في فعل واحد إعلام لا يموت
أ.د/
جابر قميحةلقد غصت الساحة بالمتفيهقين...أدعياء العلم بالفقه , وخفايا العلم , وأسرار الشريعة , وهم " حفاة عقول " لا يملكون أية آلية يحققون بها قليلا مما يدعون . ومع ذلك ينادون بما سموه " تجديد النص الديني " . ومن هؤلاء زعيم عربي , يقال إنه لقب أخيرا بـ " ملك الملوك " . زعم هذا الزعيم – أو الملك – أن فعل الأمر (قل) كان ضروريا أيام محمد – صلى الله عليه وسلم – فيقول له ربه : قل هو الله أحد ..." ,فاستجاب , وآمن بها , وقالها . أما نحن فيجب ألا نكررها ما دمنا قد استجبنا له .فعلينا أن نقرأ السورة هكذا : بسم الله الرحمن الرحيم . الله أحد . الله الصمد ..... "
وهذا منطق كسيح ساقط لم يذهب إليه أحد , وعلينا – حتى يتبين لنا وجه الحق والحقيقة – أن نعايش هذا الفعل في السياق القرآني .
**********
والقرآن يحتفي بالكلمة الطيبة التي توجه وتبني وتعمر، فكانت أكثر الأفعال ورودًا في القرآن: فعل الأمر (قلْ) فقد جاء في القرآن 332 مرة بصيغة المفرد، وست عشرة مرة للجمع بنوعيه، والمثنى والمفردة، فيكون المجموع 348 مرة.
ولا أُسرف إذا قلت إن "المطلوبات" من هذا الفعل، ومضامينه تقدم أبعاد العقيدة، والخلق، والسلوك والتربية والسياسة والحكم , والحرب والسلام ... الخ . ونقدم في السطور الآتية بعض الأمثلة والشواهد توضح ماقصددنا إليه :
ـ فهو يأمر بتوحيد الله والإيمان به (قل هو الله أحد . الله الصمد) (سورة الإخلاص).
ـ والله ـ سبحانه وتعالى هو منبع الهدى، والهادي إلى الحق (قل إن الهدى هدى الله) (البقرة: 120).
ـ وهو القادر فوق عباده، وقدرته بلا حدود (قل اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء . وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء . وتذل من تشاء . بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (آل عمران: 26).
ـ ومن التوجيهات الإيمانية أن يكون عملنا خالصًا لوجه الله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأعراف: 162 ـ 163).
ـ وعلى المسلم أن "يتأمل" الطبيعة وأحوال البشر للاعتبار والاتعاظ (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (الأنعام: 11).
ـ والعمل النقي الصالح هو أساس العمران والتقدم (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) (الأنعام: 135).
ـ والعمل يجب أن يكون بصيرًا هاديًّا نافعًا. (قل هل يستوي الأعمي والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور؟) (الرعد: 16).
ـ والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس ملاكًا، ولكنه بشر يعايش الناس، ويتعامل معهم (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد) (الكهف: 110).
ـ والرحمة والعفو خليقة يجب أن يتحلى بها كل مسلم (واصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) (الزخرف: 89).
ـ وفي مجال العلائق الاجتماعية والأسرية يلقانا دستور متكامل ينظم أبعاد هذه العلائق ويقيمها على ركائز إنسانية عليا. ونكتفي في هذا المقام بآية واحدة هي (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا) (الإسراء: 23).
**********
إن ما قدمناه يعد قليلا جدا من كثير جدا مما يبوح به الفعل ( قل ) من مبادئ وقيم وسلوكيات وغيرها. وفي استقراء شامل لعطاء هذا الفعل اكتشفت أنه يقودنا إلى كل مضامين الإسلام وأعطياته للبشرية , بوصفه الدين الخاتم , وهذا الفعل وما يقود إليه في الآيات المختلفة يمكن أن يقدم لنا " الدستور الإسلامي " مركزا مبوبا شأن الدساتير الحديثة . وهو بحث طويل أدعو الله أن أنتهي منه قريبا إن شاء الله .
. وهذا الفعل "قل" في تكرراه يعكس دلالتين حاسمتين:
الأولى: أن المسلم في حياته ومجتمعه يجب أن يكون إيجابيًا فاعلاً، فعليه أن "يقول" آمرًا بالمعروف، وناهيًّا عن المنكر، ولا يسكت عن الحق وإلا كان شيطانًا أخرس، ويجب أن تكون "كلمته" هادية بانية لوجه الله. ومصلحة المجتمع (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ... (إبراهيم: 24 ـ 25).
والثانية: إبراز القيمة "الإعلامية" للكلمة في شتى المجالات: الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والأسرية، والجمالية ... إلخ. فهو منظور دعوي متجدد لا يموت؛ لأنه يقوم على التبليغ الصادق من جيل إلى جيل. فهو كصورة الشخص الواقف بين مرآتين متقابلتين , إنها تتكرر بلا نهاية ... إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .