السجن الأحمر

تدمر !! وما أدراك ما تدمر!؟

مصطفى العلي

[email protected]

الاسم الذي طالما ارتبط بالمجد العربي من خلال الملكة العظيمة التي  تحدّت امبراطورية بيزنطة ومرّغت أنف عظمتها الأسطورية فوق رمال باديتها رغم البون الشاسع في العدّة والعتاد ضاربة أروع الأمثلة في الأنفة والشموخ والإباء ولو كان الثمن بذل النفوس والدّماء على مذابح الفداء..

يقترن اليوم اسم تدمر باسم سجنها الأحمر سيء الصيت الذي يُصَنَّف كواحد من أبشع مصانع العبودية في العالم وأقذر سجون التاريخ جنبا إلا جنب مع "الباستيل" في فرنسا التي أصبحت الأطاحة به أهم إنجازات ثورتها العظيمة التي اعتبرت نقطة انعطاف في تاريخ أوربا والعالم وغيرت مجرى التاريخ و "كوان لي سو " في كوريا الشمالية و"غوانتنامو" المعروف بل ربما اعتبرت تلك السجون محطات استجمام وترفيه مقارنة مع سجن تدمر الدموي الرهيب.

هنالك على طريق الحرير الموصلة إلى أعماق التاريخ يقع "سجن تدمر" ... هذا الاسم الشاهد على كل ما في هذا العالم من كذب ونفاق وقذارة .....

على منبسط من البسيطة وبادية على ظهر هذه الكرة الأرضية لا يخفى موقعه على أحد...تراه الشمس أول ما تستيقظ على صرخات قاطنيه المعذبين  وتأوي عندما تأوي إلى كُناسها مساء بعد أن تشهد مباراة ساخنة بين رؤوسهم الحاملة لكتاب الله وأفواههم اللاهجة بذكر اسمه العظيم وبين بصاطير الجلادين في مناسبة لا يعرفها الهاتفون لهبل بالروح والدم - كل يوم عند إدخال وجبة العشاء حيث يُحمّر اللبن بلون الدم ويمتزج الحساء المخلوط بالحصى بقطع اللحم الآدمي..

 يكفهر وجه الشمس فتختفي خلف الأفق بينما يرقدون هم - حسب نظام السجن - حتى موعد شروقها في اليوم التالي من جديد ......

كل النجوم كانت تراهم  ويراهم هلال رمضان وهم  يخوضون معركة صامتة بين أعصابهم وبين عين الشيطان -الحرس - المرابط  بجانب النافذة الكبيرة المحملقة بكل فجور من وسط السقف بما يعرف بـ "الشرّاقة" .... وهم يصارعون لتناول وجبة السحور - كسيرات من الخبز مع أربع حبات من الزيتون أو ربما ربع بيضة – كانوا قد خبؤوها منذ  الضباح  سرّا تحت  البطانية خشية أن يُضبطوا متلبسين بجريمة محاولة الصيام ممايعاقب عليه قانون السجن بالجلد ربما حتى الموت .......

كل الأفلاك تراهم  هناك تحت سقف من الأسلاك الشائكة يغطّي فضاء ساحاته السبعة المفصولة عن بعضها بأبواب حديدية تشبه أبواب القلاع.

 إلا عيون هذا العالم الأعمى وإلا إقماره التي تتتبّع عروق النفط وفلذات المعادن في أعمق أعماق طبقات الأرض لا تراهم يتلوون تحت سياط الزبانية صباح مساء ..... تحصي عدد الوفيات من حيوان الليمور في جزيرة مدغشقر النائية في المحيط الهندي وفقمة هاواي وقوارض الشنشيلا في جبال الأنديز وخنزير أسام في أقصى شمال شرق الهند ويفيض قلب العالم المتحضر شفقة عليها من خطر الإنقراض ولا يحسّ بأي حرج  أو وخزة في ضميره المتوسف للآلاف ممن يقولون ربنا الله يموتون بمختلف الطرق على أيدي خنازير البشر  على امتداد ما يزيد على عقدين من الزمن في هذا العالم الذي  لا يعلو فيه صوت فوق صوت الشيطان .

يقوم اليوم صنائع ابن سبأ بإنجازهم العظيم   بتفجير سجن تدمر وجعله أثرا بعد عينمساعدةً للقاتل على إخفاء معالم ومكان الجريمة التي تتصدر كبريات جرائم التاريخ!؟

"سحن تدمر"  تحت كل جدار ألف ألف وجع  وألف ألف أنَة وصدى ألف تكبيرة متحشرجة في صدر شهيد ..... هنا كان يمتزج ماء الوضوء مع الدم النازف من أجساد الموحدين و يختلط  الأنين مع تلاوة الذكر الحكيم  ... هنا  يمتلآ الفضاء بقراءة الإخلاص والمعوذات وسورة ياسين  عند كل فتحة باب يطل منها شيطان ... عند كل فطور وغداء وعشاء ... عند كل تفقد ومحكمة وتنفس وحمام وحلاقة وتفتيش  ... عند كل صوت طائرة تهبط في المطار المجاور حاملة القاضي مزودا بالمزيد من قوائم الإعدام إلى ميريديان تدمر حيث يستجم فترة مهمته القاضية بإزهاق أرواح –ربما- المئات من خيرة شباب هذه الأمة  في الحفلة الواحدة من حفلات الإعدام .. التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من ذاكرة عروسة الصحراء على مدار ما يقارب العقدين من الزمن... هنا ثلاثون ألف  فاتحة على أرواح ثلاثين ألف شهيد تحلّق أسرابا تمتلئ بها السماء في عاصمة الزبّاء...........

على أن تفجير البنيان لن يسدل على ملحمة التدمريين ستارة النسيان ... ستخرج أرواح الشهداء من تحت الأنقاض أشباحا تقضّ مضاجع الظالمين وصوتا كهزيم الرعد يوقظ السادرين الغافلين سيصبغون طريق الحرية بدماءهم من أماكن تناثر أشلاءهم في مدافنهم الجماعية في " وادي عويضة" في وسط الصحراء فيصبح أكثر وضوحا ويغسلون وجه الصباح بدموعهم فيغدوا أكثر إشراقا وألقا فلا تحجبه خفافيش الليل بعد الآن...