حديث الملاحم في ذكرى مجزرة كفر قاسم

عوني وتد - عرب 48

[email protected]

 وقف الشيخ عثمان القسماوي عند الأصيل، يستطلع امر تأخر وصول قوافل العمال والفلاحين العائدين من حقول القرية والمستوطنات المجاورة.أنتصب يحجب بكفه المرتجفة خيوط شمس الغروب، يرنو بعينيه الذابلتين، علّه يزف الى قريته بشرى تمحو قلقها وتبدد مخاوفها. أنتظر شيخنا طويلاً.. يسابق بعينيه عتمة الليل ،ونسائم الغروب تداعب كوفيته السمراء فينبلج من تحتها وقار الشيب المثقل بالصبر، والثبات والصمود.وما أن لمحت عيناه خيال القافلة القادمة من بعيد ،وتهادت اذناه لجلبة زحفها ،وحداء عودتها ،حتى انفرجت اساريره ،  وشرع ينادي بصوته الخافت : " هيهِ يا زينب ! عاد العمال من كروم العنب".  "أبشري يا فاطمة! عبر الأبطال حدود الغضب" .  " أصدحي يا جميلة ! هلت علينا جحافل العرب". فاستبشر اهل القرية خيرا ،وهللوا حمداً لوصول اهلهم والأبناء.

 لم يكد شيخنا عثمان يتم اهزوجته فرحاً بعودة ربعه وذويه ،حتى علا صراخ المستغيثين ،وقطع ازيز الرصاص الكثيف  نشوة الاهل والصبية القسماويين لعودة آبائهم وامهاتهم... رحماك يا ربي! ما هذا الدخان ؟! ما هذه النيران ؟! ما هذا العويل؟! فناحت تلال الروابي ، وصاح رَجْعُ الدماء، وزلزل صدى الرحيل:

ألا هل أتاك حديث الملاحم / وذبح الأناسي ذبح البهائم/وقصة شعب تسمى:حصاد الجماجم/ ومسرحها  قرية ، اسمها : كفر قاسم ؟؟ / حديث أفاق عليه الجميع/ فظنوه أضغاث حلم مريع/ولكن! اتقضى هزيع، وجاء هزيع/ وجمد أعيننا الحالمة/وصك مسامعنا الواهمة/صراخ الثكالى / صراخ الصبايا، صراخ الحبالى/ طغى وتعالى/ صراخ الشباب الذبيح/ ترد صدورهم العارية/ وأيديهم الخشنة القاسية / بصاق الرصاص الجموح.  (الشاعر : توفيق زياد)

وقبل ان يلفظ  شيخنا القسماوي انفاسه الاخيرة حسرة والما ً،على ذبح اهل قريته، جلس القرفصاء، وفرش كوفيته السمراء ارضاً ،وانهمرت دموعه الغزيرة نهراً ، تخط للأجيال تلو الأجيال  حديث الملاحم البطولية. فكتبت لنا العبرات:

" وكانت المجزرة الرهيبة ..يوم الأثنين، في التاسع والعشرين من تشرين الاول ،عام الف وتسع مئة وست وخمسين. تسعة واربعون شهيداً ، من الرجال والشيوخ، ومن النساء والأطفال ، رووا بدمائهم الزكيّه سهول كفر قاسم الجريحه. شهداءٌ ابرار، قتلت يد الحقد أحلامهم، وحصد رصاص الغدر آمالهم لحياة كريمة عزيزه " .

وتتوالى الدموع الساخنة فوق الكوفية   : " وليشهد العالم ، وليعي الصمت العربي! ان الجنرال "تسفي تسور"، قائد قيادة المركز والمسئول العسكري عن منطقة المثلث، أمر المقدم "يسخار شدمي"، قائد لواء الجيش في المنطقة ، بتوسيع ساعات منع التجول المفروض على القرى والبلدات العربيه،  وأمره كذلك ان يكون حذر التجول هذه المرة يليق بالفلول التي لا تقهر ابداً ،فعليهم تطبيقه بيد من حديد ! ".

 لفظ شيخنا عثمان انفاسه الاخيرة ،وارتقت روحه الى باريها، ليلحق بركب الشهداء الابرار من الأطفال والرجال، والنساء والشيوخ.  

 ولأن شعبنا الفلسطيني الصامد  فوق كل المجازر والجراحات ،وفوق كل الآلام والويلات،

لَمْلم الأحزان ،ونفض عنه المخاوف والهوان ، وشب على رجليه الصلبتين الثابتتين يردع حقد الترحيل ،ويرفض الذل والخنوع والهوان ، شعبٌ يقارع مآرب التهجير ويصدّ الطغيان.

