قراءة في غزوة تبوك 2

قراءة في غزوة تبوك

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

في أرض عاد

لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر( أرض عاد ) نزلها ، واستقى الناس من بئرها ، . فلما راحوا ( استراحوا ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تشربوا من مائها شيئاً ، ولا تتوضأوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئاً ، ولا يخرجْ منكم أحد الليلة إلا ومعه صاحب له " .

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بني ساعدة ، خرج أحدهما لحاجته ، وخرج الآخر في طلب بعير له .

فأما الذي ذهب لحاجته فإنه اختنق على مذهبه ، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحتْه بجبل طيّء . فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ألم أنهَكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه ؟ " .

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أصيب على مذهبه ، فشُفي ، وأما الآخر الذي وقع بجبل طيّء فإن طيّئاً أهدَته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدِم المدينة .

قال ابن هشام : بلغني عن الزهريّ أنه قال : لمـّا مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر سجّى ثوبه على وجهه ، واستحثّ راحلته ، ثم قال : " لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم " .

إضاءة :

1- كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يعلمون أن الأرض التي نزلوا فيها ديارعاد قوم هود عليه السلام  وقد أهلكهم الله تعالى " .... بريح صرصر عاتية سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " ، وكانت الأرض منبسطة وفيها ماء ومراح . فاستراحوا فيها ، وشربوا من مائها ، وعجنوا الدقيق بمائها ليخبزوه ، فلما فعلوا ذلك جاءهم الأمر الإلهي بالابتعاد عن الأرض التي كفر أصحابها فأصابهم فيها العذاب ، وأهلكهم الله بكفرهم وشركهم . فالتزم المسلمون ذلك سريعاً وخرجوا منها ، حتى إن الأمر جاءهم بالامتناع عن استعمال مائها شرباً ووضوءاً وأكلاً ، فأعلفوا الإبل العجين ولم يخبزوه . وهذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدري بالنهي إلا بعد أن أوحيَ إليه به ، فهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب . وهو دليل آخر على حسن التزام المسلمين بالامر الإلهي والهدي النبويّ .

2- وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بدار الكفر إلا للضرورة والأمر الذي لا بد منه كالدعوة إلى الله تعالى ، والهروب إلى أرض عادلة يأمن فيها الإنسان على نفسه وأهله ودينه ... أما المكان الذي أهلك الله فيه الذين ظلموا أنفسهم فقلب بهم الأرض أو أغرقهم فيها أو صعقهم أو مزقهم فيها ، فكانت أرض عذاب فلا يمكث فيها المسلم مطلقاً والله أعلم . ولهذا سجّى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه بوجهه وهو يمر بها ، واستحثّ راحلته وقال لأصحابه : " لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم " . والبكاء وتصنـّعه تذلل لله سبحانه واسترحام أن يصيبهم مثل ما أصاب القومَ من العذاب .

3- ما يكون من نهي إلا لحكمة قد يتبينها المسلم آنيّاً ، وقد لا يتبينها إلا بعد مدّة ، فحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا فرادى فلأنه يعلم من الله أن أمراً قد يصيب المخالفين ، فنبّههم إلى التقيد بما أمر . والتزم الجميع أمره إلا رجلاً ضيَع ناقته ، فذهب في الليل يبحث عنها وحده ، فحملته بقايا ريح عاد بعيداً عن المعسكر إلى مضارب طيّء شرقاً ، فضيَع نفسه بعد أن ضيّع ناقته ، وحملته الريح ، ثم أنزلته سليماً معافى ، وسلمه من رآه وضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد من تبوك . ورجلاً خرج منفرداً يقضي حاجته فضغطته الريح الشديدة  فأصيب بالخنّاق وطاش صوابه ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشفاه الله تعالى . ولأنه لا بد من الخروج لأصحاب الحاجة فكان الترخيص به لأكثر من واحد ليتعاونوا ويتآزروا على ما يصيبهم أو يصيب أحدهم ولأن النبي الكريم يريد أن يعلم المسلمين الطاعة لله ورسوله ففيها النجاة من المكروه ، وفي المخالفة العقوبة والضرر.

سحابة مغيثة

لما خرج المسلمون من أرض عاد أصبجوا ولا ماء عندهم  شكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،

فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله ؛ إن الله عز وجل قد عوّدك في الدعاء خيراً ، فادع لنا .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحب ذلك ؛ يا أبا بكر ؟.

