دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة دقهلية

الحركة والشخصيات
(10)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(ليست هذه الكلمات تاريخًا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط، والمغالاة).

في المجال الرياضي والاجتماعي:

وما ذكرناه في حلقة سابقة، أوأكثر من حلقة يمثل الرحلات والمعسكرات التي قمنا بها ـ نحن إخوان المنزلة، دون مشاركة إخوان من الشعب الأخرى.

وابتداء أقول كان هناك رحلات "تبادل الزيارات" والرحلة لا تستغرق أكثر من يومين غالبًا، ويكون للرحلة برنامج أهم ما فيه حفلات السمر.

وما زلت أذكر حفل السمر الذي أقمناه مساءً لإخوان بورسعيد في ساحة المدرسة الخديوية بالمنزلة (وهي المدرسة الابتدائية التي يملكها الأستاذ عبد الرحمن جبر رئيس منطقة الإخوان بالمنزلة) وما زالت ترن في أذني أغنية الجوال البورسعيدي رجاء مكاوي، ومطلعها:

يا رب بارك في الإخوان

                يا رب بارك في الإخوان

وانصر مرشدنا

                قائد دعوتنا

يا رب بارك

                يا رب بارك

في الإخوان

                بارك يا ربي

وكان هذا المطلع هو اللازمة التي يرددها بعده الكورس.. وكان "رجاء" نديِّ الصوت، جميل النبرات.

كما قمنا ـ نحن إخوان المنزلة ـ بأكثر من زيارة إلى شعب بورسعيد (وكان في بورسعيد عدة شُعب).

وكان لأهل المنزلة نشاط تجاري مع بورسعيد، وكانوا يطلقون عليها آنذاك "البُلْط" وأعتقد أن الكلمة تسهيل لكلمة "بورت" Port ـ أي ميبناء، وأشهر أنواع السمك "البلطي" نسبة إلى "البلط" . ومن المحلات التجارية لبعض أهل المنزلة في بورسعيد "دكان بيع الأواني النحاسية للاخ المنزولاي: حلمي حمود، ومحل من هذا النوع يملكه الحاج إبراهيم القراني (أو القيرواني) , ولوكاندة مسعد عنين , وهو من العزيزة إحدى قرى مركزالمنزلة . هذا غير مئات من العمال في الميناء، والخدمات العامة.

ولا يفوتني أن أذكر في هذا السياق أن الإنجليز كان لهم وجودهم العسكري، وثقلهم المدني في بورسعيد: لذلك شاءوا أن تقسم المدينة إلى حيين رئيسيين: حي العرب، وحي الإفرنج.

وكان الحي الأول نموذجًا سيئًا للقذارة والإهمال، وخصوصًا المنطقة الواقعة مباشرة على بحيرة المنزلة.

واسمها منطقة "المناخ" حيث راجت تربية الخنازير وتجارتها. وكنا نصل إلى بورسعيد "باللنش" أي السفينة البخارية، وقبل الوصول إلى الشاطئ بقرابة ميلين يحس الراكب برائحة منتنة أخاذة هي رائحة الخنازير ومخلفاتها.

هذا عن حي العرب. أما حي الإفرنج، أو الحي الإفرنجي فيسكنه آلاف من الأجانب، وبخاصة اليونانيين، وكان العامة يسمونهم بـ "الجريج" وربما كانت تحريفًا لكلمة "GReeK".

وفي واحدة من مواعظ أحد القسس نرى إدانته ـ وحملته الشديدة على المسيحيين لأنهم أصبحوا "يقلدون الكفار" ـ أي المسلمين ـ باستعمال الماء"..

قد يكون ـ فيما ذكرته نوع من الاستطراد ـ ولكني أرى أن المسلم يجب أن يعرف هذه الحقائق حتى يزداد إيمانًا بعظمة دينه، الذي جعل الماء أصل المخلوقات (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)) (الأنبياء: 30)، وجعل النظافة من الإيمان.

الرحلات والمعسكرات المشتركة:

ووأقصد بها ما لم يستقل به إخوان المنزلة، بل كانوا يشاركون فيها إخوانا من الشعب الأخرى، وأذكر من هذه الرحلات الرحلة التي قادها، وأشرف عليها الداعية الإسلامي الشيخ: سيد نادرين، وهو من "البجلات" مركز دكرنس دقهلية.. والرحلة كانت إلى بورسعيد، واشترك فيها إخوان من المنزلة، ومنية النصر، والدراكسة، وقرى أخرى.

