دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية 13
دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية:
الحركة والشخصيات
(13)
أ.د/
جابر قميحة(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط، والمغالاة).
*******************
وقبل الحديث عن الشخصيات الإخوانية هناك واقعة مهمة في حياتنا أسجل خلاصتها في السطور الآتية:
كان أمل والدي أن يراني طبيبًا، ولكن حبي للأدب واللغة العربية دفعني للالتحاق بشعبة "أدبي"، والدراسة بها تكون بعد الانتهاء من السنوات الأربع الأولى من المرحلة الثانوية التي تنتهي بالحصول على شهادة "الثقافة العامة"، ثم يبدأ التخصص في الصف الخامس: إما علمي، وإما أدبي، والمدرستان اللتان تنقلت بينهما في السنوات الأربع، - وهما: مدرستا المنزلة، وأحمد ماهر بالمطرية دقهلية - توقفتا عند الصف الرابع، فحاولنا الالتحاق بمدرسة الملك الكامل الثانوية بالمنصورة، أو مدرسة المنصورة الثانوية، ولكن كان الجواب : لا أماكن.
كنا أربعة طلاب من إخوان المنزلة: أحمد عبد العزيز الخريبي، وأحمد صالح العلمي، والسيد زكي الموجي ـ رحهما الله ـ وكاتب هذه السطور.
وجاء فرج الله على يد الدكتور محمد خميس حميدة رئيس مكتب إداري المنصورة الذي يرأس كل مناطق الإخوان في الدقهلية، وقبلنا والحمد لله بمساعدة صديقه المسيحي "عزيز بقطر" وكيل المدرسة.
كان فصلنا ملاصقًا لحجرة الناظر، وبقدر ما كان "عزيز بقطر" شحيمًا لحيمًا، كان الناظر نحيفًا نحيلاً، وكأنه "صورة طبق الأصل" من الممثل "محمد كمال المصري" الشهير بـ "شرفنطح".
وأمام الفصول فناء واسع أتقن تبليطه، وبعد قبولنا بثلاثة أيام فوجئنا بمظاهرة من قرابة مائة طالب، يهتفون "لا رجعية ولا إخوان، ولا تجارة بالأديان" وغادرنا فصلنا.. ورأينا الناظر أمام المظاهرة مباشرة في صمت تام، وكان "هتيف المظاهرة" الطالب "القهوجي" وهو بطل مشهور من أبطال المصارعة، ووقف طلاب الإخوان ـ وأغلبهم من القرى التابعة لطلخا ـ لا يحركون ساكنًا مما جعل المتظاهرين يسرفون في هتافات أقبح واشد.
وأذكر من طلاب الإخوان آنذاك عادل غنيم، ابن قرية (نشا)، وعبد الغني غنيم، وشقيقه حسن من نبروه، وعبد الحليم فصادة من بيلا.
ووجدتني مندفعًا إلى الرجل الثاني في المظاهرة "واسمه البارودي" وأخذت "أعمل" لكماتي في فكيه يمنة ويسرة في سرعة برقية، أعجزته عن الرد أو الدفاع عن نفسه .
كل ذلك كان بمرأى من الناظر الذي لم يكن يبعد عنا أكثر من مترين.. وأخذ البارودي يستصرخ الناظر "شايف يا بيه"؟! إميحة "أي قميحة" كسر ضبتي يا بيه.
أما بطلهم القهوجي فأخذ يسب الدين بتشنج ".. دين الإخوان واللي جابوا الإخوان". فوجدتني في عفوية وحماسة، ودون تفكير أدفعه إلى الفصل المجاور لفصلنا وأغلقه من الداخل. وبدأت أفيق إلى نفسي، وهو ينظر إليّ نظرات تقطر بالشرر، وشعرت كأنني قط دخل باختياره قفص حيوان كاسر، كيف أقدم على هذه المخاطرة غير المحسوبة. ووجدتني أتذكر قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموتِ بدٌّ
فمن العجز أن تعيش جبانًا
ورددت بيني وبين نفسي، المثل العامي "يا طابت يا الاتنين عور" ورأيتني أرفع "دكة" من الدكك التي يجلس عليها الطلاب، "والدكة يجلس عليها ثلاث طلاب" وأقذف بها ـ في قوة وشدة ـ تجاه القهوجي، فتفاداها وصرخ في رعب "يا بويا"، وقفز من النافذة التي ترتفع عن الارض قرابة مترين ونصف. وأنا لا أصدق عيني.
وانفضت المظاهرة مهزومة منكوسة، وجلسنا ـ نحن طلاب المنزلة الأربعة ـ في مقصف المدرسة (البوفية) ـ وهو يقع في الدور تحت الأرضي، نشرب الشاي، ونستريح بعض الوقت من عناء المعركة.
ثم هممنا بمغادرة المدرسة، وبدأنا نهبط من الدور الأرضي الذي يرتفع عن الأرض قرابة مترين ونصف، وبعضهم يعتبره الدور الاول. (وكنا نسكن في الطابق الأول من منزل مسعود، قبالة المدرسة مباشرة، وفي الدور الأرضي ورشة حدادة كبيرة).
نظرنا إلى سور المدرسة فوجدناه،قد زرع من الخارج بعشرات من البلطجية، وهم يلوحون لنا بالسيوف، والسنج، وعيدان الحديد مهددين.
ماذا حدث؟ علمنا فيما بعد أن الطالب البارودي هو وإخوته، استنفروا البلطجية لضرب ـ أو لقتل ـ بتوع المنزلة بعد العلقة الساخنة التي خرج بها من المعركة. وآل البارودي من أثرياء طلخا، ويملكون عددًا من سيارات النقل والأجرة، ولهم من الأتباع والعمال كثيرون.
