إستراتيجية التغيير والإصلاح لدى الفرد 1
سلسلة مقالات بعنوان
إستراتيجية التغيير والإصلاح لدى الفرد
هيثم البوسعيدي
سلطنة عمان - مسقط
المقال الأول
كل إنسان يتمنى تحقيق الكثير من الأمنيات والأحلام في الحياة فهناك من يحلم بوظيفة مرموقة وهناك من يطمح إلى أن يصبح معروفا ومشهورا بين أبناء وطنه في إي مجال من مجالات الحياة وهناك من يسعى إلى توفير الأمان والسعادة له ولأسرته وقد يرى الآخر أمنيته فقط في الاستمتاع بجمال منظر غروب الشمس وآخر يجدها عند الجلوس في حديقة مع أفراد عائلته مستمتعا بالطبيعة ، لذا يعمل كثير من البشر على تحسين سمات معينة في شخصياتهم وتطوير أفكارهم من اجل إيجاد تقدم على المستوين المادي والمعنوي حتى يصلوا إلى النتائج المتميزة وتحقيق المتعة الذاتية والوصول إلى مقومات الجودة في الحياة ، كما إن تحقيق كل هذا يعتبر نسبي لأنه يختلف من شخص لآخر حسب ما يراه من معايير تقييم حياته.
وهناك مبدأين يرتبطان ارتباط وثيق بتحقيق التقدم والتحسن في حياة الإنسان وهما النصر والرزق فالنصر ما هو إلا الوصول إلى المراد، والتفوق على المنافسين سواء في العمل أو الدراسة فالطالب مثلا يسعد عندما يحصل على شهادة جامعية وبتقدير امتياز وبالمثل، فإن الرزق لا يقتصر على الحصول على المال، بل هو يشمل كل ميزة يسعد بها الإنسان كالزوجة والذرية الصالحة، والمسكن الواسع المريح، والسيارة وغير ذلك مما يتمنى المرء من متاع الدنيا ، كذلك إذا ما دققنا النظر في ما يفعله كل منا منذ أن يستيقظ وحتى آخر لحظة في يومه، فإن تفكيره وهمه وجهوده تكاد لا تخرج عن السعي وراء هاتين الفكرتين، النصر والرزق.
على سبيل المثال الشخص الذي يواجه مأزق في وضع ميزانية مالية فاعلة له كل شهر هو بحاجة فعلا لتحسين وضعه المالي فتدور في باله جملة من الأسئلة المختلفة والمتباينة هل يلجا إلى الاقتراض ويحل المشكلة بمشكلة ؟ هل يلجأ إلى الإسراف في المطالب بدون تقدير لموارد الدخل ؟ هل يستمر في إتباع نفس أسلوب المعيشة السابق ؟ هل ستبقى المشكلة بدون حل حتى تتفاقم وتؤدي إلى نتائج وآثار عكسية ؟ هل يقابل كل ذلك بالإهمال واللامبالاة لكن حل المشكلة متوقف أولا على رغبة وحاجة الشخص الشديدة من اجل تقويم وضعه المالي وتحسينه ليجعل نفسه اسعد وأحسن حالا في الأيام القادمة ثم تأتي بعد ذلك الخطوات الأخرى من تفكير وتخطيط.
من جانب آخر كل إنسان في حياتنا وقع ولا يزال يقع في جملة من الأخطاء والسلوكيات الغير السليمة مؤذيا بذلك نفسه وأهله ومجتمعه وربما وطنه ، والسلوك الخاطئ هو دائما ضد الفطرة السليمة وضد مفهوم الشخصية السوية التي تهدف جميع الشرائع السماوية إلى الوصول إليها وهذا السلوك الخاطئ يكون ترجمة فعلية لحالة أو شعور تعتري الإنسان . فمثلا خلق الله سبحانه وتعالى فينا شهوة الجنس لكن ترجمة هذا الشعور أو الشهوة بطريقة وأسلوب خاطئ بعيد عن رابطة الزواج هو ما نسميه السلوك الخاطئ ، لكن ليست المشكلة الكبرى في السلوك الخاطئ بحد ذاته لأن كل ابن آدم خطاء بقدر استمرارية الإنسان على ارتكاب هذا السلوك الخاطئ والتكيف معه لمدة طويلة من عمره حيث إن هذا الأمر يعتبر إصرار وتماديا في الهفوات وإتباع الهوى الشخصي دون أن يدرك هذا الفرد سلبيات وآثار ما يفعله على المدى البعيد.