قال : نعم يا رسول الله .

 فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجتهم من الماء .

يقول ابن هشام : قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رجال من بني عبد الأشهل قال : قلت لمحمود : هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم ؟ ( هل كانوا يعرفون المنافق فيهم ؟)

قال : نعم والله ، إنْ كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمّه وفي عشيرته ، ثم يلبّس بعضهم بعضاً على ذلك ( يستره ويتغاضى عنه ) .

ثم قال محمود : لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروفٍ نفاقـُه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار ، فلمّا كان من أمر الناس بالحجر ( ديار عاد ) ما كان ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا ، وأرسل الله تعالى سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس أقبل عليه قومه فقالوا : ويحك؛ هل بعد هذا شيء؟

قال : سحابة مارّة .

إضاءة :

1-       الدعاء مخ العبادة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم . واللجوءُ إلى الله وعبادتـُه والاعتمادُ عليه غاية الإخلاص والتوكل ... كان من السهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يغيثهم بمجرد أن خرجوا من الحجر ، لكنّه انتظر حتى يطلب المسلمون ذلك ويلجأوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم .

2-       دعاء الطيب الطاهر أدعى للقبول ، ومن أطيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ومن أقربُ إلى الله تعالى منه؟ . إن الماء لما شح في المدينة المنوّرة على عهد الخليفة عمر رضي الله عنه خرج بالمسلمين إلى ظاهر المدينة واستقوا بعمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستجاب لهم سريعاً .

3-       كل الأمور بيد الله سبحانه ، فهو مالك الملك ، لا رادّ لقضائه ، يفعل ما يشاء ، إذا قال للشيء كن ، فيكون . أظهر للنبي الكريم الخير والبركات ، وعلى يديه الشريفتين حدث الكثير من المعجزات ،

4-       حين يكون القائد مهتماً بجنده يريد لهم الخير ويسعى له ، ولا يألو في ذلك  يحبونه ويلتفون حوله ، ويطيعونه ، ويخلصون له في ذلك .... مثال ذلك وقدوتنا الرسولُ صلى الله عليه وسلم ،  فما إن سأله الصديق أن يدعو لهم حتى رفع يديه إلى السماء يستمطر رحمات ربه سبحانه ، فيجيبه الله تعالى ، ويشرب المسلمون ، ويحتملون حاجتهم من الماء .

5-       لا يظهر النفاق إلا حين يقوى الحق ويهابه الكافرون ، فيظهرون غير ما يبطنون . وعلى هذا كان النفاق في المدينة ، ولم يكن في مكة . ولا يكون الإنسان منافقاً إلا حين يرى مصلحة في اتباع فكرة ما أو يعمل عملاً يظن فيه مصلحة آنيّة عند من يخالفه الرأي ، فيظهر له التبعية ويبطن المخالفة .

6-       من المنافقين من أسلم  ثم ارتد " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ، فطُبع على قلوبهم ..." ومنهم من لم يخالط الإيمانُ قلبه ابتداء ، فهو لا يرى  في الحياة إلا مادّة ، لا يؤمن برب واحد ، ولا يرى للدعاء فائدة . ختم الله على قلبه . فهذا المنافق يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، وقد كانت السماء صافية ، ويرى السحابة تقبل ، وتمطر على المسلمين ، فيشربون ويملأون قربهم وأوانيهم . ولا يرى في ذلك سوى سحابة صادف الدعاء مرورها ، فأمطرت فوقهم صدفة ، دون استجابة .. وهكذا كان الأمر .

هوان النفاق

سار المسلمون بقيادة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، حتى إذاكانوا ببعض الطريق ضلت ناقته صلى الله عليه وسلم ، فخرج أصحابه في طلبها ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يُقال له ( عمارة بن حزم ، وكان عقـَبياً بدرياً ( من أوائل من أسلم ، وهو من أهل بيعة العقبة وأهل غزوة بدر ) ، وكان في رحله ( تابعاً له  ) زيد ُ بن الصلّيت القينقاعي ، وكان منافقاً ، ولا يدري عمارةُ بنفاقه .

ولما كان عمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال زيد بن الصليت لبعض من كان معه : أليس محمد يزعم أنه نبي ، ويخبركم خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ .

ويخبر جبريلُ عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  بما قاله زيد وهو في رحل عمارة.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه – وعمارة عنده - : إن رجلاً قال : هذا محمد يخبركم أنه نبي ، ويزعم أنه يخبركم بخبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته. وإني – والله – لا أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها ، وهي في هذا الوادي ، في شِعب كذا كذا ، وقد حبسَتها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتوني بها ، فذهبوا فجاءوا بها

فرجع عمارة إلى رحله ، فقال : والله لعجب من شيء حدّثَناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا كذا - يقصد ما قاله زيد بن اللصيت –

فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ، ولم يكن في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك :

زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي .

فاقبل عمارة على زيد يجأ عنقه ( يطعنها ) ويقول : إليّ عبادَ الله ؛ إن في رحلي لداهية – وما أشعر؟! ... اخرج يا عدوّ الله من رحلي ، فلا تصحبني ...

إضاءة :

1- المسلمون درجات في إيمانهم . وفي فضلهم . ومن لحق بالإسلام في بدايته ذاق حلاوته وأحب رسوله ، فما عاد يتحمل فراقه والبعد عنه . فترى هؤلاء الرجال – رضوان الله تعالى عليهم – يغتنمون كل لحظة سانحة ليكونوا قريباً من الحبيب صلى الله عليه وسلم . وعمارة منهم . ما إن يحل المسلمون في مكان حتى تراه يسرع إلى الحبيب يراه ويسمعه ، ويقضي أوقاته في صحبته صلى الله عليه وسلم ، قريباً منه .

2- وترى المنافق وإن تكتّم على نفاقه يكشف الله سره بكلمة يقولها أو حركة تند عنه أو نظرة غدر يلقيها . فالمنافق زيد بن الصليت يفضح نفاقه حين يقول : أليس محمد يزعم أنه نبي ، ويخبركم خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وهو يتجاهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم من الغيب إلا ما يخبره الله تعالى به . وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح " . وإني – والله – لا أعلم إلا ما علمني الله " .

3- لما أخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله المنافق - والرسول بشر يتألم لما لمثل هذا اللمز والغمز - يكرمه الله تعالى بأن يزيد من رفعته في قلوب أصحابه فيزداد إيمانهم بهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إذ يخبره في تلك اللحظة بمكان الناقة ، فيرسل بعض أصحابه فيأتونه بها .

4- ويتألم الصحابة رضوان الله عليهم لمقولة المنافق – ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليذكر اسم المنافق الذي تفوّه بهذا الهجر من القول لئلا يؤلب عليه المسلمين ، فحسبُ ذلك المنافق أن يبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بما قاله،  فيفكر ويتدبر ، عله يتوب إلى الله ويسلم ... ..

5- وكأن الله تعالى بعلمه القديم  أن هذا المنافق قد طُمس على قلبه ، يفضحه حين يعود عمارة إلى رحله متألماً من تقوّل المنافق وتخرّصه فيذكر مقالة المنافق في رحله ، وكان في الرحل رجل مسلم سمع مقالة زيد  في غياب عمارة ، فيكشف المستور ، ويخبره أن زيداً صاحب المقالة .

6-  يقبل عمارة على زيد يطرده من رحله ، ويدفعه بعيداً عنه ، ويشهّر به أمام الحاضرين ، فليس لأهل النفاق حب في قلوب المؤمنين ولا وُدٌّ ولا مكان بينهم لأنهم أعداء لله ، والمسلم يحب في الله ويعادي في الله . ولا يكون الولاء والبراء إلا في الله تعالى ، وليت المسلمين يتأسّوْن بالسلف الصالح فيحبون لله ، ويغضبون لله .

رحم الله أبا ذر

ثم مضى رسول الله صلى اللله عليه وسلم يجيشه نحو تبوك ، ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول الله ؛ تخلف فلان .

فيقول : دعوه ؛ فإن يكُ فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه .

حتى قيل : يا رسول الله ؛ تخلف أبو ذر ( جندب بن جنادة ) ، وأبطأ به بعيرُه .

فيقول : دعوه ؛ فإن يكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يكُ غيرَ ذلك فقد أراحكم الله منه .

وتلوّم ( تمهّل ) أبو ذر على بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً .

 ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين ، فقال : إن هذا رجل يمشي في الطريق وحده .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا ذر .

فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله هو – والله – أبو ذر .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده .

