دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية 14

دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية:

الحركة والشخصيات

(14)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط، والمغالاة).

****************************

شخصيات في رحاب الدعوة:

وفي الصفحات التالية أتناول بالحديث الموجز بعض شخصيات الإخوان، وثمة اعتبارات أقدمها بين يدي هذا الحديث، وتتلخص فيما يأتي:

1ـ أغلب هذه الشخصيات من مدينة المنزلة (المدينة).

2ـ اختيار الشخصيات لم يعتمد دائمًا على أهميتها، وفاعليتها، وما قدمته للدعوة من جلائل الأعمال، بلد قد يعتمد على اعتبارات أخرى منها المواقف الطريفة والتصرفات التي تشد النظر.

-- ----------------------

نزله ذاونبدأ بالمنصورة , ففيهاعدد من الدعاة ذوي التأثير القوي، والقدرة على التعبير والإقناع، ومن هؤلاء الأساتذة: محمد العدوي، وعلي فودة نيل، ومحمود حجر، ومن هؤلاء صلاح الشربيني.

صلاح الشربيني:

من كفر الجنينة مركز المنصورة، كان يعمل مدرسًا للمواد العلمية في المعهد الديني بالمنصورة. كان خفيف الوزن، ذكيًا حاضر البديهة، قديرًا على الحركة والتصرف، وكان محدثًا بارعًا قوي الإقناع يجمع بين الفكر، والعاطفة في مزج فائق.

ما جالسناه إلا وشدنا إلى حديثه بصوته الخفيض الهادئ. وكان في إقناعه يستعين بأمثلة من الواقع المعيش. وما وضع حلاً لمشكلة إلا وكان هو أنجع الحلول وأوفاها. وكان يتميز بسماحة الداعية ومرونته.

كنا في مت يوم (وكان الخميس الأول من أحد الشهور) , فسأل أحد الطلبة زميله:

ـ ما الذي ستغنيه أم كلثوم الليلة؟

فغضب أحد الإخوة، وقال: عيب يا أخي، أم كلثوم إيه.. وبتاع إيه؟

فاعترض الأستاذ صلاح، وقال:

ـ لا ياأخي سيبه يسمع أم كلثوم, يا أخ اسمع أم كلثوم..لكن بجانب ذلك اسمع الشيخ رفعت. وكان واسع الصدر، وعنده لكل نقد أو سؤال جوابه الشافي ومن أمثلة ذلك:

- أنني وجدت منه اهتمامًا خاصًا بعلية القوم، وذوي الغني والحيثيات لجذبهم للدعوة. وكان يعطي اهتمامًا كبيرًا بسعد الشناوي، وهو من أغنى أغنياء المنصورة. فقلت له:

يا أخ صلاح: إن الله سبحانه وتعالى يلوم نبيه قائلاً: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)) (سورة عبس: 1ـ4). ويقول: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ....) (الكهف: 28).

هذا صحيح، ولكن الله في عشرات من الآيات تحدث عن المحسنين وعن الجهاد بالنفس والمال.. ولا يقدر على ذلك إلا الأغنياء، فالدعوة قامت على أكتاف أمثال أبي ذر، وابن مسعود، وبلال بن رباح، وكثير من المجاهيل الذين لم يذكرهم التاريخ، وكذلك علىأكتاف أثرياء مثل: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، الذي جهز منماله الخاص جيشًا كاملاً هو جيش العسرة.

ومن طبيعة المجتمع الإسلامي أنه كان يعيش على التكامل فقد ضم القائد الفذ كخالد بن الوليد، وحافظ القرآن كابن مسعود، والإداري البارع كعمر بن الخطاب، وعالم الأنساب كأبي بكر، وراوي الحديث كأبي هريرة.. تخصصات متعددة تكاملت فصنعت نسيج المجتمع الإسلامي، ولو كان المجتمع من القادة العسكرية العباقرة لفسد المجتمع.

وهناك واقعة تدل على الحكمة، وبراعة التصرف خلاصتها:

أننا كنا جلوسًا في شعبة "ميت حدر" بالمنصورة، وكان للإخوان سيارة برمائية في شكل قارب، ركنها الأخ صلاح خارج الشعبة. وأخذ بعض الأطفال يعبثون "بكلاكس" السيارة، فإذا خرجنا إليهم ولوا هاربين.. كانوا قرابة ستة ما بين العاشرة، والثانية عشرة، ويظهر عليهم أثر الفاقة والتشرد وأخذوا يعيدون الكرة: ضرب الكلاكس بصوته المزعج.. نخرج إليهم.. يولون هاربين.

ولم ينفع تهديدنا لهم.. كل ذلك والأخ صلاح، داخل الشعبة مع مجموعة من طلاب الأقاليم. سألنا: إيه الحكاية.. فأخبرناه بما يحدث.

والحل؟

ـ مفيش فايدة.. لا بد أن يجلس واحد منا في السيارة.

ـ تعالوا معي .. وانظروا كيف سأحلها لكم.

وخرجنا مع صلاح.. وأشار إلى أكبر الأولاد سنًا، وأرثهم هيئة، وكان هو الذي يقود الأولاد في عدوانهم.

ـ تعال متخافشي.. أنا شايف أنك أجدع ولد في الأولاد.. لذلك ستكون العربية تحت مسئوليتك أنت.

وأجلسه الأخ صلاح في السيارة. وعدنا إلى الشعبة، ولم نعد نسمع للكلاكس صوتًا.

ـ شفتم إزاي حلتها لكم في دقيقة.

ـ لكن يا أخ صلاح كيف نستعين بولد قذر مثل هذا؟

ابتسم وقال: أما سمعتم الحكمة الخالدة "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر".

