بقرات عجاف ولا يوسف لها!.

نوال السباعي

كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا

[email protected]

هذه الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم ، أكدت فيم كشفت عن تآكل الهياكل السياسية والاقتصادية لبلدان المنطقة العربية –ضمن غيرها من مناطق العالم المُستعمرة- ، ليست المشكلة في البقرات العجاف التي تنذرنا باِلتهام الأخضر واليابس وأخواتها من البقرات السمان ، لكن المشكلة أن "يوسف" لايعيش اليوم بيننا ، ويبدو أننا ونحن أمة الكتاب الذي فصّل في قضية "يوسف" لم نتعلم منه شيئا ، اللهم إلا ماتعلق بجمال طلعته وصبوة النساء إليه وكيدهن العظيم .

منطقة اليورو ومع تحذيرها الإعلامي الدؤوب للمواطنيين بما ينتظرهم في هذه السنوات العجاف لديها خطط معدة لمثل هذه الأوضاع ، التي تسببت بها أصلا السياسات النقدية المتوحشة لصندوق النقد الدولي وماشابهه من المنظمات الصهيونية العالمية والدولية التي تسيطر على مقاليد الأمور في مصارف العالم وودائعها وأسعار الفائدة وسياسات القروض العقارية التي جعلت من شعوب أوربة والأمريكيتين –على الأقل- عبيدا يعملون عشرة ساعات يوميا لأكثر من ثلاثين عاما من عمر كل منهم ومن بعده أولاده وأولاد أولاده حتى يستطيع الإنسان الشريف منهم توفية ثمن بيت متواضع يمكن لأحفاده من بعده أن يعيشوا فيه في كفاية وأمن! ، ولايتعلق الأمر بالعقارات فحسب بل بالسيارات وأثاث البيوت واكتساب ضروريات الحياة "المُختَرَعة" التي لاتقوم الحياة في الغرب -ومن قلده- إلا بها ، فنحن نرى الناس في اسبانيا أول العام الدراسي أو فترات الأعياد يصطفون أرتالا في المصارف ولساعات بانتظار دورهم للوقوف في مهانة أمام موظف المصرف ليقنعوه بمنحهم قرضا لايتجاوز ال250 دولارا لتغطية نفقات دخول المدرسة لأبنائهم ، أو شراء هدايا العيد !!.

هذه الأزمة الاقتصادية ماكان يجب أن يكون لها نفس الأثر في بلادنا ، والسبب الرئيس هو عدم ابتلاء معظم السكان في المنطقة العربية بموضوع القروض الربوية ، والسبب الثاني والذي قد يبدو عجيبا وغريبا فهو وبكل بساطة عدم انتظام غالبية السكان بنسق الحياة الغربية بسبب الفقر المدقع والانقطاع عن سير المدنية ، الشيء الذي كان من المفروض أن يمنحنا على عجره وبجره هامشا من حرية اقتصادية تعتمد بالدرجة الأولى على قضية الزراعة .

الانسان السعيد المحظوظ الذي لم يعتد ارتياد "السوبر ماركت" لشراء مايحتاجه من مواد "طعامية" –وليس غذائية-  معظمها معدوم الفائدة ، لن يتأثر بهذه الأزمة الهائلة بشكل مفزع ، وكذلك الناس البسطاء الفقراء من الذين يتمتعون بإنتاج أراضيهم وأيديهم الطبيعي الخال من الدهون والسموم والآلاف التي تدفع لمصالح الضرائب والسماسرة الذين يحشرون أنفسهم بين المنتج والمستهلك بهدف السرقة ولاشيء غير السرقة ، لأنهم سادة أنفسهم وأرضهم ، وليسوا عبيدا للإعلانات التلفزيونية ولازبدة "البوك" ولاأرز "الباك" !، لأن أبقارهم وأغنامهم توفر لهم الحليب والقشدة ولأن أرضهم تنتج لهم وكل يوم مايكفيهم من البطاطا والبندورة والبصل الذي يلتفون حول أطباق الفول الصباحية ليلتهمونه معه في عافية ورضى، فضلا عن الأيدي العاملة المحظوظة التي لاتعرف العطالة عن العمل ، المرض الأكثر فتكاً بين سكان المناطق التي أهملها أهلها وتركوها عرضة للضياع.

