تعدد الزوجات الخروفي!
نوال السباعي
كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا
لا .. لم أخطيء الصحيفة ، وأعلم أن هذه ليست صفحة شؤون الثروة الحيوانية ! ، ولكن الحديث مازال متصلا في الأزمة الاقتصادية العالمية ، حيث لابد مما ليس منه بدّ وهو الخوض في المشكلات الممتدة من أقصى شرق الأمة إلى غربها ، فلا تخدعنا فضائية تُسوق لشارع واحد نظيف في عاصمة دولة من دولنا الغنية ، ولامسؤول مجعجع يتكلم عن ندوة ثقافية أقيمت في واحدة من بلادنا الفقيرة ، فإنك إذا مارفعت الغطاء وأمطت اللثام ، وجدت الكلّ في القهر والتخلف والإغراق في الفوضى وسرقة المواطن سواء ، إلا أننا نجد دائما ومع هذا كله كثيرا جدا من الأشياء الايجابية المبعثرة التي تحتاج إلى مجرد تمحيص وإعادة نظر ، كي تتطور وتساعد الكثيرين على النمو والخروج من أزمات حقيقية يعيشونها.
وعلى سبيل المثال فقد سَرَت في رمضان عادة جميلة مباركة تتعلق بموائد الرحمن ، تمتد كل عام في مختلف أصقاع الأرض تقدم للصائمين طعام الافطار بكرم يصل حدّ التبذير ، فما إن ترفع تلك الموائد حتى ترى كميات هائلة من الأطعمة ومثلها من أدوات الطعام وملحقاته ترمى في القمامة ، وجهود جبارة تبذل في أعمال النظافة والصيانة اللاحقة ، وقد فكرت كثيرا في هذه الظاهرة ، والتي صارت عادة من أروع العادات الرمضانية ، ولكنها على روعتها لاتخلو من أمور يمكن أن نعيد فيها النظر والتفكير خاصة في ضوء هذه الأزمة.
99% ممن يقصدون هذه الموائد في مدريد -على سبيل المثال- هم من الفقراء ، ولكنهم ليسوا من المحتاجين ، والغالبية فيهم تأتي هذه الموائد -التي يقدمها كل عام المركز الثقافي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في مدريد- لا لحاجة حقيقية مادية ، ولكن لحاجات نفسية عميقة تتعلق بالشعور بالغربة ، وتوفير الجو الرمضاني المناسب والاجتماع بالأصدقاء والأحباب ، ولكن هذا لايمنع من أن كثيرين من النساء والرجال إنما يأتونها لتوفير التعب في إعداد طعام الإفطار في بيوتهم ، أو طمعا في وجبة مجانية هم ليسوا في حاجة حقيقية إليها، وقد رأيت مرارا وتكرارا عشرات من الناس يأتون هذه الموائد فيأكلون عند الإفطار أو عند السحور ثم يخرجون من المركز دون أن يؤدوا صلاة المغرب ولاحتى صلاة الفجر ، ولاحتى صلاة فجر ليلة القدر !! ، لا..لم أخطيء الصفحة!!! إذن لماذا أطرح هنا هذا الموضوع وكأننا في رمضان ، أو في صفحة الشؤون الدينية ؟! إنه يأتي في سياق ما يشغل الأمة اليوم من الأوضاع الاقتصادية العالمية والتي ستأتينا ارتدادات هزاتها الزلزالية عاجلا أم عاجلا!! ، ومايقتضيه ذلك من تفكير جدي يحملنا على فهم ملابسات الأزمات المتتالية التي نعيشها سواء كان ذلك بسبب وضع عالمي أم بسبب تخلف ونهب وسوء سياسات داخلية .
إننا في مواجهة معضلة حقيقية في حياة المجتمعات "العربية"، ولابد من بذل كل جهد ممكن للقضاء على ثقافة "تقديم الطعام" والانتقال منها إلى ثقافة "تعليم الناس كيفية توفير طعامهم" ، لقد أذهلني الشيخ زايد رحمه الله حين قام بتقديم "بقرة" إلى كل أسرة في سياق مساعدته لبعض المناطق اللبنانية ، كانت إحدى نساء الريف اللبناني من الأرامل المعدمات تقول وهي تبكي فرحاً : "ليشكر الرب للشيخ زايد ماقدمه لنا ، لقد قدم لنا حليبا وزبدا وقشدة ، ووقودا لتنورنا ، وشعرا ووبرا نعمل عليهما ، ومساعدة لحرث أراضينا وتسميدها" .
كل ذلك من خلال بقرة واحدة ، امنح أسرة ريفية بقرة تمنحها معها الحياة الكريمة !.