ومعسكر جمصة:

وهو معسكر صيفي، اشترك فيه إخوان من شعب المدن، والقرى بالدقهلية، وجمصة قرية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت تبعد عن الشاطئ قرابة كيلو متر. فأقام الإخوان معسكرهم على الشاطئ مباشرة، وهو مكون من خيام، وعشش من البوص. ولم يكن على الشاطئ أي مبنى من المباني التي نراها الآن. وهذا يعني أن الإخوان بمعسكرهم هذا يعدون روادًا في غزو هذا الشاطئ.

وألخص في النقاط الآتية واقع هذا المعسكر، وأبعاده ووقائعه:

1ـ كان قائد هذا المعسكر والمشرف عليه هو الأستاذ صلاح الشربيني، أستاذ المواد العلمية بالمعهد الديني بالمنصورة، وهو داعية متمكن، ذو أسلوب هادئ مقنع، يجمع بين قوة العارضة، وصدق العاطفة، (ولنا حديث مفصل عن الأخ صلاح في إحدى حلقات القادمة إن شاء الله) وأشهد أن الأخ صلاح كان يدير المعسكر بدقة باركها الله.

2ـ كان المعسكر على أفواج، كل فوج من ستين أخًا، وأذكر أن المدة التي يقضيها الفوج عشرة أيام، يستغرقها برنامج تربوي وروحي، ورياضي، ومعرفي. ولكن الأخ صلاح كلفنا ذات يوم بالصوم ـ لا عن الطعام والشراب ـ ولكن عن الكلام. فعلى كل أخ ألا يتكلم من الفجر إلى المغرب إلا بلغة الإشارات. ومن ينس وينطق كلمة، أو جملة فعليه أن يدفع لصندوق المعسكر قرشًا عن كل كلمة.

ولا شك أن في ذلك تدريبًاعلى الصبر، والتحكم في الإرادة. والحقيقة أنني لا أدري إن كان لهذا النوع من الصوم أصل شرعي، أم لا، وإن جاء في القرآن الكريم: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)) (سورة آل عمران: 41). وذلك أنه حينما بشر زكريا بأن الله سيرزقه بغلام سأل الله أن يجعل له علامة على أن زوجته حامل، فأخبره الله سبحانه وتعالى أن علامة ذلك إذا قضي عليه أن يكون محبوس اللسان، فلا يعبر إلا بالإشارة، وهو حكم إلهي يعجز أي إنسان عن مخالفته.

ونحمد الله أن الأخ صلاح لم يفرض غرامة على الضحك.. لأن كثيرًا من الإشارات التي يعبر بها كانت غالبًا ما تثير الضحك.

مثال ذلك في التعبير عن حضور "الأخ سيد أبو حلاوة" بالإشارة إلى الأمام بكف مضمومة الأصابع، وذلك يعني الحضور إلى المعسكر. ثم يضم سبابة الكف اليمني إلى سبابة الكف اليسرى، وذلك يعني "الأخ" أما السيد فيعبر عنها برفع اليد إلى أعلى "لأن السيادة علو وارتقاء". و "أبو" يعبر عنها ببرم الشاربين، وأخيرًا يعبر عن كلمة "حلاوة" بوضع أطراف أصابع الكف اليمنى مضمومة على الشفتين وتقبيلها يتلو ذلك المضغ على "الفاضي" فهذا يعني "حلاوة" والإشارات مجتمعة تعني تعبيرا عن جملة "حضر الأخ السيد أبو حلاوة".

ولا شك أن فك أو فهم هذه الرموز الإشارية يحتاج إلى عبقرية من نوع خاص. وربما كان الصم البكم أقدر على فهم هذه الإشارات من الأسوياء.

ولعل أمتع ساعة وأصفاها تلك التي نؤدي فيها صلاة الفجر جماعة على شاطئ البحرمباشرة، حيث يفتح الإمام قلوبنا بعبير القرآن في ركعتي الفجر، ويسري إلى هدير البحر، فكأني بكل كلمة قرآنية قد تحولت إلى منارة فإذا بالبحر على مدّ البصر ثوب محلى بقطع براقة من الماس، ويتحول هديره إلى ترتيلة ملائكية شفيفة، فنعيش ـ نحن المصلين ـ في عالم علوي تعجز الكلمات عن وصفه، مما يذكرني ببيت أبي تمام:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به

                        نظم من الشعر أو نثر من الخطب

وازداد إيماني ويقيني بقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (سورة الإسراء: 78).

