وقفة مع القراءة الهاجس الذي يشغل الجميع
وقفة مع القراءة الهاجس
الذي يشغل الجميع
محمد شركي
بداية أسجل استغرابي عدم استدعاء جميع من يعنيهم أمر أو شأن القراءة لحضور اللقاءات المخصصة لها من طرف من يمثلون الوزارة جهويا وإقليميا والاقتصار على عينات قد يكون بعضها من المتطفلين على هذا الشأن أو من الذين لا يزيد علمهم بالقراءة عن علم عامة الناس في حين يحشرون في لقاءات تعالج موضوع القراءة عند الناشئة المتعلمة وإن كنت لا أستغرب طريقة اللقاءات التي تدعو إليها الوزارة الوصية والتي تكون احتفالية في الغالب حيث يكون الوقت المخصص لممضوغاتها أكثر من الوقت المخصص لمصوغاتها ، وما تسجله تقاريرها الملفقة ينقض ما يسجله واقع الحال ، وهذا ما يجعل الألسنة طويلة والأذرع قصيرة . ومما يجعل هذه اللقاءات فارغة أو جوفاء عدم إيلاء بعض المسؤولين أدنى أهمية لها مركزيا وجهويا وإقليميا لأن بعض هؤلاء لا يعنيهم سوى التمسك بالكراسي التي تنكرهم ، وشغلهم الشاغل هو تمديد الجلوس على هذه الكراسي أطول مدة ممكنة تمكنه من تحصيل أكبر قدر ممكن من الامتيازات المادية والمعنوية ، وهؤلاء ممن يحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. ولم أستغرب أيضا استياء من حضروا لقاء القراءة في جهتنا بسبب غياب المسؤولين سواء في افتتاح أو اختتام هذا اللقاء . وإذا كان مشاغل هؤلاء المسؤولين كما يزعمون دائما أكبر من معضلة القراءة عندنا ،فكبر أربعا على التربية والتعليم .
وأعود إلى موضوع القراءة لأقف وقفة معجمية أولا مع فعل القراءة في اللسان العربي والذي يعني النطق بالمكتوب أو المخطوط والنظر إليه ومطالعته . وتتعدد دلالات هذا الفعل فهو يدل على الضم والجمع، فيقال قرأ الشيء إذا ضم بعضه إلى بعض . وعلى الدنو، فيقال أقرأ الأمر إذا دنا . وعلى الرجوع والإياب ، فيقال أقرأ فلان من السفر إذا رجع . وعلى التنسك ، فيقال أقرأ الرجل إذا تنسك. وعلى الانصراف، فيقال أقرأ عنه ، إذا انصرف عنه . وعلى التأخر ، فيقال أقرأ الحاجة إذا أخرها . و على الهبوب ، فيقال أقرأت الريح إذا هبت .والقراءة تطلق على الوباء أيضا ، وأقراء الشعر بحوره وقوافيه ، والاستقراء منطقا هو إثبات الحكم للكل من خلال ثبوته لأجزائه .... وذلك من غنى اللسان العربي، واقتصاده حيث تدل المادة اللغوية الواحدة على المعاني المتعددة . وما يعنينا من فعل القراءة المستهدفة في الحقل التربوي هو نطق المكتوب والنظر إليه وجمعه وضمه. أما الوقفة البيداغوجية مع فعل القراءة فتحيل على تعرف حروف الكلمة ، وتلفظها بصوت مسموع أو التقاطها بصريا من أجل الوصول إلى حمولتها الدلالية . وهو أيضا نشاط ذهني وسيكولوجي تتضافر فيه حواس البصر والسمع والنطق باعتبار اللسان عضو الذوق مزدوج الوظيفة واللمس باعتبار اليد جارحة الكتابة أيضا . وينطلق فعل القراءة من دماغ الإنسان الذي يحرك الحواس وينسق بين وظائفها المتكاملة لتحقيق الهدف من القراءة . وترتبط القراءة بالذاكرة المخزنة لأشكال وتراكيب وبنيات مكتسبة سابقا واعتمادها في فعل القراءة . ويخالط الذهني، أوفعل الذاكرة الذي هو ربط السابق باللاحق الفعل النفسي أو السيكولوجي في القراءة . ويقتضي كل ذلك انصهار العديد من المعارف في بوتقة واحدة لتحقيق فعل القراءة . وتلتقي العديد من الاختصاصات في فهم ودراسة الفعل القرائي، ويتقاطع ما هو لغوي ولساني وصوتي وخطي أو طباعي وذهني مع ما هو فلسفي وفيزولوجي وفيزيائي ... ويتوقف الفعل القرائي على خصائص ومؤهلات الممارس له فضلا عن امتلاكه مختلف المعارف المؤثرة في هذا الفعل . ويصنف الفعل القرائي حسب زاوية ممارسته لهذا تكثر النعوت المنسوبة له ، فهو فعل سماعي أو بصري أو فردي أو جماعي أو جهري أو صامت أو معبر أو مفسر أو تصحيحي أو أداتي أو منهجي... وكل هذه التصنيفات تتطلب الاستعانة بمجموعة من المعارف المتداخلة فيما بينها كما مر بنا.