المسألة برمتها تتعلق بشيء من فن إدارة سياسات البلاد وفق طبيعة البلاد وأهلها ، وليس وفق مايفرضه "الحرامية" العالميون والمحليون من ضرورات اقتصادية اخترعوها للبشر ولسعوا ظهورهم بسياط الإعلان عنها ليجروا وراءها لاهثين دون تفكير ولابصيرة.

مفاتيح حل هذه الأزمة الاقتصادية في المنطقة العربية اليوم تتعلق مباشرة بدول الخليج "الاسلامي" ، وبثلاثة أمور ، أولها مشاركة كل سكان المنطقة العربية بهذه الثروات الهائلة التي تدرها الأرباح المتدفقة من البترول أو مايسمى "توزيع عادل مشروع للثروة" عن طريق تبادل الخبرات والأيدي العاملة والمنتجات ، وثانيها إقامة مؤتمر قمة "عربي" دائم خاص بإحياء وتنشيط الزراعة في المنطقة وتشجيعها سواء على مستوى المنطقة كلها أو تلك الزراعات الخاصة الأسرية ودعمها بكل الوسائل الممكنة ، وثالثها وبكل بساطة تذكير أغنياء بلادنا بالله واليوم الآخر .

يلفت انتباهي أمران فيم يتعلق بهذه القضية ، أولهما انتشار تذكير الأغنياء بالرب في طول الولايات المتحدة وعرضها تشجيعا لهم لمساعدة الفقراء ، ومن ثم انتشار هذا الأمر في أوربة إلى درجة أن بعض وسائل الإعلام في اسبانية بدأت حملة ضخمة للترويج لماأسمته وبالحرف "إحياء ثقافة تقديم الصدقات" ! ، ولعل أغنياءنا الذين لايحبون الالتزام بأخلاق حضارتهم أن يلتزموا بما يأتيهم من الغرب ويحذون حذو أغنيائه ، خاصة أن مايفعله بعض أغنيائنا عندما يزورون الغرب يستدعي الحياء والخجل من أنفسهم ومن الغرب ومن التاريخ ، تحدثت وسائل الإعلام الاسبانية العام الماضي عن مامنحه أحد أغنيائنا من "بقشيش" لعمال أحد المطاعم التي زارها بلغت 170 الف دولار تقريبا لكل عامل في زيارة واحدة لهذا المطعم! ، الطريف المؤلم في هذا الأمر أن موظفي المطعم وعندما سُئلوا عما يكون السبب الذي دفع هذا "العربي" إلى هذا الفعل قالوا وبالاجماع : لديه مال كثير لايعرف ماذا يفعل به فقرر رميه هنا وهناك.

الغربيون لايفهمون حماقات الكرم " العربي " ، لأن مثل هذه الأفعال الشائنة لاتدخل أصلا تحت خانة "الكرم" ، ولكنها وبكل بساطة تعبير عميق عن شعور بالنقص والمرض والعجز يريد صاحبه أن يسده بمثل هذه الأفعال السفيهة ، هذا إذا لم نتحدث عن ما ينفق على موائد القمار والسقوط التي تغدق عليها مئات الملايين من أموال الأمة ، فلتلك أسماء وصفات أخرى أقل مايقال فيها أنها جريمة.

وأما الأمر الآخر الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار فهو ضرورة القضاء على ثقافة "تقديم الطعام"  والانتقال منها إلى ثقافة "تعليم الناس كيفية توفير طعامهم" هذه الأزمة التي أثبتت عجز وتآكل إداراتنا الاقتصادية ومن ورائها السياسية ومن قبلهما الاجتماعية والفكرية ، كشفت كذلك عن عجزنا الانساني ، وعن تآكل القيم الأخلاقية في أنفسنا ، إن أغنياءنا  – وفقراءنا – يفضلون إقامة حفلات التباهي والتفاخر على أن يسدوا رمق المحتاجين بأدوات تمنكنهم من الانتاج والعمل ، علينا أن نُعمل عقولنا و نشغل آلية التفكير بالبدائل ، علينا أن نتأسى بيوسف نبي الاقتصاد ، وأن نتكاتف جميعا للاستفادة من طاقاتنا الانسانية وعلى رأسها النعمة الكبرى التي نتمتع بها وغيرنا من شعوب الأرض بعدم الانسياق والانصياع الأعميين وراء السياسات الاقتصادية الغربية ، والبحث عن الحلول الناجعة في أرضنا وأيدينا وعقولنا القادرة على انتاج فقه مختلف يساعدنا ليس على تجاوز الأزمات فحسب بل والوقوف على أقدامنا من جديد .

- يتبع-