نظرات في فكر الدكتور علي شريعتي

أ.د مولود عويمر

الدكتور علي شريعتي (1933—1977) أشهر المفكرين الإيرانيين المعاصرين في الخارج، اهتم بالتاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة، وانخرط في العمل السياسي مبكرا دفاعا عن الحرية في وطنه وفي كل بلد مستعمر أو مقهور من طرف الأنظمة المستبدة. وحكم عليه نظام الشاه بالإعدام غير أنه نجا من تنفيذه بفضل تدخل الحكومة الجزائرية وفاء لدعمه للثورة الجزائرية التي ساندها بقوة حينما كان طالبا في جامعة السوربون وسُجن من أجلها. ولم تدم شفاعة الجزائريين طويلا، حيث قتل في ظروف غامضة في منفاه بلندن في يوم 19 جوان 1977. ومن باب الوفاء دائما للمفكرين الذين وقفوا مع الجزائر في محنتها ودافعوا عن حقها في الحرية والكرامة، أخصص هذا المقال لدراسة أبرز الأفكار النهضوية للدكتور علي شريعتي رحمه الله.

تراث علي شريعتي في العالم العربي

ألف الدكتور علي شريعتي العديد من الكتب التي عالجت تاريخ الإسلام، والمذهب الشيعي، والحضارة الغربية ومسألة النهضة في العالم الإسلامي. وقدم مئات من المحاضرات حول التراث والقضايا المعاصرة والدعوة إلى التحرر من الاستبداد والاستعباد. وقام تلامذته بتفريغ المئات من الأشرطة الصوتية التي سجلت فيها محاضراته ونشرها في شكل كتيبات انتشرت حول العالم. كما تنبهوا مبكرا إلى ضرورة ترجمتها إلى اللغات المختلفة خاصة اللغة العربية لتنتشر في العالم العربي الذي كان يعيش آنذاك ظروفا اجتماعية وسياسية واقتصادية مماثلة.

وهكذا ترجمت كتب علي شريعتي إلى العربية، وكان من أبرز مترجميها: الدكتور إبراهيم دسوقي شتا وعادل كاظم وموسى قصير، علي الحسيني، إحسان صوفان، عباس الترجمان...الخ.

لقد قامت دار الأمير في بيروت بإصدار الآثار الكاملة للدكتور شريعتي بالعربية في 29 عنوانا، أذكرها هنا حسب ترتيب النشر: مسؤولية المثقف، معرفة الإسلام، مسؤولية المرأة، النباهة والإستحمار، فاطمة هي فاطمة، الإمام علي في محنته الثلاث، الحج الفريضة الخامسة، دين ضد دين، بناء الذات الثورية، منهج التعرف على الإسلام، التشيع مسؤولية، أبي وأمي نحن متهمون، التشيع العلوي والتشيع الصفوي، الدعاء، قصة حسن ومحبوبة، العودة إلى الذات، الحر إنسان بين الفاجعة والفلاح، الإنسان والتاريخ، الإنسان والإسلام، الإسلام ومدارس الغرب، سيماء محمد (ص)، الأمة والإمامة، محمد (ص) خاتم النبيين، الحسين وارث آدم، الإمام السجاد أجمل روح عابدة، الشهادة، تاريخ الحضارة، الأخلاق، تاريخ معرفة الأديان. وترجمت هذه الكتب إلى عدة لغات عالمية كالانجليزية والفرنسية...

تصورات جديدة في التاريخ

درس علي شريعتي التاريخ في جامعة السوربون ونال منها شهادة الدكتوراه في هذا الحقل المعرفي، بالإضافة إلى دكتوراه أخرى في علم الاجتماع الديني. فهو إذا مؤرخ من باب المهنة والتخصص، فاشتغل بتدريس التاريخ بعد عودته إلى إيران. كما مارس الكتابة التاريخية في قضايا متعددة خاصة ما تعلق بتاريخ التشيع وتاريخ الحضارة والأديان. غير أن المجال الذي أبدع فيه هو تفسير التاريخ أو فلسفة التاريخ لكن ليس إلى درجة وضع نظرية خاصة في هذا المجال نظرا لموته المبكر الذي حال دون إتمام هذا المشروع العلمي.

يفرق علي شريعتي بين مصطلحين التأريخ والتاريخ. أما الأول فإنه يعني "البحث والتدقيق والتحدث عن الأمور والأحداث التي وقعت في الماضي".أي هو منهج وظيفي تقني لاستحضار الوقائع الخالية على ضوء الأدلة والآثار من وثائق ومخطوطات وأرشيف وشهادات...الخ.

