ما زلنا بانتظار القائد
ما زلنا بانتظار القائد!!
سهاد عكّيلة
«بَدنا قائد»...
عبارة راجت كثيراً عشية «معركة بيروت» وما زالت تتردد في بعض المجالس؛ إذ تنبّه أهل السُّنة فجأة إلى أنه ليس لهم قائد!!! وهي تنمّ عن حاجة الناس الفعلية، وبالأخص الجيل الشابّ، للقائد الحقيقي بعد أن فقدوا الثقة بالقائد «الرمز» أو «الصورة» أو «الشكل» أو «المال والجاه» أو ذلك الذي «ورث» القيادة مع سائر الممتلكات...
وفي الواقع إنّ فِعْلَ الانتظار لهذا «القائد» بات مركوزاً في «التفكير الجَمعي» لدى الأمة الإسلامية في عصور التراجع؛ ومستَلهَماً من تاريخٍ طويلٍ من التغنّي بالأمجاد الغابرة، وبالقادة الأبطال.
ولعل ما دفعني لمناقشة مفهوم «القائد»، بالإضافة إلى ما تقدّم، حلول مناسبة ذكرى فتح بيت المقدس على يد القائد المظفّر الناصر لدين الله صلاح الدين الأيوبي يوم الجمعة بتاريخ 27 رجب 583هـ، والحاجة لإسقاط هذا المفهوم على تجربة صلاح الدين رحمه الله.
فهذا «القائد» لم يظهر فجأة، بل كان نِتاج مجتمع تضافرت جميع مؤسساته على صياغته صياغة هيّأت جيلاً بأكمله لقيادة النصر. وفتح بيت المقدس سبق بقرابة مئتَيْ عام من إعداد جيل الانتصار الذي أفرز قادة كمثل صلاح الدين. وتالياً، فإن حِقَب النكبات والنكسات سبقها أيضاً مئات من السنين في إعداد جيل الهزيمة الذي أفرز قادة الهزيمة.
معادلة من سنن التاريخ لا تتخلّف؛ فالدولة الإسلامية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما اشتملت عليه من قادة على رأسهم أول قائد في الإسلام صلى الله عليه وسلم لم تشيَّد من اليوم الأول لنزول الوحي، ولو شاء الله لكانت، بل سبق ذلك إعدادٌ للناس، ثم للقيادات، بما رافقه من ابتلاءٍ وتمحيص، وتهيئة للأرضية التي ستحتضن تلك الدولة، وللظروف التي ستحيط بها، ثم أعقب تلك الدولة خلافة راشدة قامت على أكتاف قادة صنعتهم البيئة الجديدة الوليدة، وصاغهم النبي صلى الله عليه وسلم وفق النموذج الإسلامي الأمثل؛ فكانت الفتوح والانتصارات، وانتشرت دعوة الإسلام، وتبوّأت الأمة موقع الريادة.
إذاً هي قيادات جماعية وأجيالٌ تستحق أولئك القادة، وليس قائداً واحداً يأتي من خارج إطار المجتمع ليقود الناس. وليس قائداً معصوماً لا يخطئ، وإنما قائدٌ ربّانيٌ عقائديٌّ عالِم ينطلق في قيادته للناس من القرآن والسُّنة، ويحكم بحكم الله وبما أُنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، قائدٌ ليس للأنا والعائلة والقبيلة - فضلاً عن التفكير الحزبي والتعصّب الأعمى- من وجدانه نصيب.
فالذي ميّز صلاح الدين في قيادته: شخصية متوازنة في أبعادها العقائدية والإنسانية والاجتماعية، جمعت بين حُسن الصلة بالله وحُسن التواصل مع الناس، وبراعة في توظيف الخامات المادية والثروة البشرية المتوفرة لديه في خدمة هدفه.