مجزرة... شاء الله لها ان تتزامن مع العدوان الثلاثي على ارض الكنانة،لكبت نداءات الاحرار بتأميم قناة السويس المصرية ، وكأن شعبنا الفلسطيني الصامد جعل من دمائه الزكية المعتقة ، بركانا يرد الضيم عن امته ،ويعلمها درساً في التفاني والعزة والاكبار.

شهداءٌ اوقفوا بجباه جماجمهم الشامخة، اولى خطوات مكائد تهجيرهم واجلائهم عن اراضيهم ،وأخمدوا بربيع انفاسهم لظى التنكيل، ورووا بدمائهم الزيتون واللوز والصبار.

في ذكرى المجزرة الثانية والخمسين،لن نبكي شهداءنا ، فحري بنا ان نذرف الدموع على امة الصمت الأكثر من مليار. امة أضاعت رشدها،وفقدت رشيدها بتخبطاتها ، وهدمت كيانها بمعاولها ، وأطاحت برجولتها بأستسلامها ، وباتت مواقفها شجب وتنديد واستنكار.      أمة  هشة، أمست وحدتها وهيبتها،حروفا مبهمة ،وارقاما متتالية فوق شريط ألاخبار!

وفي ذكرى المجزرة الثانية والخمسين ، سنزور قصور شهدائنا ،وسنصطحب اولادنا وعائلاتنا ، سنتلوا عليهم، ونذكر لهم ، ملاحم الابطال تلو الابطال : للقرى المهجرة ، للمقدسات المنتهكة ، لمفاتيح المهجرين والمبعدين ،للأسرى المنسيين ، ولطابو اقفهرت سطوره فوق قنطرة الدار. سنحكي لاولادنا عن المذبحة الرهيبه ، وعن اراضينا الغريبه ..ليتمسك ابناؤنا بما بقي لنا من امتار.

سنروي لهم كيف بيعت دماء تسع واربعون منا بقرش ابيض واحد ،وحكامنا ينظرون، فارتقبوا يا اولادنا يوماً ! تباع  به عروش الخزي وكراسي العار، بأبخس الاسعار.

وستحملنا الذكرى ،فوق روابي كفر قاسم الجريحة ،نضمد احزانها بالمسك والورد والعنبر، ونفرش ساحاتها بالسنابل والنخيل والزعتر، وستكتب دموع شيخنا عثمان :

 الله اكبر ! الله اكبر! الله اكبر!

سـاعـة  الـصـفر صفرت iiواستقرت
وبــدا الـغـائـبـون رحـلـة iiعـود
قف : وصاح الغراب نعقا على شا ـ م ـ
بـلـغ الـجـهـد مـبـلـغا فاق iiوصفا
احـصـدوهـم  : خـروا بـطرفة iiعين
يـطـلق  الضحك ، والرصاص ، iiويعلو
واتــم الــرصـاص قـولا iiوفـعـلا
وصـغـيـر طـريـد رعـب تـولـى
قـد راهـم يـسّـاقـطـون iiتـبـاعـا
لـم  تـشـاهـد عـيـنـاه يوما iiضحايا
يـنـحـنـي عن سقف الرصاص iiويعدو
وعـلا صـوت طـفـلـة فـي iiجـوار
زهــرة غـضـة راتـهـم iiعـيـانـا
وتــنــادي ابــا وايــن iiابـوهـا
فـي عـداد الاحـيـاء فـي الدار iiيرجو
وازيـز  الـرصـاص فـي iiاذنـيـهـا
















والـغـروب  الـغـريـب فـيـها iiوئيد
وبـدا  اعـصـار الـفـنـاء يـمـيـد
حــنـة بـالـغـفـاة مـلاى iiتـنـود
فـاذا  هـم عـلـى الـحـديـد iiرقـود
جـثـثـا فـوق بـعـضـهـا iiوالـبليد
وجـهـه الاربـد الـغـلـيـظ ، iiالجليد
وتـردى فـوق الـشـهـيـد iiالـشـهيد
اذ  نـجـا صـارخـا ويـبـكي iiالطريد
جــثــة  فـوق جـثـة لا تـمـيـد
تـتـهـاوى كـمـا تـهـاوى الـسجود
لـيـس يـدري الـجهات يهدي .. iiجنود
هـاتـفـا  ، يـا ابـي ، ابـي لا iiردود
فـمـضـى عـقـلـهـا وهـامت iiتريد
ربــمــا ضــرجـوه او iiمـوجـود
عـودهـا  فـالـظـلام هـول iiوبـيـد
وعــلـى  شـالـهـا دخـان شـديـد

من قصيدة ـ كفر قاسم جل الشهيد ـ للشاعر محمود مرعي

 (عرب الداخل)