أما التاريخ فإنه يعني "علم صيرورة الإنسان." أو بكلمات أخرى، التاريخ هو "دراسة الإنسان وهو في حالة الصيرورة والتكوين" دون ربطه بدورة ما أو دولة معينة. وهو يصر على ذلك حينما يضع مجموعة لاءات في هذه الصياغة: "ليس التاريخ هو الاطلاع على أحوال الماضين، أو الإطلاع على مجموعة من الحوادث التي وقعت في وقت مضى قبل وقتنا هذا أو هو معرفة الحضارات والثقافات المستقلة لمجتمعات أو الاطلاع على الأقوام والأعراق الماضية، وليس التاريخ مجموعة من التغييرات والتحولات المختلفة، وليس التاريخ تاريخ الأدبيات المختلفة كالشعر والأدب والفن، حيث يقوم الفنان أو الشاعر باسم مؤرخ باختيار العناصر الموجودة في الماضي ويخلق منها شخصيات فنية تاريخية حسب ذوقه وتصوراته فيقدمها بشكل خاص ويعطيها معنى خاصا."

ويدل هذا المفهوم الذي طرحه علي شريعتي على تأثره بمدرسة الحوليات التي ظهرت في فرنسا وهي تركز على ما سماه أحد أبرز منظريها فرناند برودل بالمدة الطويلة أي تطور نشاط الإنسان في الزمن بغض النظر عن التقسيمات التاريخية التي اعتمدتها المدرسة التاريخية الغربية في تناولها للوقائع والأحداث.

وضع الدكتور شريعتي منهجا خاصا لدراسة التاريخ يعتمد على التفكيك والمقارنة والتركيب وفق مراحل متعددة: تقسيم التاريخ إلى دورات ثقافية مشخصة، دراسة كل دورة على حدة، الانتقال من دورة إلى أخرى، رسم منحنى كامل لتحول تلك الدورات المتتابعة للمجتمع الثقافي، قراءة النهايات واستلهام العبر.

ينطلق علي شريعتي في تفسيره للتاريخ من المفهوم القرآني ونقد النظريات الحديثة في هذا المجال المعرفي، فالتاريخ في نظره تتحكم فيه أربعة عوامل أساسية، وهي تتمثل في: السنن الكونية الثابتة، الشخصية الفذة، الصدفة وعامة الناس. فالتاريخ لا يصنعه فقط الأرستقراطيون، كما قال أفلاطون أو الأبطال كما قال توماس كارليل، أو الإنسان العملاق، كما قال نتشه، أو الحتمية المادية كما قال كارل ماركس أو أصحاب الدم الطاهر، كما قال ألكسيس كاريل...الخ، فشريعتي يرى أن كل هذه التفسيرات واردة لكنها مجتمعة وليس متفرقة.

كان هاجس المؤرخ علي شريعتي هو تحديد بالضبط المنعطف في أي صيرورة تاريخية بمعنى الإجابة عن الإشكالية الآتية: ما هو العامل الحقيقي الذي يحدث تغييرا مفاجئا في المجتمع، فيسبب نهضة مجتمع أو سقوط دولة؟ فالتاريخ ليس مجموعة أحداث متراكمة منفصلة بعضها عن بعض على شكل خط مستقيم، بل هي سلسلة متداخلة مترابطة الأجزاء في صورة منحنى يحكمه التحول المنطقي.

كما كان همه منصبا حول دراسة التاريخ على ضوء العلوم الحديثة التي لا يعتبرها شريعتي مصدرا للقلق والخوف، بل يرى أنه من الواجب المساهمة في تأصيلها لخدمة الثقافة الإسلامية. فهو يقول في هذا السياق: " يمكن لنا عن طريق الاصطلاحات القرآنية أن نستخرج كثيرا من المسائل العلمية المطروحة في أحدث العلوم الإنسانية المعاصرة".

