين عجبوا لصمود ثلاثة آلاف مسلم في غزوة مؤته أمام مئة ألف منهم، هابوا وهم مئتا ألف أن يثبتوا أمام ثلاثين ألف مسلم، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم –بطل الأبطال- ورأس المجاهدين فانسحبوا إلى الشمال مضحين بما كان لهم من مهابة وجبروت،  راضين من الغنيمة بالإياب، لقد نصر الله نبيه بالرعب مسيرة شهر، فكيف وهو وجيشه على تخوم بلاد الشام؟!.

    قال كعب: فلما بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلاً من تبوك، اشتد حزني، سوف أقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني سبب تخلفي عنه، فماذا أقول له؟ أأكذبه متعللاً بما ليس من الحقيقة بمكان؟ وهل يليق بمن بايع رسول الله أن يكذب؟ حاشا وكلا، بمَ أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي.. وأنّى للباطل أن يكون ردءاً؟ إنه سرعان ما يزول حين يسطع ضياء الحقِّ، ويضمحلّ حين يقبل العذر ولو كان صاحبه كاذباً، لكنني أخاف أن لا يرى فيَّ كعباً الذي كان يعرفه، فأسقط في ميزانه، وقد خاب وخسر من زلّت مكانته عند الصادق الأمين.. فلمّا قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلَّ قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيء أبداً، فعزمت على الصدق معه، وإذا كان الكذب ينجي –أحياناً- فالصدق أنجى.. يا ربّ؛ هب لي لسان الصدقِ، ورضِّ عني نبيك وحبيبك..

وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين سنة المجيء من السفر، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون كعادتهم كاذبين، ليرضى عنهم رسول الله، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتَهُم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فليس من عمل الداعية أن يبحث وينقِّب عما في نفوس الناس.. وجئت أمشي إليه صلى الله عليه وسلم وقلبي يخفق ونَفَسي يتردد.. كيف يفعل حين تقع عيناه عليَّ.. لا بد أن آتيه، إنه قَدَري وأحْبِبْ به من قَدَرٍ سام عليٍّ سامقٍ صلى الله عليه وسلم، فلما سلمت عليه، تبسَّمَ تبسُّم المغضب، تبسُّم الذي يعرف معادن الرجال، فيسألهم ليحفظ لهم ماء وجههم، ثم قال: تعال... بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هكذا كنت أقول في نفسي.. فقال لي: "ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك واشتريت راحلتك"؟;؟

إن الإنسان العادي ليعرف من محدثه الصدقَ، وتهويمَ الكذب، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ العلا بكماله، وكرمت جميع خصاله.. لقد قال صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك" وقمتُ، وسار رجال من بني سلمة قومي ، فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبَكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك،.. إنهم لم يريدوني أن أكذب.. إنما أن أختصر الطريق إلى السلامة كما فعل الآخرون حين أبدَوُا الأعذار، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأوا أني حملت نفسي ما لا لزوم له، فألحوا عليَّ يؤنبونني على ذلك، ويكثرونه، حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكذّب نفسي وأدعي ما ادعاه المتخلفون الآخرون.

لكن الله ثبتني إذ قلت لهم: هل قال غيري مثل ما قلتُ، فأجابهم رسول الله مثل ما أجابني؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قل من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العَمْريُّ، وهلال بن أمية الواقفيُّ.. قلت: إنَّ لي بهما أسوة حسنة، فهما رجلان صالحان قد شهدا بدراً، ولن أكون إلا ثالثهما.. ومضيت حين ذكروهما لي.

إن الذهب يشتد لمعانه حين تلمسه النار فتُذهب عنه  خبثه ويزداد تألقاً وحسناً وهكذا كنّا –أيها الثلاثة- فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمنا أحد، فاجتنَبنَا الناس، وتغيّروا لنا، كأنهم لا يعرفوننا، حتى تنكّرَت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيتيهما يبكيان، ويصليان، ويستغفران، يسألان الله التوبة، وانقطعا عن الناس إذ كانا عجوزين هدَّتهما المقاطعةُ، وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد – إن المجتمع المسلم المتماسك يلتزم بأوامر القيادة وتعليماتها، ولا يدع للمخطئ مجالاً ينفذ منه، كي لا يتمادى في خطئه –وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عنّي.

