إلى القوى السياسية في مصر 1

إلى القوى السياسية في مصر

منير شفيق

الجزء الأول

يثير ما ظهر من خلاف داخل صفوف الإخوان المسلمين في مصر مجموعة من التساؤلات، التي تهم الوضع المصري وليس الإخوان المسلمون وحدهم.

ولهذا فإن هذه المقالة بعيداً عن التدخل في هذا الخلاف ستتناول أسئلة تعني الوضع المصري ككل، كما تعني القوى السياسية المصرية بعامة، سواء أكانت من معارضي النظام، أم من مؤيديه، أم ممن هم بين بين. وهي تعني النظام نفسه، ولا سيما الجيش الذي يشكل الآن القوّة القائدة من خلال عبد الفتاح السيسي، للنظام والدولة. وناهيك عما تعنيه لفلسطين وفك الحصار عن قطاع غزة.

أدّى انتصار ثورة يناير 2011، إلى إحداث تغيير عميق في موازين القوى الداخلية، بما يشمل الجيش والأجهزة الأمنية ومختلف مؤسسات الدولة، كما مختلف مكوّنات المجتمع المصري، ومختلف القوى السياسية.

لقد شكل نظام حسني مبارك، مع مرور السنين، ما يشبه الغطاء الثقيل الذي ربض على صدر مصر، مهمِّشاً بهذا القدر أو ذاك، مختلف مؤسسات الدولة والمكوّنات الاجتماعية والقوى السياسية، ومن ثم إخضاع الجميع. وقد وصل الأمر به إلى حد التواطؤ مع المحافظين الجدد في عهدَيْ جورج بوش الابن، كما السعي لتوريث ابنه جمال وفرضه على الجميع، ولا سيما على الجيش والأجهزة الأمنية.

ولهذا عندما أُزيحَ هذا الغطاء من خلال إسقاط حسني مبارك تشكلت معادلة داخلية جديدة، وكانت واحدة من سماتها الأساسية أن جميع القوى المصرية أصبحت أقوى، وراحت تتعملق وتطمح إلى أن تلعب دوراً رئيساً، أو الدور الرئيس، في تشكل النظام الجديد الذي سينبثق من المرحلة/المراحل الانتقالية.

فالجيش أصبح أقوى متسلماً قيادة مصر من خلال استقالة حسني مبارك، الذي سلم المجلس العسكري صلاحياته. وكذلك سرعان ما أعاد بناء الأجهزة الأمنية. وقد كشفت الانتخابات الرئاسية عن تنامي قوة كل من الإخوان المسلمين أولاً، كما تنامي قوى الناصريين والمستقلين والقوى الإسلامية الأخرى، بمن فيهم السلفيون. وتعاظمت قوة الكنيسة القبطية في مرحلة لاحقة. وثانياً، برز دور القضاء المصري والإعلام، بصورة خاصة، بروزاً كبيراً. وثالثاً، يجب ألاّ يُنسى هنا ما حاز عليه أحمد شفيق من أصوات انتخابية.

بكلمة، أصبحت مصر كالمرجل الذي يغلي، ودبت الحيوية والجراءة في شرايين الشباب والشابات وقوى الشعب بعامة. وهذا بمحموعة لا يسمح لأحد أن ينكر على ثورة يناير بأنها ثورة، وبغض النظر عن التطورات اللاحقة.

وهذا كله يفسّر ما انعكس عبر الانتخابات النيابية والشورية والرئاسية، أو عبر المعارضة التي تعاظمت يوماً بعد يوم لعهد محمد مرسي (إن جاز تعبير "عهد" لقصره، وعدم تمكينه من ممارسة السلطة)، وصولاً إلى التظاهرات المليونية في 30 حزيران/يونيو 2013، ثم 3 تموز/يوليو 2013 بإقالة مرسي وسجنه وتسلم قيادة الجيش السلطة كلياً. وبهذا انتهت الفترة الانتقالية الأولى بالإطاحة برئاسة محمد مرسي، وتسلم عبد الفتاح السيسي عبر انتخابات رئاسية جديدة رئاسة جمهورية مصر العربية.

واستمر المرجل بالغليان من خلال ما راح يواجه عهد السيسي، بالرغم من شعبيته، من معارضة، وتظاهرات طلابية – وشبابية وأهلية، بلا انقطاع تقريباً، ولو بزخم متواضع لا يقاس بما عرفته شوارع مصر في كانون الثاني/يناير 2011، أو في حزيران/يونيو 2013.   

أما تفاقم الصراع المسلح في سيناء فلا يدخل ضمن إطار النهوض الذي عرفته مختلف القوى إثر ثورة يناير 2011، وإنما ضمن بروز ظواهر التطرف والعنف في ظل الاختلال الشديد الذي أصاب موازين القوى الداخلية والعربية والعالمية، وما نشأ من ذلك من فوضى وصراعات وتناقضات.