وعندما تطرح مشكلة القراءة عند الناشئة فإن ذلك يعني طرح مشكلة كل المجالات والمعارف المتعلقة بالفعل القرائي . وضعف الفعل القرائي عند هذه الناشئة مرتبط بضعف مخزون الذاكرة التي يعول عليها لتحقيق هذا الفعل ، وعلى قدر هذا المخزون يكون الفعل القرائي ذلك أن القارىء يعتمد على هذا المخزون ليقرأ ،علما بأن ذاكرته تقوم بعملية ربط المخزون السابق باللاحق وتراكمه، وهو ما يجعل القارىء يقوم بعملية إدماج ذهنية بين ما سبق وما لحق . ويتوقف الأمر في الفعل القرائي على ذات القارىء قبل كل شيء، والذي تصدر عنه مجموعة أفعال وإجراءات تتراوح بين التعرف والفحص والتتبع والتأويل والإدماج ... إلخ . ولا يصل القارىء إلى التمكن من فعل القراءة إلا إذا استحضر معلومات سابقة مخزنة في ذاكرته ، وهي خليط مما هو صوتي إيقاعي ، وما هو معجمي ،وما هو مورفوتركيبي ، وما هو دلالي، وما هو تداولي وما هو سياقي ...وهلم جرا. ويأتي بعد تعرف أفعال القارىء تعرف طبيعة المقروء أو المقرو أو المقري، ذلك أنه كلما أسعف مخزون الذاكرة القارىء إلا وسهل عليه ممارسة الفعل القرائي . وكما قد يكون سبب ضعف القراءة طبيعة القارىء ، قد يعود ذلك أيضا إلى طبيعة المقروء ، وقد يعود إليهما معا . ولا يمكن أن نغفل دور من يقرىء أو الذي يجعل القارىء يقرأ أو الذي يستقرؤه أي يطلب إليه أن يقرأ . فإذا كان المستقرىء خبيرا بتحريك مخزون القارىء أو بتعبير آخر خبير بمساعدته على تشغيل هذا المخزون فإنه سيسهل له الفعل القرائي . وقد تعود صعوبة القراءة أحيانا إلى طبيعة شخصية المستقرىء وقلة خبرته بفعل الاستقراء أو الإقراء . وهكذا لا يمكن الحديث عن صعوبة القراءة دون استحضار مثلث : ( قارىء / مقروء / مقرىء أو مستقرىء ) وعناصر هذا المثلث ترتبط جدليا فيما بينها . ويخبط خبط عشواء من يراهن على عنصر من عناصر هذا المثلث لحل مشكلة ضعف القراءة عند الناشئة . ومعلوم أن النجاح في الفعل القرائي هو نجاح في أفعال تعلمية أخرى تتوقف كلها على الفعل القرائي . وليس من قبيل الصدف أن يكون الأمر الإلهي في آخر رسالة إلى البشرية بين يدي قيام الساعة ونهاية العالم هو الفعل القرائي : (( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)) ،فهذا النص القرآني يتضمن الإشارة الواضحة إلى مثلث القارىء والمقروء والمستقرىء أو المقرىء ، ذلك أن الإنسان هو القارىء ، والقلم كناية عن المقروء الذي يخطه ، والمستقرىء هو رب العزة جل جلاله أو من يسخره لذلك. والآية تشير إلى العلم المتوقف على الفعل القرائي .والفعل القرائي هو المشروع الفعال لمحاربة الجهل، لهذا جاء الأمر الإلهي به ليعلم البشر في آخر رسالة سماوية خاتمة كيف يطلبون علم ما علمهم الله عز وجل من أسرار هذا الكون وأسرار حياة فانية ، وهي مرحلة عبور إلى حياة باقية خالدة ، ومن ثم تأتي خطورة الجهل الذي هو مغامرة غير محمودة العواقب في عملية العبور، وهو جهل لا يدفعه إلا العلم عبر بوابة الفعل القرائي حتما وبالضرورة . وليس من قبيل الصدفة أن يختار بعضهم لكتبهم المدرسية عناوين من قبيل " اقرأ جيدا وافهم " . ونختم بالقول إن القراءة عبارة عن عملية التقاط وجمع وتخزين المعلومات لتشغيلها من جديد وباستمرار، وبذلك تصير القراءة وسيلة وغاية في نفس الوقت ، وهي مما يميز الكائن البشري عن غيره من الكائنات الأخرى إلى جانب مميزات أخرى يعرف بها.