ودراسة التاريخ في ضوء العلوم الاجتماعية هي التعمق في تحليل الحدث وربطه بسياقاته المختلفة، وتجديد رؤية المؤرخ وتحديث طرق تأمله في الوقائع المدروسة، والاستعانة بالعلوم الإنسانية الأخرى، والمقارنة مع نتائج بحوث غيره. إنه يعتبر على سبيل المثال الهجرة النبوية حدثا غير منعزل عن قاعدة التاريخ العام، بمعنى أن الهجرة كانت حتمية تاريخية من أجل انتقال الجماعة المسلمة من مرحلة الضعف إلى القوة، ومن البداوة إلى التمدن، كما عرفته كل المجتمعات والدول التي انتقلت من التخلف إلى التطور، فالهجرة هي إذن عامل من عوامل التمدن عبر العصور، وليست حدثا تاريخيا مرتبطا بحالة المسلمين وحدهم في فترة محددة خاصة.

نحن والعالم الغربي: أي علاقة؟

درس علي شريعتي العالم الغربي من خلال ثلاث مستويات: الحضارة، الاستحمار، والاستشراق. وتقوم هذه النظرة على مطالعته للكتب الكثيرة التي أنتجها العقل الغربي في مجال العلوم الاجتماعية، ودراساته الجامعية في جامعة السوربون على نخبة من المؤرخين وعلماء الاجتماع والمستشرقين الفرنسيين، بالإضافة إلى احتكاكه اليومي بالمجتمع الغربي.

كان علي شريعتي كثيرا ما يلجأ إلى إجراء مقارنات بين واقع الغرب والعالم الإسلامي، مستنتجا الهوة الكبيرة التي تفصل المجتمعات الغربية التي تعيش الرفاهية المادية والنظام السائد على كل المستويات والحريات المصونة للأفراد، وبين المجتمعات الإسلامية التي تغرق في الفقر والفوضى والاستبداد.

وأذكر من هذه المقارنات ما أشار إليه شريعتي في ميدان الثقافة، وهي طاهرة ما زالت قائمة إلى اليوم رغم مرور أكثر من نصف قرن على هذا المثال: "هناك بلغت الثقافة العامة مستوى بحيث يعتبر نتاج ثماني وعشرين سنة من البحث لنابغة مثل ماسنيون عن سلمان الفارسي مجرد محاضرة بالنسبة للطالب الفرنسي، وهنا تعد ترجمته الفارسية بالنسبة لإيرانيين الفضلاء من المسلمين الشيعة، نصا غامضا وغريبا وغير مفهوم، ولا يهم أحد من العلماء المهتمين بالقديم والجديد."

الإستحمار هو من أهم المصطلحات التي أنتجها عقل علي شريعتي. وهو يشبه إلى حد بعيد مصطلح القابلية للاستعمار الذي نحته قبله مالك بن نبي.

لقد شرح علي شريعتي أطروحته بالتفصيل في كتابه: "النباهة والاستحمار". فبالنسبة للمفهوم، فهو يقصد به الإستغباء والاستغفال بهدف الاستعباد والتضليل والتجهيل، فهو يقول في هذا الصدد: " الاستحمار تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية فردا كان أم جماعة. وأي دافع عمل على تحريف هاتين النباهتين لفرد أو لجيل أو لمجتمع عنهما، فهو دافع استحمار".

وقسم علي شريعتي الاستحمار إلى نوعين: مباشر، ويقصد به "تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة أو سوق الأذهان إلى الضلال والانحراف"؛ وغير مباشر، ويعني به "إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة الفورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة الفورية".

كيف نتحرر من قبضة الاستحمار؟ يجيب علي شريعتي بتفعيل النباهة الفردية والنباهة الاجتماعية لتعطيل دينامكية الاستحمار، فيتحوّل التجهيل حينئذ إلى توعية للعقول وتبصرة للأذهان، ويصير الإلهاء والتضليل يقظة وشعلة، فيصبح الفرد أو المجتمع واعيا بلحظته التاريخية، ومستوعبا لواقعه وما يدور فيه من تحديات، فيؤدي الواجبات ويطالب بالحقوق الشاملة.

أما الاستشراق، فهو يمثل في نظره أداة من أدوات الاستعمار، ووسيلة من وسائل الاستحمار. كان هم المستشرقين هو إحياء التراث الإسلامي بانتقاء مقصود ونية متعمدة؛ فهم يحققون المخطوطات التي تهتم بالصوفية عدة مرات لإيهام المسلمين أنهم شعوب "الأحاسيس المجردة الأثيرية الغيبية"، بينما يبتعدون عن المخطوطات العلمية التي هي أضعاف مضاعفة من الكتب الأخرى حتى لا تساهم في شحن الهمم وتحريك العزائم واشتغال العقول.