وفي عهد عثمان رضي الله عنه نُفي أبو ذرإلى ( الرَبَذة ) ، ولم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامُه . فأوصاهما : أن اغسلاني وكفـّناني ، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمر بكم فقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعينونا على دفنه .

فلما مات فعلا به ذلك ، ثم وضعاه على قارعة الطريق .

وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق ، فلم يرُعهم إلا الجنازة على الطريق ، قد كادت الإبل تطؤها . وقام إليهم الغلام . فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعينونا على دفنه .

فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتُبعث وحدك .

ثم نزل هو وأصحابه فوارَوه التراب .

ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه ، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك .

إضاءة :

1- الشيطان والنفس الأمارة بالسوء تجتمعان على المسلم ، وتوسوسان له حتى يطرد وسواسهما ويستعين بالله عليهما ، فينجو بفضل الله تعالى ، أو تضعف نفسُه فيستمع لهما ويأخذ بوسواسهما ، فيتبعهما . ولهذا نجد بعض الرجال يتأخرون عن الركب وينكفئون إلى الوراء ، ويعودون أدراجهم . حدث الكثير من هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يزال الصراع بين المرء وشيطانه إلى يوم القيامة . فمن أيّده الله تعالى نجا ، ومن تهاون خاب وخسر .

2- ولهذا تخلف عدد من المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، حين يغلبهم الهوى ، ويزين لهم القعود ، فينسلون إلى الوراء ، ثم يتباطأون في المسير ، ثم ينفصلون عن الركب ، ويتوقفون ، ثم يعودون من حيث أتَوا ، ويظنون أنهم فعلوا الصواب ، ونجوا بأنفسهم . لكنّ التاريخ حين يذكرهم لا يرحمهم . بل يجعلهم مثالاً للمتخلفين وعبرة وعظة للقاعدين .

3- والحقيقة أن من كان معك بقلبه كان إيجابياً ذا فائدة ، ومن لم يكن كذلك فهو عبء عليك ينبغي التخلص منه ، فإذا فعل هو ذلك فقد كفاك مؤونته بنفسه ، وأراحك الله منه . وهكذا كان القائد الحكيم صلى الله عليه وسلم يقول حين يخبره أصحابه بتخلف بعض من كانوا معهم " دعوه ؛ فإن يكُ فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه " . ألم يشترط سهيل بن عمرو في صلح الحديبية أن لا يعيد المشركون من ارتد من المسلمين ، وأن يعيد المسلمون من أسلم إلى المشركين ، فاعترض الصحابة لهذا الشرط المجحف ظاهراً ، ورضي به النبي صلى الله عليه وسلم ، بل نافح عنه ؟ فليس للمسلمين حاجة بمن تخلى عنهم . إن التخلص منه معافاة من ورم خبيث وعدو مقيم ! أما المسلم الذي يُعاد إلى المشركين فسيكون عيناً للمسلمين على أعدائهم .

4- المسلم الثابت على المبدأ ، المؤمن به ، الواهب نفسه له لا يحفل بالمصاعب . وهكذا فعل أبو ذر رضي الله عنه ، إذ رأى ضعف ناقته عن المسير ، فصبر عليها حتى علم أنها لن تقوى عليه ، فحمل أمتعته ومشى مسرعاً إلى ركب الرسول صلى الله عليه وسلم يغذ السير وحيداً فريداً . وكان عند حسن ظن حبيبه به . ويبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفرح به ، ويدعو له مادحاً  " رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده .

5- وتمر الأيام ، ويصدق في أبي ذر رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن لأبي ذر أسوة حسنة في سيدنا إبراهيم فقد كان أمة وحده كذلك . لقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما قاله في أبي ذر ، ولم يكن يخطر بباله أنه سيكون ممن يشهد بصدق هذا الحديث حين يرى جثمان أبي ذر ، ويدفنه في تلك الصحراء . ويبكي ابن نسعود رحمة بأبي ذر وشوقاً إلى النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

دور النفاق والمنافقين

خرج رهط من المنافقين مع رسول الله مهمتهم تخذيل المسلمين وتخويفهم من قتال الروم ، وبث الفرقة بينهم .

من بين هؤلاء ما ذكره ابن إسحاق في سيرته فقال :

كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ، ومخشّن بن حمير ، يشيرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يغمزون فيه – وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد ( قتال ) بني الأصفر ( الروم ) كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟! ، والله لكأنا بكم غداً مقرّنين في الحبال : إرجافاً وترهيباً للمؤمنين .