يذكر صاحب كتاب «هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس» د. ماجد عرسان الكيلاني أبرز مميِّزات الحِقبة التي عاصرتها قيادة صلاح الدين، وتتمثّل في: صحة الفكر (وهي أساس صحة المجتمعات أو مرضها)، المراجعة التربوية الشاملة، تولية أولي الألباب، المنهجية (الحكيمة) في عرض الإسلام وتطبيقه، تكامل عناصر القوة الثلاثة: المعرفة والثروة والقدرة القتالية، امتزاج الإخلاص بالاستراتيجية الصائبة في تعبئة الموارد والقوى البشرية في الأمة، وأخيراً التدرج والتخصص وتوزيع الأدوار. وأشار إلى أن تجربة جيل نور الدين وصلاح الدين تكشف عن عمق التدرج والتخصص في هذه المرحلة التاريخية التي تشكل بعض أصول محاولات اليقظة في الحركات الإسلامية الحديثة. وهذه التجربة -كما يذكر- مرت بثلاثة أطوار:
الطَّور الأول: مرحلة الجهاد التربوي أو التغيير الفكري الذي شمل جهود المدارس الإصلاحية، وهي مرحلة ركَّزت على إحداث التغيير النفسي الذي تمحور حول «الإخلاص».
الطَّور الثاني: مرحلة الجهاد التنظيمي الذي جسدته الدولة الزنكية وقاد العمل فيه نور الدين وأترابه.
والطَّور الثالث: مرحلة الجهاد العسكري الذي قاد ميادين العمل فيه صلاح الدين وأصحابه.
فلعلّ هذه المنهجية وتلك المراحل تعطي نموذجاً للمتعجِّلين بأن مخلَّفات قرون التخلُّف تحتاج إلى اعتماد سياسة النفَس الطويل في الانتقال بالحالة الإسلامية العامة من الغثائية إلى التنظيم الجادّ والإعداد الفاعل والتخطيط المتبصِّر واعتماد المرحلية في تنفيذ تلك الخطط، والتدرُّج في الانتقال من طَورٍ إلى آخر، ويسبق كل ذلك ويرافقه تربية نموذجية مسترشدة بأساليب النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه. ولعلّها أيضاً تقرِّب إلى الأذهان طبيعة الظروف والأسباب التي قادت لتحرير بيت المقدس بعد أن دنّسها الصليبيون قرابة مئة عام.
وهذا النموذج المتكامل قابلٌ للتطبيق في كل عصر، شرط أن نهيئ له قيادةً تأخذه بقوة وتُحسِن تربية الناس عليه، وتبرع في توزيع الأدوار على الطاقات البشرية، ولا تحكم بأمرها، وتستعد للمساءلة؛ ورعية يؤتَمنون على تطبيقه، وعلى مراقبة أداء القادة ومحاسبتهم؛ بحيث يعمل الكل لهدف واحد: إعادة الأمة إلى موقع الشهود الحضاري الذي انتدبها ربُّها إليه: )وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً(. عندما تولّى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الخلافة خَطَب في الناس، فكان مما قاله: «إن أحسنتُ فأعينوني وإن أخطأتُ فقوِّموني» فقام له رجل وقال: سنقوِّمك بسيوفنا هذه يا عمر. فقال له عمر: «الحمد لله الذي جعل في أمة عمر مَن يقوِّم اعوجاجَه بالسيف»! نموذج فريد للعلاقة بين القائد والرعية؛ نبت في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أناط المسؤولية بأعناق كل منهما بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت أمراؤكم خيارَكم، وأغنياؤكم سُمَحاءَكم، وأموركم شورى بينكم، فظَهْرُ الأرض خَيْرٌ لكم من بَطْنِها. وإذا كانت أمراؤكم شِرارَكم، وأغنياؤكم بُخَلاءَكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطنُ الأرض خير لكم من ظهرها» (رواه الترمذي في باب الفتن).
إذاً، لا ينبغي أن نبقى بانتظار القائد الأوحد الفريد في قُدُراته الفكرية وفي صفاته النفسية والجسدية الذي أحطناه بهالة من القداسة حالت دون إيجاده على أرض الواقع، فنمَتْ في الحسّ الجماعي للأمة فكرة «القائد الحُلُم». والذي يُخرِجنا من حالة «الوهم» تلك: المسارعة إلى صياغة جيل من القادة يُصنَع على أعين الحكماء الربانيين، بحيث يتحمّل كل فرد فيه مسؤوليته الاجتماعية في بناء المجتمع الإسلامي بكل مقوِّماته، ولا ينبغي أن يتوقّف العمل ريثما يأتي القائد، فهذا تعطيلٌ للحياة وتخلُّفٌ عن الرَّكب وتنحٍ عن موقع القيادة العالمية والريادة الإنسانية.