لذا فإن إصرار الفرد على ارتكاب الأخطاء له آثار ومساوئ مستقبلية على كافة الأصعدة ، كما إن الخطأ يجتر معه خطأ آخر ليكون سلسلة معقدة من الأخطاء التي يصعب على الإنسان التخلص منها ليصبح أسيرا لتلك الأخطاء للأبد ، فمثلا الإدمان على المشروبات الكحولية تجعل من صاحبها شخص طائش متهور عصبي المزاج متقلب غير متزن في أفعاله وسلوكياته مع الناس مما يفقده ذلك الكثير من العلاقات الشخصية ويجعل علاقاته الأسرية في مهب الريح . لذلك فأننا نرى إن كل الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة حذرت من تلك السلوكيات المنحرفة .يصف احد الصالحين بدقة متناهية حال من يتمسك بتلك السلوكيات الخاطئة قائلا : " إنَّ العاصِي دائماً فِي أسرِ شيطانِهِ وسجنِ شهواتِهِ، وقيودِ هواه؛ فَهُوَ أسيرٌ مسجونٌ مقيَّدٌ، وَلاَ أسيرَ أسوأُ حالاً مِنْ أسيرٍ أسرَهُ أعدى عدوٍّ لَهُ، وَلاَ سجنَ أضيقُ مِنْ سجنِ الهوى، وَلاَ قيدَ أصعبُ مِنْ قيدِ الشهوةِ؛ فكيفَ يسيرُ إِلَى اللهِ والدارِ الآخرةِ قلبٌ مأسورٌ مسجونٌ مقيَّدٌ؟ وكيف يخطو خطوةً واحدةً؟"
الجزاء كما يقال من جنس العمل لذا فأن الإصرار والتمسك بالسلوكيات السيئة تجلب للإنسان الكثير من العواقب والنتائج السلبية في حياته وأخرته وقبل كل ذلك فأن المسافة بينه وبين الله تبعد كلما تمادى في الخطأ ، ثم إن رب العالمين يجازى كل إنسان حسب عمله وفعله ، وإما إن يكون هذا الجزاء على حساب صحته أو عمله بل على أعز ما يملكه الأولاد والمال فكيف بالحساب والعقاب الأخروي الشديد.
هناك أمثلة كثيرة على السلوكيات الخاطئة والأفعال غير السوية التي تتعدد مراتبها ومستوياتها وأشكالها وقد تتباين من إنسان لآخر وكل هذه السلوكيات قد تتعدد أسباب منشأها ، فإما أن تكون بسبب ضعف الوازع الديني أو غياب التربية السليمة أو شعور الفرد بالفراغ الروحي أو الهروب من الواقع الصعب ، كما إن ما يعيشه الفرد من صغره ويتعلمه الفرد من بيئته ومحيطه له دور في تشكيل تفكيره وتوجهه واهتماماته الشخصية يقول الحديث الشريف "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " .
على سبيل المثال لو أخذنا سلوك الكذب كظاهرة خاطئة وما هية الأسباب الداخلية التي تدفع بعض الأفراد إلى هذا الخطأ : الشخص الذي يكذب : هل ستصلحه عظات عن مضار الكذب أو توبيخ له على كذبه؟ أم أن الأعمق تأثيراً عليه الدخول إلى أعماقه والبحث عن السبب الحقيقي الذي يجعله يكذب
هل السبب في الكذب تغطية خطأ معين يخشى من انكشافه؟ أم هل تعود على رؤية والداه يكذبان أمام الناس فسار على دربهما ؟ أم الرغبة في الحصول على منفعة ما؟ أو القصد من الكذب هو الافتخار والتباهي؟ أو التخلص من الإحراج؟ أو السبب هو الخجل؟ أم تقصيره في أداء الواجبات الدينية أدى به إلى الكذب ؟ أم هي قد أصبحت عادة بحيث يكذب حتى بلا سبب؟ أم هو يكذب بقصد الفكاهة أو بقصد الإغاظة؟ أو التلذذ بالتهكم والاستهزاء بالناس؟!
ولا يقدر على تحديد السبب إلا الشخص نفسه " الكاذب " ولن يستطيع أي شخص أن يصبح صادقا في كل تعاملاته إلا بعد إدراكه لحقيقة كذبه المستمر وتفكيره الدائم بسلبيات هذه العادة ورغبته الأكيدة بأن يغير سلوكه الخاطئ إلى سلوك صحيح.
إذا الحاجة الماسة والعاطفة القوية التي تربط الفرد بمفاهيم تحقيق التحسن والتقدم وتحويل السلوكيات المنحرفة إلى سلوكيات صحيحة هي ما نسميه الرغبة ، الرغبة وهي أول لبنة في قاعدة التغيير والإصلاح لدى الفرد وهي التي تجعل العقل البشري مشغول ومرتبط بها من خلال التفكير الدائم والرغبة هي من الضروريات الأساسية لحياة الإنسان التي لا يستطيع العيش بدونها ، فمن منا لا يرغب أن ينمو ويتوسع ويتعلم ويساهم ويحلم ويحقق ذاته في مجتمعه ومن منا لا يرغب بأن يترك عادات سيئة سيطرت على حياته لسنوات عديدة وأرهقته ماديا ومعنويا تلك ما يمكن أن نطلق عليها الرغبات التي تتعدد درجاتها وهي بالتدريج كما يلي :
الرغبات الفسيولوجية : الهواء والطعام والنوم – الرغبة إلى الأمن و الآمان كالحاجة إلى العيش في مجتمع آمن بعيد عن المخاطر - الرغبات الخاصة بالانتماء: التفاعل مع المجتمع والولاء للوطن - الرغبة إلى تقدير النفس: الإحساس بالذات، والمهارات المكتسبة التقدير، والاحترام - الرغبة إلى تحقيق الذات: من خلال الاحتياج الجسماني والشعوري والعقلي والنفسي .
لكن ظهور بوادر الرغبة مرتبط بوقفة التفكير مع النفس والتأمل المستمر بالحال لذا فإن الإنسان العاقل هو من يقف وقفة تفكير مع نفسه في وسط كل الظروف والمصاعب التي يعيشها ليفكر في حياته لماذا هو موجود ؟ هل لديه إحساس بأن الله راضا عنه؟ هل هو راضي عن نفسه ؟ هل هو راضي عن وضعه المادي والمعنوي ؟ هل علاقاته الشخصية والمجتمعية جيدة ومتوازنة ؟ هل أفكاره وآراءه المختلفة سليمة ؟ هل سوف يستسلم للملذات و الشهوات ؟ هل كل أفعاله وأقواله سليمة ؟ إذا هذه الوقفة هي وقفة تفكير عميقة يسترجع فيها الإنسان سلوكيات وتصرفات وأحداث ومراحل الماضي مع تقييم لوضعه النفسي والمعنوي والاجتماعي ليستفيد من كل هذا في المستقبل مما يثمر عن ذلك تحقيق ما يريده من أهداف وطموحات و ينقي نفسه من الشوائب ويكبح رغبات نفسه الأمارة بالسوء حتى لا تستمر في طغيانها وانحرافها اللامحدود.