وكان كريمًا كرمًا حاتميًا. وأذكر في هذا السياق، أننا كنا نتدرب تدريبًا عسكريًا شاقًا في معسكر على ضفة النيل في طلخا.. للتوجه بعد ذلك لضرب الإنجليز في القناة. كنا قرابة ثمانين أخًا من شعب الدقهلية، وختمنا التدريب بعملية بالذخيرة الحية استغرقت ساعة كاملة.. كانت الساعة الواحدة صباحًا. وأصر الأخ صلاح على أن نتناول طعام الإفطار عنده في "كفر الجنينة" التي تبعد عن طلخا بقرابة سبعة أميال، وسيرا على الأقدام وصلنا مع مطلع الشمس. واستيقظت القرية لإكرام ضيوف الأخ صلاح: القشدة، والعسل، والبيض، والجبن، والخبز الساخن، كل ذلك بكميات كبيرة...لقد كانت أمتع وجبة تناولناها في حياتنا.

وقد أخبرني أحد الإخوة ممن كانوا الصق اتصالاً بصلاح، أنه أراد أن يتنازل عن كل الأرض الزراعية التي يملكها لصالح فلسطين، والقضية الفلسطينية، ولكن الإمام الشهيد رفض هذا العرض.

فلما ظهرت بوادر المحنة بعد قيام الميمونة سنة 1952م، هاجر إلى السعودية، وهناك تزوج، وأنجب، ولقي ربه في أطهر بقعة ـ يرحمه الله ـ.

2 ـ محمود إبراهيم الجميعي:

هو علم من أعلام الإخوان في المطرية دقهلية، وهو داعية بسلوكه وخلقه، قبل أن يكون داعية بالمواعظ، والكلمات، كان يعمل تاجرًا في الأدوات المنزلية، وله دكان قبالة دكان البقالة الكبير الذي يملكه والده، فقد كان من أكبر تجار المطرية.

كنا قرابة ثمانية طلاب من إخوان المنزلة في مدرسة أحمد ماهر الثانوية بالمطرية، وبعد انتهاء اليوم الدراسي من كل خميس نذهب إلى دكان الأخ محمود، ونمكث ساعة في لقاء إيماني مثمر، وكان هادئ الصوت، كان حديثه همس، ولكن إذا جالسته تحس أنه قد ملأ قلبك بحلاوة الإيمان، ونور اليقين.

كما أنه يؤكد مقولاته بوقائع من الحياة رآها أو عاشها، مثال ذلك وهويتحدث عن قوله ـ تعالى ـ على لسان إبراهيم عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 80) قال عرضت أبي على طبيب مشهور في القاهرة، وبعد فحصه، وكتابة تذكرة الدواء (الروشتة) قال الطبيب: والدك لازم يغير جو.. خذه لحديقة الحيوان.. امش معه في شوارع القاهرة.

قال الأخ محمود: وكان يوم الثلاثاء، فصحبته إلى المركز العام ليحضر حديث الثلاثاء. وكانت أول مرة يستمع فيها للإمام الشهيد. وبعدها دار بيننا الحوار الآتي:

ـ إن شاء الله غدا سأصحبك إلى حديقة الحيوان بعدها إلى الأهرام.

لا يا ابني.. خلاص أنا الوقتي كويس جدًّا.. الشيخ حسن شبعني، والحمد لله.

وكنا ـ نحن طلبة المنزلة - حريصين كل الحرص على حضور جلسة الخميس، ففي كل جلسة نشعر بأنا شحنا بشحنة إيمانية جديدة.

لقد مضى أكثر من نصف قرن على هذه الجلسات، ومع ذلك ما زال في حافظتي كثير من كلماته كأني اسمعها هذه الساعة . ومنها:

ـ يا إخوان نحن بالدعوة "كل شيء ومن غير الدعوة لا شيء".

ـ حتى نؤمن بقيمة جماعة الإخوان علينا ألا نبحث عما قدمه الإخوان للمجتمع المصري، فهو يمكن حصره وعده، ولكن علينا أن نتصور مصر "بلا إخوان" ... في هذه الحال ستكون مصر "مكشوفة" من غير حصن، ستكون مرعى لجماعات التبشير، والإلحاد، والإباحية.

الذين يكرهوننا تجدهم في أعماقهم يقدروننا. وقد سعدت بالأمس عندما سمعت واحدًا من عامة الناس يقول لصاحبه "لقد تعاملت مع فلان وزملائه في الشركة، فوجدتهم متعاونين متحابين زي الإخوان المسلمين".

ـ علينا أن نتعلم التواضع من الإمام حسن البنا : إذا زار إحدى شعب البلاد النائية، عرض عليه كل واحد من أعيان البلد أن يبيت في منزله، فيرد الدعوة في أدب، ويؤثر أن يبيت في الشبعة كأحد الإخوان.

***

وكان في تعامله مع الآخرين يصدق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى" فما رأيته جادل بائعًا في السعر الذي يطلبه، ولا يخاطب البائع إلا بـ "يا عمي". بل إن بعضهم ـ كباعة الفاكهة، والسمك، والطيور ـ كان يخفض له السعر بعد أن يحدده، ويعلنه به، وذلك لذوقه وإنسانيته، كما سمعت من أحد باعة الفاكهة.

***

وفي سنة 1965م حكم عليه بالسجن عشر سنوات بتهمة الاشتراك مع مجموعة لقلب نظام الحكم، وقضى مدة الحكم صابرًا، شاكرًا مستسلمًا لقضاء الله. يرحمه الله .