الوسطية بين العمل والأسرة
م. أسامة الطنطاوي
إن الحديث عن الوسطية يستدعي الوقوف لتكوين مفهوم حول الماهية العلمية للوسطية، باعتبارها منهجاً شرعياً بعث به سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام أولاً، وباعتبارها قانوناً يمثل أفضل صياغة للمعادلة بين العقل والنفس ثانياً.
وربما كان الاعتراف بصحة مفهوم الوسطية، وتأهيله للتأسيس والصياغة في العلم والعمل، يعد حقيقة مسلمة لا جدال حولها، بما أن "الوسطية هي الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغيير بين الحركة والسكون" .
والوسطية في العرف الشائع في زمننا تعني الاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك والنظام والمعاملة والأخلاق، وهذا يعني أن الإسلام دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق، فليس فيه مغالاة في الدين،ولا تطرف ولا شذوذ في الاعتقاد، ولا استكبار ولا خنوع ولا ذل ولا استسلام ولا خضوع وعبودية لغير الله تعالى،ولا تشدد أو إحراج، ولا تهاون، ولا تقصير، ولا تساهل أو تفريط في حق من حقوق الله تعالى، ولا حقوق الناس، وهو معنى الصلاح والاستقامة.
كما يدل الصراط المستقيم على الوسطية في مفهومها الشرعي الاصطلاحي فمثلاً في سورة الفاتحة جعله الله طريق خيار الذين أنعم عليهم، وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضالين،وفي سورة البقرة ذكره ثم ربطه بالوسطية،
فقال تعالى :- "...... يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " الآية 142 سورة البقرة
ولا تخرج معاني الوسطية عن: العدل والفضل والخيرية، والنِّصف والبينية، والتوسط بين طرفين، فقد استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (الوسط) ،أرادوا معاني: الخير والعدل، والجودة والرفعة والمكانة العالية.
وتعد الوسطية في كل الأمور من أهم مزايا المنهج الإسلامي، فأمة الإسلام أمة الوسط والصراط المستقيم بمعنى أنها تستغل جميع طاقاتها وجهودها في البناء والعمران المادي والتربوي والعلمي والثقافي من غير إفراط ولا تفريط، فهي تحقق التوازن بين الفرد والجماعة، وبين الدين والدنيا وبين العقل والقوة وبين المثالية والواقعية وبين الروحانية والمادية وغيره .
وحيث أن ضغوط العمل على الحياة الأسرية تمثل هاجسا دائماً لدى الكثيرين من العاملين من الجنسين ، إذ يتولد الخلاف والصراع حيثما يكون التداخل ملجوظا والبعد عن التوازن والاعتدال بين متطلبات العمل والحياة الأسرية.
ويشكل ذلك أمرًابالغ الأهمية بالنسبة للمؤسسات والشركات و أرباب العمل نظرًا لارتباطه بنتائج سلبية على النسبة الربحية ومستوى الجودة والانتاجية لها.
كما انه من الممكن أن يؤدي البعد عن الوسطية الى حدوث إدمان على العمل مما يترتب عليه آثارًا سلبية تنعكس على علاقة المرء با. فإدمان العمل هو صفة مميزة للشخص تشير إلى مطالب يفرضها المرء على نفسه والإفراط في العمل بشكل قهري وعدم القدرة على تنظيم عادات العمل وزيادة الانغماس في العمل بحيث يتم استبعاد معظم أنشطة الحياة الأخرى .
وقد يؤثر إدمان العمل على حياة المرء الخاصة فهو ينطوي على استثناء الأنشطة الأخرى ومن بينها قضاء الوقت مع الزوجة والأولاد ، وهو أمر ضروري لأية علاقة صحية وسعيدة.
وعندما يكون هناك توتر في العلاقة نتيجة كون أحد الزوجين مدمنًا للعمل، قد يصبح كلا الزوجان مضغوطًا وأقل دعمًا لبعضهما البعض مما قد يؤدي بهما إلى سلوكيات سلبية.
فالأشخاص الذي يعملون إلى حد تداخل العمل مع بقية حياته، يميلون إلى إدراك أن خلفية التواصل القوية مع أسرهم ليست على ما يرام. كما يميل هؤلاء الأشخاص إلى استيعاب أسرهم باعتبار أن لهم أدوارًا أسرية غير محددة المعالم تمامًا كما يريدونها أن تكون.
إن إدمان العمل ليس الآلية الوحيدة التي قد تكون أحد عوامل الصراعات بين العمل والحياة الأسرية. فالأسرة بمفردها لها متطلبات تكفي الشخص، ولكن في الألفية الجديدة وبينما يعمل أكثر من شخص لإعالة الأسرة، فإن متطلبات إقامة حياة أسرية والحفاظ على الوظيفة أو العمل يعتبر من الأهداف الهامة التي يسعى اليها الفرد في عصرنا الراهن الذي يشهد تسارعا في تغيير أنماط العمل وتطورها .
وبهذا المعني فإن الوسطية تفترض وجود الإفراط والتفريط، التحلل والتزمت. الإسراف والتقتير الخ... ولا يمكن تصور وسطية حيوية بدون تعددية، وإلا تصبح هي الوسطية الرياضية التي تعنى التوسط بين نقطتين أو أنها تتجمد في قالب واحد وتأخذ طابعاً ثبوتيا، وهو ما يتنافى مع حيوية ودينامية الإسلام .
فالحياة لاتعدو أن تكون واحدة من حالات ثلاث: إفراط في شيء، أي مبالغة فيه، أو تفريط في شيء، أي تقصير فيه، وحالة بين بين، وهي ما نسمِّيه بالاعتدال، فالمغالاة انحراف، كما أنّ الإجحاف انحراف و خير الأمور أوسطها.