فالقائد قدوة، يلتزم بما يصدره من أوامر، فيكون لها من قوّة الأداء وحسن الالتزام عند العامة الأثرُ الإيجابي الطيبُ. وأنا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نهى عن كلامنا إلا ليقضي الله تعالى فينا... فيا رب هيئ لنا من أمرنا رشداً.....

 لا إله إلا الله وحده لا شريك له، آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً.ً.

فجاءت امرأة هلال بن أمية رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا، ولكن لا يقربنّك". قالت: إنه والله ما به من حركةٍ إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا استأذنه فيها وأنا رجل شاب –فلبثت ذلك عشر ليالٍ- فكمل لنا خمسون ليلةً من حينَ نهى عن كلامنا.

اللهم مالك السموات والأرض اجعل لنا فرجاً وهيّئْ لنا من أمرنا رشداً.ً.

قال كعب: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "<أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، وكأنه أحس أني في غمرة الفرح والسعادة قد أتخلى عما قد أضنُّ به إذا سكن فرحي وعادت إليَّ نفسي. فأمرني بالاحتفاظ ببعض مالي، فقلت: إنني أمسك نصيبي الذي وهبتنيه في فتح خيبر، وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت ، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أنعم الله عليه في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أنعم الله تعالى به عليَّ، والله ما تعمَّدت كذبة منذ قلتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي منه، لقد أنزل الله تعالى فينا معشر الثلاثة قوله: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" ; حتى بلغ "إنه بهم رءوف رحيم، وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا" حتى بلغ "اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" سورة التوبة.

قال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكونَ كذبتُه، فأهلكَ كما هلك الذين كذبوا، إنّ الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنْزَل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال الله تعالى: " قال كعب: كنا خُلّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" وليس الذي ذكر مما خُلِّفنا تخلّفَنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.

(19)

بركة النبي صلى الله عليه وسلام

انطلق جيش المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك –وهي بلدة صغيرة تقع في بلاد الشام شمالي المدينة المنورة بسبعمائة كيلو متر- للقاء جيش الروم الذي هدد باجتياح مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فزرع الله تعالى الرعب في قلوبهم لما سمعوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فانسحب جيشهم إلى داخل الأردن خوفاً من لقاء المسلمين، على الرغم من أن جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعد الثلاثين ألف مجاهد، وجيش الروم يشارف على مئتي ألف مقاتل، ولا غروَ فالرسول صلى الله عليه وسلم، بطل الأبطال يقول: "ونُصرت بالرعب مسيرة شهر".;.

وأصاب الناس مجاعةٌ، فقالوا: يا رسول الله، قلّ الزاد، ونحلت أجسادنا ووهنت قوانا، وهذه إبلنا ما عدنا نحتاج إليها، فلا ميرة نرفعها عليها، ولا أحمال نشدها إليها، فلو أذنت لنا فنحرناها، فأكلنا وادَّهَنّا.

كان أدباً منهم أن يستأذنوا القائد في الاستغناء عن خدمة الدواب التي يستعينون بها في القتال، فلربما رأى مصلحة في الاحتفاظ بها فمنعهم ذلك، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح لهم قائلاً: "افعلوا".

  سمع الفاروق عمر بن الخطاب باستئذانهم وموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد ، فلما لقيه قال: يا رسول الله إن ذبحوا إبلهم لم يبق لهم ما يركبونه، ويحملون عليه متاعهم، فتباطأت حركاتهم وأصابهم جهد ومشقة في سيرهم.

  ولكني أرى يا رسول الله أن تأمرهم بإحضار ما تبقى من أزوادهم، فإذا جمعوها دعوت الله لهم عليها بالبركة، وأنت يا رسول الله مبارك قريب إلى الله ، حبيب إليه، ولعل الله يجعل لهم في ذلك البركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ما أشرت به يا عمر".

  أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببساط من جلد متسع، فَمُدَّ على الأرض وأمر المسلمين أن يأتوا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجئ الآخر بكف تمر، ويجئ الآخر بكسرة خبز، حتى اجتمع على البساط من ذلك شيء يسير، ثم رفع يديه الشريفتين إلى رافع السموات بغير عمد وباسط الأرض على ماء جمد، يسأله البركة والفضل العميم، وارتفعت معه أكف المسلمين مؤمنِّة راجية.

