اذكروا غزوة أحد

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في العام الثالث للهجرة زحفت قريش، ونزلت مقابل المدينة بذي الحليفة لقتال النبي والمسلمين؛ ثأرًا لهزيمتها في بدر، وكان رأي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يخرج المسلمون لقتال الكفار، مفضلاً البقاء في المدينة، وعرض رأيه هذا على أصحابه بطريقة توحي بأنه رأي اجتهادي، ليس وراءه وحي يلزمهم به.

فقال:

أ ـ إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.

كان هذا هو رأي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأرسل الرسول ـ عليه السلام ـ إلى عبد الله بن أبي بن سلول يستشيره. فكان رأيه هو ـ رأي النبي ـ عليه السلام ـ وكبار الصحابة: أي البقاء بالمدينة، واتخاذ عدة الدفاع، فإن أقام الكفار أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا المدينة قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.

ولكن كان هناك "الرأي الآخر" .. وراءه حماسة الشباب، وحب الجهاد، وكثير من هؤلاء لم يشهدوا بدرًا:

ـ اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا، لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا.

ويرتفع صوت حمزة رضي الله عنه:

ـ والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعامًا حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة.

ويظهر أن الذين دعوا للخروج كانوا يمثلون غالبية المسلمين، فاستجاب النبي ـ عليه السلام ـ لهذا الرأي وهو كاره، فندم الناس وعرضوا البقاء في المدينة بعد أن لبس لأمتهُ، واستعد للقتال، ولكنه قال: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل ...".

واتخذ ابن سلول من خروج النبي ـ عليه السلام ـ إلى أحد ذريعة لانخذاله ورجوعه بثلث الناس قائلاً:

ـ أطاعهم وعصاني، ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس.

وما فعله عبد الله بن أُبّي بن سلول إذ انسحب بثلث الجيش يوم أحد يعد من قبيل الغدر والخيانة والنكث بالعهود في أحرج الأوقات وأشدها، ولا يدخل في نطاق معارضة رأي برأي، أو مخالفة عن رأي القائد الأعلى في ظروف عادية؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرى البقاء في المدينة والقتال عنها وفيها إذا هاجمها المشركون.

وأشار ابن أُبي بالرأي نفسه، وقدم له من المبررات التاريخية والواقعية ما يدعمه، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استجابة للرأي الآخر الذي نادت به الأغلبية خرج إلى المشركين، ولم يُبْدِ ابن سلول وجماعته ـ في هذه المرحلة اعتراضًا على خروج جيش المسلمين لملاقاة أعدائهم، بل خرجوا ضمن الخارجين، وساروا معهم أمدًا طويلاً، وهذا يعني أنهم سلموا عمليًّا بما سلم به النبي ـ عليه السلام ـ من الخروج لقتال الأعداء، وجاء الانسحاب والمسلمون يتهيئون لخوض المعركة، أي في أحرج الأوقات التي تكون المخالفة الضئيلة فيها خطأ جسيمًا، بل خطيئة كبرى قد تجر إلى هزيمة نكراء.

وكانت معركة أحد ـ كما قال ابن إسحاق ـ يوم بلاء ومصيبة وتمحيص ، فقد استُشهد قرابة سبعين من المسلمين على رأسهم حمزة عم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما جرح النبي، وشج وكُسرت رباعيته.

وعَوْدًا على بدء نذكر القارئ بأن النبي ـ عليه السلام ـ كان يرى البقاء في المدينة، ولكنه استجاب لمعارضي رأيه وخرج إلى أحد.

ونجمت صورة أخرى من المعارضة في شكل غدر وخيانة جماعية من ابن سلول وعصابة المنافقين، وهو عمل ليس له اسم في وقتنا الحاضر إلا "جريمة الخيانة العظمى".

ولكن النبي ـ عليه السلام ـ لم يعرض لهؤلاء بعقاب، على الرغم من أنهم ـ لو حكمنا أبسط قواعد العدالة ـ يستحقون القتل. وكان مسلكه هذا هو انعكاس لسياسته العامة مع المنافقين، فقد امتنع النبي ـ عليه السلام ـ عن قتلهم مع علمه بنفاق بعضهم، وقبل علانيتهم لوجهين:

أحدهما: أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة، بل كانوا يُظهرون الإسلام، ونفاقهم يُعرف تارة بالكلمة يسمعها الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون، وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد، واستثقالهم للزكاة، وظهور الكراهة منهم لكثير من أحكام الله، وعامتهم يُعرفون من لحن القول.

... ولكن جميع هؤلاء المنافقين يُظهرون الإسلام، ويحلفون أنهم مسلمون، ويتخذون أيمانهم جُنَّة، وإذا كانت هذه حالهم فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يقيم الحدود بعلمه، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي، ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو  إقرار.

الوجه الثاني: أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم، وقد بين ذلك حين قال: "لا يتحدث الناسُ أن محمدًا يقتل أصحابه".. فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن أنه إنما قتلهم لأغراض وأحقاد.. وأن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يُقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره.

وانتهت "أُحُد" .. أُحُد البلاء والمصيبة والتمحيص ـ كما يقول ابن إسحاق ـ لتبقى قاعدة "الشورى" فوق الأحداث نابعة من الأمر السماوي الجليل: (وَشَاوِرهُم فيِ الأَمرِ) مهما كانت النتائج أليمة حزينة، فهي قاعدة تتوقف عليها الحياة الكريمة السليمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.