لقد تشكل الآن في مصر وضع جديد بعد الإطاحة الظالمة بالرئيس محمد مرسي، بالرغم مما حملته من مسّوغات، وما تبعها من مجزرة رابعة العدوية واعتقال المئات والآلاف من الإخوان المسلمين. وقد وصل الآن إلى عشرات الآلاف، وإصدار أحكام إعدام للمئات بالجملة و"الكمشة"، كما إجراء انتخابات ترشح فيها قائد الجيش إلى رئاسة الجمهورية على غير توقع الكثيرين من أنصاره. ثم ما تشكل خلال سنة من توسيع لصفوف المعارضة حتى شملت مجموعات من شباب ثورة يناير، مثلاً حركة 6 إبريل، وشباب الألتراس، فضلاً عن عدد من القيادات الناصرية واليسارية والشبابية المساهمة في 30 حزيران/يونيو و3 تموز/يوليو 2013.

تجسّدت واحدة من سمات نظام عبد الفتاح السيسي في الذهاب بعيداً في قمع الإخوان، والسعي لتصفيتهم تنظيمياً وسياسياً، فيما ذهب الإخوان بعيداً في المطالبة بعودة الشرعية وإسقاط الانقلاب. وذلك من خلال تحريض سياسي نادى بإسقاطه، ونشاطات تظاهرية متواصلة. الأمر الذي فاقم العلاقة بين نظام السيسي والاخوان إلى حد لاحت في الأفق احتمالات إعدام مرسي وبديع وبعض القادة، كما عبّرت عن ذلك أحكام الإعدام واستفتاء مفتي الديار الإسلامية حول تنفيذها، كما يقتضي القانون في حالات الحكم بالإعدام، إذ يتوقف تنفيذه على موافقة المفتي إلى جانب رئيس الجمهورية. وبهذا دخلت مصر طريقاً مسدوداً وخطراً. وما ينبغي لأحد أن يقلل من خطورة الوضع ومآلاته إذا ما استمر على هذا المنوال.

 ضمن هذا المناخ خرج إلى العلن الخلاف بين تيارين كبيرين داخل الاخوان المسلمين، أحدهما أعلن أن خطه يتسّم بالسلمية ولا حياد عن ذلك. وثانيهما أعلن أن خطه ثوري سيلجأ إلى الأساليب الثورية في مواجهة النظام الانقلابي، باعتباره لا يفهم غير هذه اللغة.

بالنسبة إلى التيار الأول فخطه مفهوم وقد مورِس طوال الوقت منذ ما بعد قمع رابعة العدوية حتى اليوم. أما التيار الثاني فلم يُوضِّح، أو لم يتضح من خلال ممارسته، ماذا يقصد بالثورية. وهي بالمناسبة اصطلاح يساري وليس من مصطلحات اللغة الإخوانية لا قديماً ولا حديثاً.

طبعاً إن استخدام السياسة الثورية والأساليب الثورية لا يعني بالضرورة اللجوء إلى السلاح أو العنف. ولكنه يحتمله في تقاليد بعض اليساريين، وإن غلب استخدامه يسارياً بمعنى الموقف الجذري غير المساوم واللاتوفيقي. فالاختلاف بين التزام السلمية والثورية لم تتضح معالمه، ويظل تحديده شأناً داخلياً بين التيارين داخل الإخوان. وهو قابل للجمع بين النهجين إذا التزم الخط الثوري بعدم اللجوء إلى السلاح والعنف والحرب الأهلية.

الجزء الثاني

على أن الأسئلة التي تتجاوز الخلاف المذكور فأهمها كيفية معالجة الأزمة التي أُشيرَ إليها بين النظام والإخوان، أو في الأدق بين النظام ومعارضيه؟، أو السؤال الذي يواجه الإخوان والمعارضة هو: ما هي الاستراتيجية التي يمكنها أن تُواجِه استراتيجية النظام الذاهبة إلى البطش بالإخوان وتصفيتهم، وقمع المعارضة؟، فالبعض اعتبره نظاماً انقلابياً عسكرياً شمولياً (ولو كان الغطاء حراكاً جماهيرياً مليونياً)، والبعض أخذ عليه سلبيات كثيرة في سياساته الداخلية الاقتصادية والمعيشية بالنسبة إلى جماهير الشعب. وهنالك من يأخذ عليه سياساته في محاصرة غزة والعلاقات بالكيان الصهيوني، لا سيما كما تبّدت خلال حرب الـ51 يوماً وما بعدها حتى الآن. وهنالك من أنصاره من انتقدوه لمشاركته التحالف مع السعودية في اليمن. وأخيراً وليس آخراً، ثمة من يأخذ عليه افتقاره لاستراتيجية عربية متماسِكة ومبادِرة إن لم يلحظ ضعفاً وارتباكاً في سياساته عربياً.

وبعد، فإجابة عن سؤال الاستراتيجية: أولاً، هل الاستراتيجية الأنسب أن تحمل هدف إسقاط النظام وعدم مساومته، أي تكرار ثورة يناير التي نادت بإسقاط النظام وأطاحت برئيسه. وكانت استراتيجيتها التظاهر السلمي إلى حد العصيان العام والثورة الشعبية المليونية؟.