وهكذا يكرّس الاستشراق الصورة النمطية عند الشرقيين بوصفهم غارقين في الغيبيات والعواطف، ومنعزلين عن الواقع، وغافلين عن تطور حركة التاريخ، ومحتاجين بالتالي إلى تقليد الأخر وإتباع نظمه، واستهلاك سلعه من أجل النهوض والخروج من التخلف !

والآن، هل يفهم من نقد علي شريعتي للاستشراق اعتبار كل المستشرقين يمثلون طبقة واحدة وأيديولوجية مشتركة وغاية متفق عليها؟ إن علي شريعتي بفرّق بين المستشرقين الذين خدموا المشروع الاستعماري كما أشرتُ إليه سابقا، وبين المستشرقين الذين التزموا بالموضوعية حفاظا على مصداقيتهم العلمية قبل كل شيء، فأفادوا الثقافة الإسلامية بتحقيقاتهم وترجماتهم للتراث العربي.

ولعل أفضل دليل يثبت موضوعية علي شريعتي وإنصافه هي وجود علاقة قوية بينه وعدد من المستشرقين الفرنسيين الذين درس عليهم في جامعة السوربون بين 1960 و1964، وهم: لويس ماسينيون، هنري ماسيه وجاك بيرك. فهذا الأخير كتب تصديرا لكتاب شريعتي حول "التاريخ والقدر"، تحدث فيه عن علاقته بتلميذه الإيراني.

 كما نشر باحث فرنسي دراسة عميقة حول التعاون العلمي المثمر بين علي شريعتي وماسينيون الذي وصفه هذا المفكر الإيراني بأعظم المستشرقين في القرن العشرين !

هذه هي باختصار علاقة شريعتي بالمستشرقين المجحفين والمنصفين. أما علاقته بالمفكرين الغربيين بشكل عام فهي أيضا تتراوح بين الإعجاب والانتقاد على حسب القضايا المطروحة والمناهج المتبعة والنتائج المحصلة. ولم يخفي شريعتي إعجابه بعدد منهم سواء الذين اتصل بهم مباشرة أو الذين تعرف عليهم من خلال كتبهم، وأذكر هنا بالخصوص: عالم الاجتماع جورج غورفيتش، الفيلسوف ريمون آرون، عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والعالم الأمريكي ألكسيس كاريل...الخ.

العودة إلى الذات

تمثل دعوة الإنسان المسلم المعاصر إلى العودة إلى ذاته من أهم القضايا التي شغلت اهتمامات الدكتور علي شريعتي في جل محاضراته ومؤلفاته. غير أنه جمع أفكاره حول هذا الموضوع في كتابه الشهير " العودة إلى الذات"، المطبوع عدة مرات، وكان آخرها صدوره في عام 2011 في سلسلة "في الفكر النهضوي الإسلامي" التي أشرفت عليها مكتبة الإسكندرية، وهي تضم أبرز مائة كتاب ساهم في تطور الفكر الإسلامي في العصر الحديث.

تعيش المجتمعات الإسلامية في تناقضات ثقافية رهيبة، خاصة بعدما انحرف المثقف المسلم عن مسؤوليته تجاه رسالته وتملصه من دوره الريادي في مجتمعه، فأصبح يتراوح بين التقليد الأعمى للسلف والتبعية الحمقاء للآخر: " السلفي هو من احتفظ بملابسه وبأسلوب زينته المظهرية، ويتصرف كما كان على الدوام، والعصري هو الذي غير في ملابسه وزينته وتصرفاته لا على أساس الاختيار بل على أساس التقليد، ومن هنا لا دخل لقضية الحضارة في الموضوع."

لقد أدى هذا السلوك لدى الفرد المسلم إلى إنكار الذات والشعور بعقدة النقص والانبهار بالأجنبي والانهماك في استهلاك كل ما تنتجه عقوله ومصانعه. وصار الفرد المسلم غائبا عن لحظته التاريخية وأصبح عبدا لثقافة غيره التي فرضها الاستعمار بقوة في البداية، ثم تولت النخبة المحلية المستلبة مهمة نشرها في مجتمعاتها وفرضها بالقوة. وما نجحت هذه السياسة إلا بغياب الحس الجماعي والمسؤولية تجاه التاريخ.