  وكان العجب العجاب أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمرهم أن يملأوا أوعيتهم مما على هذا الأديم (البساط)، فما تركوا في المعسكر وعاء إلا ملأوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضل فضلة.

  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "t;أشهد إن لا إله إلا الله وأني رسول الله" ، وردد المسلمون وراءه: نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "   فارتج المعسكر بالنغم الأبدي السرمدي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

(20)

أصابع النور

قال الواقدي : لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض طريقه إلى تبوك مكر به أناس من المنافقين ، وائتمروا أن يطرحوه من عقبة ( مرتفع ضيق ) في الطريق ، فلما بلغ رسولُ الله تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فأخبر الله تعال نبيه بخبرهم ، فقال للناس : اسلكوا بطن الوادي ، فإنه أسهل لكم وأوسع .

فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة ، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها ، وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه . .

فرجع حذيفة إليهم ، وقد رأَوا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اطّلع على مكرهم ، فانحطّوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس . وأقبل حذيفة حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فساق به .

فلما حرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة نزل الناسُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا حذيفة؛ هل عرفتَ أحداً من الركب الذين ردَدْتَهم ؟ قال : يا رسول الله عرفت راحلة فلان ، وكان لقوم ملثّمين ، فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل . .

وكانوا قد أنفروا ( الحركة السريعة ذات ردة الفعل ) برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسقط بعض متاع رحله ، فكان حمزة بن عمرو الأسلميّ  يقول : فنُوّر لي في أصابعي الخمس فأضَأنَ ( صار لهنّ ضياء ) ، حتى كنا نجمع ما سقط من السوط والحبل وأشباههما ، حتى ما بقي شيء من المتاع إلا جمعناه .

إضاءة :

1-      لا تغمض عيون النفاق ، فهي دائماً تمكر بالمؤمنين ، وتخطط للإيقاع بهم ، وما يخرجون في مواكب الإيمان إلا للتعمية عن نفاقهم " ويحلفون بالله إنهم لمنكم ، وما هم منكم ، ولكنهم قوم يفرقون " ، وإما خوفاً وجبناً أن يلحقهم ما لا يرغبون ، وإما حرصاً على مكانتهم التي كانت لهم قبل الإسلام ، وإما ليمكروا باالإسلام وأهله " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ... ".;.

2-      ولا بد أن يفضح الله تعالى مكرهم ولو بعد حين ، لقد أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ،ففضحهم الله تعالى ، فأخبر النبي بسوء تخطيطهم . إنهم انتظروا ليلة مظلمة في مكان مرتفع ضيق يزاحمون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعونه ليهوي في الوادي السحيق ، فيتخلصوا منه ، والله غالب على أمره ، ولن يخذل نبيه ، ولن يضيّع دينه .

3-      وليكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يمشوا في الوادي ، ففعلوا ، وأمر عماراً ، فأمسك بزمام ناقته ، وأمر أمين سره حذيفة ، فسار خلفه ، وظن المنافقون الفرصة مناسبة في إحدى العقبات ، فاندفعوا برواحلهم نحوه يزاحمونه صلى الله عليه وسلم ، فيتصدى لهم حذيفة بقوة ، ويمنعهم ، ويرفع فيهم سيفه ، فيشعرون بانكشاف أمرهم ، وينسحبون مسرعين إلى بطن الوادي ، وهذا دأب النفاق الجبان " وهموا بما لم ينالوا " .

4-      يعرف حذيفة راحلة أحدهم ، فيتابعه نهاراً ، ويحاول الإمساك بالخيوط أملاً في معرفتهم ، وكشف مستورهم . إنه لم يرهم فقد كانوا ملثمين .ولكنْ " ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ، وأن الله علام الغيوب ؟ " . 

5-      نور في الأصابع ؟! إنه نور الله الذي يهبه المسلم في ليل الدنيا وظلام الآخرة " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ، قيل ارجعوا وراءكم ، فالتمسوا نوراً .."  فرب النور هو هو في الدارين ، ومن كان مع الله كان الله معه .