أي أقم الصلاة: صلاة الظهر لزوال الشمس عن كبد السماء، وميلها عن وسط السماء إلى جهة الغرب، وكذلك صلاة العصر , ثم أقم صلاة المغرب والعشاء عند مجيء ظلمة الليل، ثم أقم صلاة الفجر (الصبح)، فإن صلاة الفجر وما فيها من قرآنٍ تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار.

ومما كلفنا به الأخ صلاح كذلك أن يكتب كل واحد منا يومياته.. أي يكتب كل يوم صفحة تتسع لتسجيل وقائع المعسكر، وخواطره، ومدى انتفاعه ببرامجه. يكتب ذلك بلا قيود، ودون أن يطلع عليه أحد، ولكن إذا سجل مآخذا أو مقترحات فليطرحها للمناقشة.

ثم كانت المأساة:

بعد صلاة الظهر، وقبل العصر بقرابة ساعة نزلنا إلى البحر بجوار الشاطئ، فلم يكن فينا من يتقن السباحة إتقانًا يسمح له أن يبتعد كثيرًا عن الشاطئ، ثم توجهنا جميعًا إلى المعسكر لأداء صلاة العصر، وتناول الغداء. وبعد الصلاة.. جلسنا كالعادة في مجموعات؛ لتناول الغداء.. وسأل أحد الإخوة بصوت مسموع يا أخ صلاح: أين الأخ عبد السلام فرحات؟ هل كلفته بالنزول إلى القرية لشراء شيء؟

ـ أبدًا..

ووجه السؤال إلى جميع الإخوة، فأجابوا بالنفي.

وأشهد أن الأخ عبد السلام كان معنا في البحر بمايوه أزرق، وأخذ يتقاذف الكرة كالآخرين، ثم انشغل كل منا بنفسه، وهو يغادر الماء ـ وأخذنا ننادي على امتداد الشاطئ ـ عبد السلام .. يا عبد السلام. ولا مجيب.

أمر الأخ صلاح بفحص حقيبة ملابسه، فوجِدتْ كل الملابس الداخلية الخارجية كما هي، ما عدا "المايوه"، وتبادلنا نظرات صامتة منكسرة، فليس من المعقول أن يترك عبد السلام المعسكر مختارًا، وهو بالمايوه، ومع ذلك أمرنا الأخ صلاح أن ننتشر بحثًا عنه، ونزل أغلبنا إلى القرية بحثًا عنه دون جدوى.

وعدنا إلى المعسكر، ونحن في ذهول.. ثم فوجئنا بأحد الصيادين يقول: فيه واحد شاب.. يظهر كان غرقان ألقى البحر جثته على الشاطئ.. على بعد خمسة كيلو من هنا.. أعتقد أنه واحد منكم. وكانت صدمة عاتية.

ـ شكله إيه..؟ لابس إيه؟

ـ أبيضاني ... ولابس مايوه أزرق، الحقوا الجثة.. خدوها قبل الليل؛ لأن المنطقة فيه كلاب متوحشة.

وأمرنا الأخ صلاح بأن يغادر كل منا المعسكر إلى بلده.. بأقصى سرعة.. وأبقى معه خمسة من معاونيه ـ حتى تنحصر المسئولية في هذا العدد القليل.

وعدنا إلى بلادنا يعتصرنا الحزن، ترى ماذا حدث بعد ذلك؟

بعد يومين علمنا أن الأب قابل الفجيعة بجلد وصبر،.. وقال: احتسب ابني شهيدًا عند الله.. وإنا بقضائه وقدره لمؤمنون.

ودفن عبد السلام في جنازة مهيبة ضمت الآلاف من أهل المنصورة ـ رحمه الله ـ .

 وعلمت من أحد الإخوة الخمسة الذي وقفوا مع الأخ صلاح.. أن آخر يومية كتبها عبد السلام كانت في الحديث إلى البحر ومناجاته . ومما كتبه:

ـ أيها البحر.. عظيم كريم أنت.. فمنك نأخذ اللآلئ.. ومنك نأكل اللحم الطري، وفيك قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)) (سورة الإسراء: 70).

ولكنك أيها البحر جبار عنيف.. فإذا ما غضبت ابتلعت من السفن والناس ما تشاء، وتحولت أمواجك إلى موت زؤام (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) (سورة النور: 40).

وكأنما كنت يا عبد السلام تنظر إلى الغيب القريب من ستر رقيق.. يرحمك الله.