حدثتني إحدى السيدات أنها كانت قد نوت ذبح عشرة خرفان شكرا لله بسبب تخرج ابنتيها من الجامعة في عام واحد ، وفي زيارة لها إلى الكويت بعد أن كانت قد رأت ذلك التحقيق الصحفي عن ماقام به الشيخ زايد في لبنان ، استصدرت فتوى عظيمة من مفتي الجامع الكبير في مدينة الكويت ، مفادها أنه ومادامت هذه الخرفان ستنتهي إلى الذبح فإنه يمكنها أن تقدمها "حية" إلى إحدى أسر الريف أو البادية ، وقد اتصلت تلك السيدة مباشرة بصديقة لها في جنوب المملكة المغربية وسألتها أن تقدم إلى إحدى الأسر الفقيرة خمسة خرفان من الذكور وخمسة من الإناث صدقة شكرا لله .بعد أسبوع خبرتها تلك السيدة بأن أسرة ريفية تمّ إحياؤها بهذه الخرفان ، وأنها حصلت على ثروة لاتقدر بثمن ، لكنها قالت انها لم تستطع أن تقدم لهم إلا تسعة نعاج وذَكَر خروف واحد !! ، ولما استفسرت عن ذلك ، أجابتها : مازال سارياً لدينا نظام تعدد الزوجات الخروفي !!.
على هامش هذه الدعابة ، تعتبر هذه الفتوى فتحا غير مسبوق في عالم توزيع الأموال والصدقات في المنطقة العربية ، ويمكن لمن رزقه الله "وعياً" أن يقدم مثل هذه الهدية الهائلة إلى عشرة أسر بدلا من إقامة وليمة لعرس يقدم فيها 250 خروفا للمدعويين ، أي قطيع كلمل من الأغنام التي تصلح لإحياء قبائل وعشائر في بوادينا ، وقد قضينا على ثروتنا الحيوانية بسبب أفعالنا المغرقة في عبادة التقاليد تفاخراً ورياء ! .
لقد وضع بعض الشباب أقدامهم في الطريق الصواب الذي يجب أن يكون مدعاة للتفكير والاقتداء ، حيث ابتكر تجمع للشباب المسلم في مدريد "موائد رمضانية انتقائية" ، إذ طلب جزءاً من هذه الموائد التي تقدم بسخاء كل رمضان في المركز الاسلامي المذكور ، ليصرفها حصريا لفئات عمرية معينة من الشباب والشابات من الجيل الثاني ، بحيث تتم دعوتهم إلى الإفطار في حركة تربوية واضحة تهدف لإعادة أبناء الجالية إلى جذورهم وربطهم ببعضهم بعضا في ظلال رمضان ، إذ دعاهم ذلك التجمع إلى موائد الرحمن ولكنها موائد خاصة بهم ، بحيث تتم الاستفادة من هذه الموائد تربويا بالأهداف المحيطة بها واقتصاديا بوقف عملية التبذير المعتادة ، فكان يخصص إفطارات خاصة بالفتيان والفتيات من سن 12 الى 16 عاما ، قبلها وبعدها ندوات حوارية وثقافية وبرامج رمضانية تربوية ترفيهية ، ثم للشباب والشابات من سن 17 إلى 30 عاما وبنفس الملابسات التي تناسب أعمارهم ، الهدف من إيراد هذه التجربة المتميزة ، هو الاستفادة من أمور ايجابية موجودة على الساحة وتطوير الثقافة المحيطة بها ، وبذلك يتحول العمل الخيري البسيط شبه المهدور اقتصاديا وتنمويا وثقافيا إلى عمل خيري ذو هدف تنموي شبابي مزدوج الايجابيات .
إن تقديم خمسين دولارا لفقير يعني أنك قدمت له طعام أسبوع ، أما أن نقدم لنفس الفقير آلة خياطة بمائة دولار ، أو آلة نسج الصوف أو أدوات عمل يدوي كالحدادة أو النجارة أو الزراعة ، فإنك تكون قد قدمت له فرصة لحياة شريفة كريمة.
لابد لنا من تطوير العمل الخيري المنتشر في طول الأمة وعرضها ، والانتقال من ثقافة تقديم الصدقات بملء أكياس البطون -وهي أكياس مثقوبة- ، إلى تنشيط العقول لتفكر في العمل ، العمل الذي يحيي ويبني ويرفع ، لأن السماء لاتمطر ذهبا ولافضة ، لكنها تمطر مطرا يسقي الله به الزرع الذي تعب الفلاحون في غرسه ، فيستوي على سوقه يعجب الزراع ويطعم الجياع ، ثقافة الإطعام هي من أفضل الثقافات الخيرية المنتشرة اليوم ، ولكن ثقافة تشغيل الأيدي الجالسة تهش الذباب فراغا وتضييعا هي الثقافة التي تنضوي بداخلها ثقافة الإطعام ، وتنتشر مترتبة عنها ثقافة السلام ، السلام الاجتماعي بين الجميع ومع الجميع ، ولعل أعظم أنواع العبادة هي أن تأخذ بيد أسرة الى عمل تحيا فيه كريمة ، وتأكل كريمة ، وتعيش كريمة .