ولهذا كانت العودة إلى الذات هي قبل كل شيء إحياء للضمير التاريخي الذي هو "خاصية من خصائص الروح المتحضرة، والمحافظة على هذه الآثار وإحيائها ومعرفتها يدل على الماضي المستمر والقرون والأجيال الدفينة، ليس لها فحسب قيمة عاطفية أو فنية أو علمية، لكنها تهب التحقق لتداوم تيار التاريخ والارتباط الثقافي والروح القومية. والاتصال التاريخي هو الذي يحقق رباط الجيل الحالي بماضيه الذي تشكلت فيه شخصيته."

ولا يصلح المجتمع المسلم إلاّ إذا صلحت العناصر الثلاثة المشكلة للطبقة الحاكمة في العالم الإسلامي، والتي سماها شريعتي بــ : السيف والمال والدين. ولا تتحقّق نهضته إلا بالعلم والعمل، وإصلاح كل عضو فيه لعقيدته وتفعيل الخصائص الثلاث التي أودعها الله فيه، وخصه بها عن غيره من المخلوقات، وهي: الوعي، الإرادة، الإبداع.

مسؤولية المثقف في المجتمع

علي شريعتي مثقف ملتزم، ودفع نتيجة لآرائه التجديدية ومواقفه السياسية ونشاطاته الفكرية ثمنا باهظا فعاش بين الاضطهاد والاعتقال والنفي. ولم يلتزم فقط بقضيته الوطنية فقد تضامن مع القضية الجزائرية وشارك في النشاطات المدعمة للثورة الجزائرية وربط علاقات قوية مع قادة الثورة التحريرية الموجودين في فرنسا، وتراسل مع فرانس فانون أحد مؤسسي إيديولوجية جبهة التحرير الوطني بكتاباته المختلفة. وقد نشر الدكتور إحسان شريعتي -نجل الدكتور علي- والأستاذ بجامعة السوربون بفرنسا مجموعة من هذه الرسائل المتبادلة بين والده والمفكر المارتنيكي.

يرى علي شريعتي أن "المفكر هو من يملك رؤية نقدية" لتراثه وواقعه. وقد يلمس القارئ هذه الروح النقدية في معالجته لقضايا حساسة في الفكر الإسلامي المعاصر، بطرح مفاهيم جديدة في الإمامة والأمة، الحج، الهجرة، سلطة المؤسسة الدينية، التحيز التاريخي ...الخ.

وأثارت أفكاره التجديدية المنتشرة في صفوف الشباب المثقف ومواقفه السياسية الجريئة الرائجة بين العامة، الخلاف والجدل في الحياة الفكرية والدينية والسياسية في إيران ولم يسلم علي شريعتي من هجوم وانتقادات مختلف التيارات الدينية والاتجاهات الأديولوجية الإيرانية والنظام السياسي القائم في البلاد.

وكان يرد على خصومه بالحجة والبرهان وكشف المعوّقات التي عطلت حركة التنوير والنهضة في بلاده وسائر البلدان الإسلامية، منها المثقف الغائب أو المفكر الخامل أو العالم الجبان. فقال في هذا السياق: "إن كون العالم جاهلا وبقاء المثقف عاطلا من الشعور، أو إعطائه العناوين والألقاب البارزة كالدكتور والمهندس والبروفسور وأمثالهم لحالة مؤلمة جدا، فيما إذا كان فاقدا للفهم والنباهة والشعور بالمسؤولية تجاه الزمن، وحركة التاريخ التي تأخذه معها هو والمجتمع".

فمسؤولية المثقف لا تقتصر عند علي شريعتي على وصف الأوضاع القائمة، والتنظير لبناء الذات الثورية، ورسم معالم التغيير، وإنما تكون أيضا بالانخراط الكلي للمفكر في دينامكية التغيير مهما كانت قوة المعوّقات وكثرة التضحيات وقلة الانتصارات.

وأتساءل في ختام هذا المقال: ماذا بقي من فكر علي شريعتي في إيران والعالم الإسلامي؟ إن هذا الفكر ما زال حيّا في إيران حيث أنجزت حوله أكثر من 150 بحثا وكتابا. كما نشرت عنه دراسات عديدة في العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية باعتباره فولتير الثورة الإيرانية، وواحدا من أهم المفكرين في القرن العشرين. وسيبقى الدكتور شريعتي حيّا لأن الأفكار التي طرحها حول العودة إلى الذات، وأداء المفكر لمسؤوليته الاجتماعية، وتجديد التفكير الديني للاستجابة للتحديات المطروحة، هي أفكار خالدة جديرة بالاهتمام والنقاش والتجسيد على أرض الواقع.