فقال مخشّن بن حمير خائفاً أن يصل ما يقوله أصحابه من المنافقين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فينزل فيهم قرآن يفضحهم : والله ؛ لوددتُ أن أقاضى على أن يُضرب كل رجل منا مئة جلدة وأنّا نفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وكان أقربهم إلى الفهم ، وأدناهم شفافية .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر ، أدركِ القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسَلْهم عمّا قالوا ، فإن أنكروا فقل: بلى ؛ قلتُم كذا وكذا .

فانطلق إليهم عمار، فقال لهم .

فأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته ووديعة آخذ بحقّها ( بحزامها الذي يشد حقوها ) : يا رسول الله ؛ إنما كنا نخوض ونلعب .

فأنزل الله عز وجل " ولئن سألتَهم ليقولُنّ إنما كنا نخوض ونلعب ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " ؟!.

واعتذر مخشّن بن حمير ، فقال : يا رسول الله ؛ قعد بي اسمي واسم أبي ، وكأن الذي عفي عنه في هذه الآية مخشّن بن حمير في قوله تعالى " لا تعتذروا ؛ قد كفرتم بعد إيمانكم . إن نعفُ عن طائفة منكم نعذبْ طائفة بانهم كانوا مجرمين " ، فتسمّى عبدَ الرحمن ، وسأل الله تعالى أن يأخذه شهيداً لا يُعلم بمكانه ، فقتل يوم القيامة ، فلم يوجد له أثر .

إضاءة :

1- للمنافقين دور مستمر في تثبيط المؤمنين والوسوسة لهم لصالح الأعداء ، وهم يستطيعون اختراق صفوف المسلمين بادعائهم الإسلام ، ويخالطونهم وينفثون سمومهم بينهم ، ويقومون بما لا يستطيع الأعداء الواضحون أن يقوموا به ، ولذلك كان المنافق أشد على الإسلام من صريح العداوة لأنه يتقي بلبوس الإسلام وهو يعمل جاهداً للقضاء عليه . فيلقون بين آونة وأخرى تساؤلات وجملاً قد تجد بين بعض المسلمين  آذاناً صاغية فتفت في عضدهم  ، وتبذر الشكوك والخوف في نفوس بعضهم .  مثال ذلك ما قاه المنافقون  : أتحسبون جلاد  بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟! ، والله لكأنا بكم غداً مقرّنين في الحبال.

2- قد يعود بعض هؤلاء إلى رشدهم ويتمنون لو كانوا مسلمين ، ولا يريدون الفضيحة ويتمنون أن تنزل بهم مصيبة أو تنالهم عقوبة ولا أن يُفتضحوا . ومثال ذلك ما قاله مخشّن : والله ؛ لوددتُ أن أقاضى على أن يُضرب كل رجل منا مئة جلدة وأنّا نفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . فالعربي القح لا يرضى لنفسه الصغار ولو خالف الناس فيما يعتقدون . وفي هؤلاء خير ينبغي للداعية أن يوظفه ليرفع صاحبه إلى الحق ويدله على طريق الهدى والرشاد .

3- وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، ألم  يمدحه رب العزة قائلاً : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم " ؟

فمن رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين أن جبريل عليه السلام حين أخبره بما قال هؤلاء أرسل إليهم عمار بن ياسر وهو يقول له : " أدركِ القوم ، فإنهم قد احترقوا " ، وهذا القول كناية عن المآل المخيف الذي يؤول إليه من سخر من الإسلام وأهله ، ولم يكن لهم بل عليهم .

4-  وانظر إلى طريقة التقرير الرائعة حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عماراً أن

يسألهم ما نطقوا به ، فإن نكروا ذلك فجأهم بما قالوه فأبلسوا واعترفوا . " فسَلْهم عمّا قالوا ، فإن أنكروا فقل: بلى ؛ قلتُم كذا وكذا .

فانطلق إليهم عمار، فقال لهم .

5- من ظل من المنافقين على نفاقه وملأ الظلام قلبه نراه  يقدّم اعتذاراً كانت الخطيئة فيه أقرب من الاعتذار، فهو لسفاهته وكفره يعتذر أنه كان يلهو ويمزح ، وهل يلهو العاقل بما يغضب الله ورسوله ويخرجه من الملة ؟ وما أكثر هؤلاء في زماننا ، فهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، وقد يصلـّون معنا ، لكنهم سادرون في الخطيئة والإثم ويكابرون ، فينكرون ولا يعترفون بخطئهم .