ماذا نفعل؟
اقترح الأخ أحمد العلمي أن نخاطر، ونشق طريقنا بسرعة مفاجئة إلى الخارج، وخصوصًا أن ما بين بوابة المدرسة ومسكننا لا يزيد على عشرين مترًا، ولكننا استبعدنا هذا الرأي.:
1ـ لأننا غير مسلحين، ولا حتى بعصي.
2 ـ ولأن الجاني من هؤلاء لن تثبت عليه أية تهمة، فالتهمة ستسجل ضد مجهول.
واقترح الأخ أحمد عبد العزيز أن نبلغ ناظر المدرسة ليستعين بالشرطة لتفريق هؤلاء البلطجية، وتمكيننا من الوصول إلى مسكننا بسلام.
واستحسنا هذا الرأي على ما فيه من شبهة ضعف واستسلام، وخصوصًا أن الناظر قد رأى بعينيه، وقائع المعركة من أولها إلى آخرها، ودخلنا حجرة الناظر، وأنا أتقدم الإخوة الثلاثة، ورفع الناظر عينيه، وترك القلم الذي كان يكتب به، وهو يغلي من الغضب، وبادرنا قائلاً بالحرف الواحد: "هه .. هه .. حلو .. حلو قوي!! ونا اللي كنت بحسبكم أولاد ناس.. طلعتم أولاد ستين ...".
وغضضت النظر والسمع عن هذا السب الفاحش، وقلت:
ـ شوف يا بيه.. على سور المدرسة من الخارج قرابة ميت بلطجي، يترصدون لنا، ويهددونا بالسيوف، وأسياخ الحديد.
ـ يعني إيه.
ـ يعني احنا الأربعة لو ضربناهم مش مسئولين.
وانتظرنا أن يفهم الرجل أننا قلة قليلة، وهم كثرة كثيرة، ولكنه انتفض واقفًا. وقال في صوت صارخ.
ـ اسمع ياواد أنت وهو, والله لو اعتديتم عليهم لحوديكم في ستين داهية.
وتركنا حجرة الناظر، ونحن في اضطراب وحيرة.. وأعدنا النظر إلى البلطجية المسلحين، فوجدناهم قد ازدادوا عددًا..
ـ بس .. وجدتها؟
قلتها وكأني عثرت على كنز..
ـ الحل في محمود الهواري.
(ومحمود الهواري) من قرية الكفر الجديد مركز المنزلة، وهو طالب في مدرسة المنصورة الثانوية، ويلقبونه بفتوة الإخوان.
ـ ولكن كيف نستدعيه..
ـ سيبوني اتصرف، ونزلنا إلى حيث غرفة التليفون (في الدور تحت الأرضي). وتحدثت إلى سكرتير مدرسة المنصورة الثانوية ـ وهو ممن يتعاطفون مع الإخوان ـ فمكنني من أن أتحدث إلى محمود. وشرحت له ما نتعرض له من خطر.. وكيف أننا ـ نحن الأربعة ـ محاصرون داخل المدرسة.
ـ ولا يهمك .. بعد نصف ساعة سترى بعينك.
وتعلقت ـ عيوننا ـ نحن الأربعة بسور المدرسة المغطى من الخارج بالبلطجية المسلحين. وبعد نصف ساعة رأينا ما يشبه معركة حقيقية : زحامًا ينفض، وصرخات تعلو، وغبارًا يثور حتى يكاد يستر ما يحدث، فذكرني بقول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤسنا
وأسيافنا تهاوي كواكبه
وتقدم إلينا الأخ محمود الهواري، يتبعه ثلاثة من طلاب المنصورة الثانوية، وهم يشرعون كرابيج لا يزيد طول الواحد منها على نصف متر.. وكنت أعتقد أن "محمود" قد حضر ومعه عشرون من الإخوة على الأقل.. فإذا بهم أربعة..
وطلب منا محمود أن نغادر المدرسة معهم..
ـ والبلطجية يا محمود؟
ـ ضربناهم.. شرّحناهم.. لم يعد لهم أي أثر.. بل إن بعضهم - من شدة الفزع، وهول المفاجأة - رمى بسلاحه وولى هاربًا.
وصدق الله سبحانه وتعالى إذ قال: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 229).
وما حدث يحمل في طياته دروسًا وتوجيهات من أهمها:
1ـ أن الأخ المسلم يجب أن يغضب لدعوته، ويدفع عنها ما يوجه إليها من مفتريات وتشويه.
2ـ أن الأخ المسلم يجب ألا يستصغر نفسه أمام الأحداث، بل يجب أن يعتبر نفسه أكبر منها، وأقوى من أعدائه؛ لأنه يستمد قوته وعزته من الله سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8) وهو القائل: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).
3ـ أن الأخ المسلم يجب أن يأخذ بكل الوسائل المشروعة لتحقيق نصرة دينه، وأمته، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
4ـ أن الأخ المسلم مهما اشتد به الكرب، وتعرض للكوارث والنكبات، يجب ألا يتسرب إلى نفسه اليأس، بل يجب أن يكون واثقًا من رحمة الله تعالى، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56).
5ـ المسلم أخو المسلم، والمسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، كذلك كان التعاون من أهم سمات المسلم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2) وعلى المسلم أن ينهض لنصرة أخيه المسلم إذا استنجد به، وإلا كان آثمًا مقصرًا في حق دينه. يقول تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).