الانتماء للوطن ..أولاً..

عقاب يحيى

كتبت قبل مدة مقالاً بعنوان : " لمن يكون الانتماء" ؟؟....

للطائفة؟.. للدين ؟؟.... للحزب ؟.. للفكرة ؟... للعشيرة ؟.. للجهة ..؟؟ للحارة والزاروب .. ؟؟.. أم للوطن ...؟؟...

على امتداد تاريخ سورية الحديث، وحتى أمسها القريب لم تكن المسائل ـ الجانبية ـ مطروحة بقوة طغيانها على الانتماء للوطن، بله وللأمة.. وكانت الرايات العامة هي الحامل والمحمول.. التي يجتمع الناس عليها، أو يختلفون تحت بيارقها، وتمايزات المعبّرين عنها.. وكانت جميع الانتماءات، أو الخيارات، أو الإضافات الأخرى لا ترتقي حدّ البديل، والمتناحر مع الانتماء العام.. بل يمكن أن تكون إضافات لها مثل الأفرع الصغيرة للنهر الكبير..ثم حدث الاصطراع داخل واقع بدأ مفروضا ثم أشاع مناخاته بأشكال تختبئ في شعارات ملتبسة، أو تحت عباءات الصحوة، أو من خلال هسيس الهمس، وما يسري داخل فئات المجتمع..وصولاً إلى انفجارات باتت ظواهر قاسية لا يمكن الهروب منها، ولا تغطيتها بجميع غرابيلنا .

ـ كان التدشين الرسمي غير المعلن والمدجّل في انقلاب التفحيح الذي قاده الطاغية الأكبر ـ حافظ الأسد ـ تشرين السبعين.. الذي ارتكز على مجاميع من الطائفة العلوية في الجيش والأمن.. ومنها إلى "علونة" مستترة بتلك الشعارات القومية التي نخرها ونحرها، وبلبوس البعث المتحول إلى ممسحة، ومكبّ للقذارة والنفايات.. وبما يُحدث ذلك الخلط المشبوه والمقصود بين المرفوع والواقع. بين الحقيقة والتزييف ..وعبر مجموعة من الترتيبات والخطوات التي لم تكن عفوية أبداً، والتي عملت على فرض موضعة قوية يكون لها شأنها في تأبيد استمراره، وفي نشر خيمته تحت شعار : حماية الطائفة من عدو دائم.. يهدد وجودهم.. ثم تمدمد تلك الخيمة لتشمل معظم"الأقليات" وبصيغ وعناوين تتناسب والمطلوب . وعبر ذلك، وبعد ذلك لا مانع من أن تتلون الواجهات بكل الطراطير، والعناوين المصابة بفقر الدم والمناعة الوطنية والمجتمعية.. وتصويرها على أنها جزء من الحكم، وصناعة القرار.. في حين يعلم الجميع أن مساعداً في الأمن أهم من وزير، أو قائد فرقة عسكرية منخور .

ـ إن الفشل في تجسيد المشروع النهضوي ـ الحداثي، وهزيمته الكبرى في حزيران 1967.. قاد إلى ارتجاجات كبرى كانت البنى التقليدية جاهزة لالتقاطه وتوظيفه لصالح منطوقها الذي وإن اهتزّ قليلاً..إلا أنه لم يتبدّل كثيراً، وقد اسهمت أغلبية النخب، خاصة في أبناء الأقليات، وبشكل أكثر فجاجة ونفعية بين أبناء الطائفة العلوية، في شرعنة ذلك التغيّر بوسائل الاحتيال، والتستر، وقطف الثمار الخاصة ووضعها في حساباتها.. ولا مانع حينها من ممارسة ازدواجية تغريرية، والتباسية.. تجمع ضمن توليفة غرائبية بين شعارات اليسار والعلمانية والقومية والتحررية.. وبين الاستنقاع في الماضوية لتغرف منها ما تعتبره مبررات حقّانية ضد آخر ..

ـ وبقدر ما هللت الشعوب العربية لانتصار" الثورة الإيرانية" واندفعت في أمواج التأييد لها، وتطوّع عديد المثقفين الثوريين واليساريين للتنظير فيها، وأبعادها، والانخراط فيها.. بقدر ما أرست بذور التفرقة الطائفية القائمة على أساس التمايز الديني، والمخبوصة بطريقة خبيثة مع فكر قومي ـ فارسي ـ كان يبحث في عموم طيّات التاريخ عن وسائل لإعادة أمجاد إمبراطورية لفئة من شعوب إيران المتعددة، ومن ثم إعادة إنتاج" المظلومية" معبّأة بفكرة موغلة في السرمدي عن " ولاية الفقيه " وموجبات التكتيك عبر تراث من المتراكم عن جوهر" التقية" ودلالاتها في التركيب والممارسة .

                                                    ****

بالوقت نفسه.. فإن تركيبة النظام العربي الاستبدادية ـ المتخلفة، وتغول القطرية المنحسرة، والمتكوّرة في أقفاص السائد، والكَلبنة المريضة للبقاء في الحكم والتمسك به حتى ولو عبر استجداء التبعية، والتفريط بمقدسات القضايا الوطنية والقومية : الاستقلال والحريات الفردية والجماعية وفلسطين بوجه الخصوص.. أدّى إلى الخواء.. ذلك الفراغ المُشبع بالهلهلة والأحادية والتخلف والظلم والقمع.. والباحث عن وسائل وموضعات تملأه.. إن كان ذلك موضوعياً ـ هنا ـ وما أنبته من افكار متراجعة تغوّل فيها الفكر الماضوي تحت جبّة الإسلام " التقليدي" بينما خبت وتراجعت دعوات وحركات الإصلاح الديني ومدارس تجديد الفكر والفقه والاجتهاد، أو من خلال التقاطه من جهات خارجية عديدة راحت تبني فيه، وعليه مشاريعها المستقبلية ..

