غزة بين الأمس واليوم
غزة بين الأمس واليوم
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
رحم الله غزة التي لم تخضع عصبتها للعدو بالطاعة ولم تخنع له بالإذعان، ولم تعفر خدها بالتراب، رغم الموت والحصار، ورغم الجوع والدمار،تلك المدينة الصامدة التي استطالت على الهدم، واستعصت على الإجثتاث، رغم تكالب العدى عليها والمتخاذلين من القادة العرب الذين بلغ انقيادهم وتبعيتهم للعدو الذي أقام دولته على بوارق السيوف،ولوامع الحتوف،حداً لا يطاق،أولئك القادة الذين تقنّعوا بالعار،وتبرقعوا بالشنار،وتسربلوا بالدّنية،لا يخالجنى شك قط أن عرى الدين قد انفصمت عندهم وتزعزعت أشطانه، وانقطعت كل العلائق التي تربطهم بالشرف والنخوة، لقد رأينا هؤلاء الأماجد فى تلك الحرب البوار التى أفنت المئات من النساء والأطفال، لم يدفعوا عن أنفسهم معرة الخزي ولا عن بززهم العسكرية الحافلة بالأوسمة والنياشين نقيصة الجبن والخوف،رأينا قبل أن تزهق الأنفس، وتخترم المنية ما يفوق المئات من شعب غزه الذي أصابته شآبيب من الدواهى المواحق جامعة الدول العربية لم تستشط غضباً، أو تعبس تخمطاً، من تلك الاستباحة الشنيعة للدم الفلسطيني فى عاصمة شمخت شُرف جدرانها، ورسخت قواعد عزها المتين، عند العرب قاطبة ،لأنها كانت تدفع السقم، وترد العافية، إلي الجسد العربى،أما الان فهى تحمل شبحاً قاتماً من ممارستها القمعية فهى تغلق المعابر فى وجه الفلسطنيين، وتغتضب عنوة حلايب السودانية ضاربة بالوشائج وحرمة الجوار عرض الحائط،حكومة تسوم شعبها الذى يتفجر النبوغ من جوانبه، والعلم من نواحيه، بخسف وتسعى لسمل أعين من يبكى لواقع بلده المزري صاحب الريادة التي يخشون عليها من وهدة السقوط، وأن تمسى ((أم الدنيا)) بعدها واهية الصوت، مهترئة النبرات. أبصرنا تلك اللبوة الضارية ترغى وتزبد متوعدة غزه بالويل والثبور والأسد الضرغام،الهزبر العربي، قد أقعى على عقبيه كالكلب إذا احتوشته الليوث ساكناً لم ينبس ببنت شفة،بل الأدهى والأمر أنه لم يجد فى نفسه مضاً ولا غضاضة، هو وفارسه المغوار من تحميل تبعة تلك الحرب اليباب التى التهمت الأطفال، واصطلمت أنجاد الرجال، إلي حماس ويعلنا بكل صفاقة هم ومن على شاكلتهم من الرؤساء المنخوبى القلب أن حماس هى من أوقدت نار الهيجاء، وأشعلت أوراها، بسياستها الخرقاء، وبصواريخها التى لا تصدع جدران ركن متداعي،ويمعنا بعدها بلسان ذرب خلاّب، ومنطق سلس خدّاع ،بأنهما قد أزجيا النصح مراراً وتكراراً، لمغبة تلك التصرفات، إلا أن حماس قد غلّت في جهالتها، وركبت متن غرورها، فكانت أشبه بمن بحث عن مُدْيته، وانتضى سيف حَتِفْه، ْفحقّ لليهود حسم بائقة تلك الحركة التي تفاقم شرها ، واستطار اذاها فهي تعد عنده خلاصة العلل التي ينجم منها كل فساد، ويصدر عنها كل شر.
نعم لقد كان موقف الدول التي تجاور غزة تلك البقعة التي تكابد النكبات، ويجابه أهلها الذين لا يستقر لهم جنان من الروع، الموت والفناء في أزمات سابقة موقف مخزي بكل ما تحمل تلك الكلمة من معاني،فهذه الحرب التي ثار نقعها،وأوجع وقعها،وتفاقم اهتياجها،واشتدّ ارتجاجها، قد برهنت بجلاء عن الجبناء الذين أعطوا الدنية فى دينهم والذين مازالت أقدامهم راسخة فى ضراعة الجانب، وضاعة الشأن فقلائد خزيهم لا تفنى،وجلابيب ضعتهم لا تبلى،ولا يعدم المرء منا حجة للاعتقاد بأن اسرائيل التي لا تمتد إليها يد ضائم، إذا نظرت إليهم شذراً لطارت أنفسهم شعاعاً ولأقسموا بالله جهد أيمانهم أن ولائهم لها قد سارت بذكره الركبان، وأنه قد انتشرت بنوده وأفصح عن وجوده، في كل صقع وواد، فهم لا يعوذون إلا بها ولا يخافون إلا منها ولا يركنون إلا إليها.
كما جددت هذه الحرب التى حمى وطيسها، ولظى حميسها، الشعور بالقومية والإنتماء لهذا الدين الخالد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، رأينا أيها السادة تضامن النفوس واتحادها للذّب عن غزة وعرانينها الأبطال،أبصرنا العالم العربى والإسلامى المتشرذم والمتفرق إلي كينونات عديدة قد أضحى كتلة واحدة تمور بالغضب، وتغتلى بالسخط، كتلة تفصح أنها لن تعد تصبر على عنت الجموح والطغيان وأنها قريباً وقريباً جداً سوف تستأصل تلك الطائفة المجبولة على الخسة والنزالة، والتى أحالت حياتهم إلى ملاطم ومناحات، ولكن بعد أن تفرغ من الأوشاب،حُماة حفدة القردة والخنازير وكُماتهم،طغاة الغى،وبغاة الشر،ومن حذا حذوهم من قطيع النعاج الذى لجأ إلى القصاب يستظل بافيائه، وينهل من موارده ،ويلتمس عنده العزة والتمكين..ولا أدرى أى ضرب من ضروب الغفلة والهوان أطبق على هؤلاء فلقد أوقعتنا تصرفاتهم فى بيداء الحيرة.
في أعوام خلت طالعنا شرفاء يفوق عددهم الإحصاء،أطباء وأعلاميين هرعوا إلي غزة رغم المخاطر التي تحدق بهم ورغم تعنت الباغى السادر في غيه، والذي اعتاد على الفتك بتلك الناجمة التي توثق جرائمه وتعلنها على الملأ،كما شاهدنا رئيس دولة فى أمريكا الجنوبية أفنته يد المنون، بينه وبين فلسطين فراسخ وأميال،لا ينزع إلي غزة بعرق، ولا يصل إليها بنسب،يقدم على طرد السفير الإسرائيلى في رابعة النهار من بلده تعبيراً عن امتعاضه من الجرائر التى تقترفها سيئة الذكر اسرائيل تجاه النساء والأطفال فى غزة، بينما تجد سادتنا وكبرائنا الذين لا تلمح فى وجوههم نضرة الشباب، ولا في جسومهم سُترة العافية، والذين يعودون إلى محتد واحد، ودين يعصمهم من الزلل، لم يشاركوا في رأي، ولم يحفلوا بحدث، فسحقاً لهم من نخب حاكمة،ليت شعرى متى تُحطم هذه الدمى المنتفخة التي تحيد عن نفسها فرقاً، وتهرب من نفسها جزعاً،كما نظرنا عبر الشاشات البلورية إلى السيد طيب أوردغان ذلك الرجل الذي لا يعنو إلي قهر،ولا يطمئن إلي غضاضة، دائب الحركة،حاسر البال، هدفه الوحيد الذي حمله على عاتقه،وتحرك فى إطاره، هو إيقاف حرب شديدة الضراوة،يسطع عبر عجاجها أصوات المكلومين، وبكاء المعذبين.