6- وما أجمل أن يتوب الإنسان ويعترف بخطئه ويرجو الله أن يعفو عنه ويهديه السبيل القويم ، فهذا مخشّن الذي قال : يا رسول الله ما ترى ممن كان اسمه واسم أبيه دليلين على الغلظة والغباء؟  فأنا مخشّن وأبي حمير !!! وللإنسان من اسمه نصيب – كما يقولون - يا رسول الله أتوب إلى الله ، مما قلت ، وأرجو مغفرته فاعف عني واسألِ الله لي المغفرة والتوبة ... يا رسول الله ؛ غيّر اسمي  . فسماه رسول الله عبدَ الرحمن . ولحسن توبته سأل الله عز وجل أن يموت شهيداً لا يُعلم بمكانه ، فأجاب الله دعاءه وقبله شهيداً . فطوبى له هذه النهاية السعيدة .

الصلح بين الرسول ويحنة

ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ( وتبوك الآن مدينة شامية من أعمال المملكة السعودية جنوب الأردن حوالي تسعين كيلو متراً )، أتاه يحنة بن رؤبة ، صاحب أيلة ، (وأيلة  مدينة بالشام على ساحل البحرالأحمر وهي الآن من أعمال السعودية ، كثيرة النخيل )، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية .

وأتاه أهل جرباء وأذرح (وهما منطقتان إلى الشمال الشرقي من أيلة )، فأعطوه الجزية فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتابا ، فهو عندهم .

كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليحنة

فكتب ليحنة بن رؤبة بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله  ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة ، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام ، وأهل اليمن ، وأهل البحر . فمن أحدث منهم حدثا ، فإنه لا يحول ماله دون نفسه . وإنه طيب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يُمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.

إضاءة  :

1-   أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمان للنصارى من أهل الشام ، وصالحهم على أن يعترفوا بتبعيتهم للدولة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وأخذ الجزية منهم على أن يأمنوا على دينهم وأنفسهم وموالهم وتجارتهم . وليكون هذا العهد مثالاً للعلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب في ديار المسلمين على مر الأيام .

2-   شعار المسلمين على مدى حكمهم لبلاد النصارى في الشرق والغرب أنه " لا إكراه في الدين " فلم يُفرض الإسلام على أحد ديناً لأن الدين قناعة وإيمان ، ولا خير في إنسان يظهر غير ما يُبطن . ولا أمان له  ولا عهد ، لأنه سوف ينقض ما اتّفق عليه بمجرد القدرة على الجهر به .

3-   ولم ينتشر الإسلام بالسيف كما يزعم أعداؤه بل بالفهم والمنطق والأسوة الحسنة والقدوة الطيبة . وفي القرآن كثير من الآيات ترفض الإيمان بالإكراه " أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟ " ولكنّ الإسلام يحارب من وقف في طريقه يمنعه الوصول إلى الناس ويقف بينهم وبينه سداً مانعاً ويحارب دعاته .

4-   ولغير المسلم من المعاهدين ما للمسلمين من حرية في الحركة والتجارة والبيع والشراء وإقامة طقوسهم وشعائر عبادتهم كما وضح في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير أيلة ، ولهم ذمة الله وذمة رسوله ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح هذا المبدأ  : " من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة "

5-   وقد حفظ الإسلام للمعاهدين كرامتهم ودافع عنهم بل إننا نجد الحاكم المسلم يفرض للذمي في دولة الإسلام ما يحافظ على حياته : فقد رأى عمر رضي الله عنه في الطريق يهودياً يتكفف الناس فقال: والله ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية وأنت شاب وتركناك وأنت شيخ ، وأمر له براتب من بيت مال المسلمين .

6-   أما إذا نقض الذمي العهد فعقوبته – كماذكر النبي صلى الله عليه وسلم – قاسية إذ قال في كتابه لصاحب أيلة : فمن أحدث منهم حدثا ، فإنه لا يحول ماله دون نفسه . ولا بد أن تكون العقوبة رادعة حتى لا يجرؤ أحد على إيذاء المسلمين ونقض عقودهم ، وليكون الفاعل عبرة لغيره .