ـ ومع غزو واحتلال العراق بتلك الطريقة الدامية، المفضوحة، وتدمير الدولة العراقية، وإخراج أقزام الطائفية العميلة من قماقم الإعداد المسبق.. ثم إطلاق خزينها الحقدي المترافق مع مجموعة من الإجراءات المعدّة سابقاً في حل الجيش العراقي، وغباحة العراق لكل الموبقات والنهب..برز" الغول" الطائفي بوقاحة لم يتجرّأ عليها تاريخه، ومضى يشرّعن وجوده أمراً واقعاً، ومحاصصات علنية، وتقسيماً عمودياً ينقل جراثيمه إلى عموم المنطقة، خاصة البلدان العربية التي تعرف ذلك التنوع المذهبي والإثني,,,,

ـ وحين تحدث ملك الأردن قبل سنوات من انفجار ثورات الربيع العربي عن " الهلال الشيعي " أحدث حالة من الرجّة بين مقتنع به راح يبني عليه، وبين مستنكر، أو رافض.. بينما كان المشروع الإيراني يخترق المجتمعات العربية من أقصاها لأدناها دون أن يواجه بأية موانع فعلية، أو أسوار حقيقية.. سوى ردود الفعل التشنجية، وتوتير التشنج الطائفي الباحث عن ىالفرقعة في صحاري العرب الكثيرة، الواسعة .

ـ الثورة السورية التي كانت إعجازاً وهي تخترق الصمت المريع، وهي تكسّر جدران مملكة الرعب، وهي ترفع شعارها الشهير : واحد واحد واحد الشعب السوري واحد... لم تكن سنيّة التكوين والهدف والمسار، والأمل، فقد شاركت فيها، وإن بنسب متفاوتة، فئات شعبية متعددة الخلفيات"المذهبية" وإن كانت السمة الريفية هي الغالبة.. وإن كانت نسبة المحسوبين على الطائفة العلوية أقل من المتوقع، والمفروض.. وبما طرح، منذ البداية، أسئلة تبحث عن أجوبة.. خاصة وأن أعداداً لا باس بها من المحسوبين على المعارضة، ومن النخب المثقفة.. ظهرت متخوفة، وحذرة، وأقرب إلى الحيادية، أو الاصطفاف الملتبس مع النظام.. ثم نبش السلبيات وتضخيمها ووضعها متراساً للتبرير..وبما فتح الأبواب لنمو حالات الريبة، والتشكيك في مصداقية المواقف وخلفياتها، وبات على الصادقين من هؤلاء المعارضين أن يقسموا كل حين على أنهم جزء من الثورة، وليسوا ألغاما، ولا مشبوهين فيها . بينما ظهر أن هناك من يقف ضد إسقاط النظام.. ويضع أكواماً من التخوفات التي تغرف من خزين المظلومية لاتخاذ مواقف رمادية.. ثم تصالحية تسوّق للحوار والتفاوض تحت عناوين الوطن وما يهدده من اخطار..

ـ في الوقت نفسه كان السعي حثيثاً لحرف الثورة عن جوهرها، ودفعها نحو خندقة مذهبية تخنقها، وتحول دون قدرتها على الاختراق، وتوسيع حواضنها الشعبية لتشمل معظم فئات الشعب السوري، وتحافظ على أهدافها : إسقاط النظام بهدف إقامة البديل التعددي : دولة المساواة والحق والعدل للجميع.. وليس التحول إلى شكل آخر من الاستبداد يكرّس التمزيق، والشمولية تحت رايات كلية، ويقزّم الثورة بتحويلها إلى فئوية.. بغض النظر عن منسوب الأكثرية وموقع الأقلية هنا .

ـ لقد دفعت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية باتجاه الأسلمة، وإبراز وتقوية الاتجاهات المتشددة، في حين كانت تضمر فيه القوى المعتدلة، وتحارب بأشكال مختلفة، وعلى أيدي جهات متعددة ليس النظام، والدفع الطائفي سوى أحدها الرئيس..وبما أوجد مناخات مريعة تنتشر في عموم المنطقة تحاول تحويل الصراع إلى حروب مذهبية..طاحنة، وطويلة..وهي تستقطبنخباً في جبهاتها يتحولون بطرق مريبة، وشائنة إلى رؤوس حراب .. وحملة سيوف لقطع رؤوس المخالفين ..

ـ إن الانتماء الواضح للوطن.. هو اليوم الراية الوحيدة التي يجب أن ترفع، والإطار الاحتواء، والجامع الهم لمختلف فئات الثورة، ولمجاميع الشعب... وهو الطريق إلى الحرية، والكيان الموحد..والردّ الفعلي على مشاريع التقسيم، والتطويف ..وهو لا يتعارض مع إيمان الناس وخياراتهم الفكرية والعقيدية وغيرها.. بل يسمح لجميع التلاوين أن تجد نفسها من خلاله، وعبر الإيمان بأن الشعب هو السيد، وصاحب القرا، وهو الغاية والمآب..