إن نجاح هذه الاستراتيجية تم بسبب توفّر ظرف وموازين قوى عالمية وإقليمية وعربية مواتية، كما توفر له داخلياً شيخوخة النظام وتبعيته لأمريكا، وتناقض رئيسه مع الجيش بسبب التوريث. فالثورة نجحت بإنزال الهزيمة ميدانياً بالجهاز الأمني. ولكن الجيش انضم لها بعد ذلك مما أسرع ويسّر لنجاح هذه الاستراتيجية. فالشرط الداخلي الذي توفر لثورة يناير غير متوفر في مواجهة السيسي، الذي يتمتع بدعم الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام، ويحظى بدعم شعبي لم يحظ بمثله حسني مبارك. وذلك بالرغم مما يمكن أن يُسجّل عليه من سلبيات ومظاهر ضعف.

إن تجربة الشعب مع النظام الجديد ما زالت في بداياتها. ولم تصل إلى حد اليأس التام منه. فما يمكن أن تسجله المعارضة من سلبيات لا يرقى إلى جنوح الشعب إلى الثورة.

كما أن الدعم العربي النظامي للنظام والتصدي لكل محاولة تغيير شعبي، يختلفان عن الوضع الذي عرفته ثورة يناير، حيث أُخِذَت الأنظمة على حين غفلة، ولم تكن لها تجربة سابقة في مواجهة ثورة شعبية شبابية، كما هو حالها الآن في أكثر من بلد عربي يُواجِه ما يشبه الحرب الأهلية، كما لم يكن للشعب تجربة قاسية مع ما يجري الآن من فتن وكوارث وأخطار الانقسامات. وكذلك الحال مع الموقف الدولي، إذ تعلّم بدوره ولم يعد من السهل أخذه على حين غرّة.

طبعاً لا يعني هذا أن استراتيجية من نمط الثورتين المصرية والتونسية 2011 سقطت من الاعتبار، أو أنها لم تعد قابلة للتكرار ضمن ظروف جديدة. بل العكس هو الصحيح، فهذه استراتيجية يجب أن تظل حاضرة، ولكن ليس بصورة تلقائية، أو بناء على الإرادوية والرغبوية، وإنما ضمن شروط قد يحتاج توفرها إلى آماد طويلة أو متوسطة. ولكن ليست قصيرة أو قريبة قطعاً. ولن تكون تكراراً بليداً لما توفرّ من شروط لثورة يناير 2011.

وهنا ينطبق المثل القائل "من قطف الثمر قبل أوانه عوقِبَ بحرمانه".

ثانياً: أما استراتيجية اللجوء إلى السلاح فأخطر ما يمكن ارتكابه، لا سيما إذا جاءت نتيجة لما تواجهه الحركة أو الشعب من قمع أو مجازر أو حتى خيانات أو كفر. فالغضب هنا أو عقلية الانتقام السريع أو ما يسمّى الدفاع عن النفس طُرُق للكوارث والدمار.. كيف؟

ذلك لأن اللجوء إلى السلاح أو العنف يجب ألاّ يكون إلاّ عبر حسابات دقيقة تنتهي بالنصر. فالسلاح ضد جيش وأجهزة أمنية موّحدة ومتماسكة وضدّ نظام لم يصل حدّ الشيخوخة والخور أو التفسّخ، طريق للفتنة وسفك الدماء والفوضى والخسران. ثم هنالك موقف الشعب إذا لم يكن مستعداً إلى اللجوء إلى السلاح. ومن ثم تصبح المعركة بين تنظيم وجيش ومصيرها فشل التنظيم. طبعاً هذا أو ذاك لا ينطبقان في حالة مواجهة احتلال خارجي، لأن قوانينه غير قوانين الحروب الأهلية.

هذا ما أجمعت عليه التجارب التاريخية والتجارب المعاصرة على مستوى عالمي. وقد أكد على عدم اللجوء إلى السلاح في غير أوانه ومكانه وموازين قوى وظروف محدّدة، كل المنظرين الثوريين الكبار. وهو ما أخذ به التاريخ الفقهي في التجربة العربية، عدا في تجربة الحسين رضي الله عنه، الذي أراد أن يصنع القدوة لا أن ينتصر بالسيف في حينه. وقد علم من هو وماذا يعني استشهاده. أما ما عداه فلا ينطبق عليه مَثَله وقدوته.

وقد ذهب المنظرون الماركسيون إلى حد تجريم القيادة التي تلجأ إلى السلاح في غير أوانه. لأنها ستكون مدمرة ومخرِّبة وبغض النظر عن النيات أو الثورية. وهو تنظير نابع من تجارب عملية قاسية غرقت بالدماء، وانتهت بكوارث ولم تحقق الهدف.

ففي الموضوع المصري الراهن يشكل اللجوء إلى السلاح طريقاً للهاوية والكارثة، ولا تنفع النيات- مهما خلصت. ولا مسوّغ مهما بلغ الظلم حتى لو بلغ السيل الزبى، أو بلغ الإعدامات الإجرامية الهوجاء.

ثالثاً: أما في المقابل فإن أيّة استراتيجية تنبع من روح استسلامية. وقد فقدت الصبر والقدرة على الاحتمال، وضاق نفسها فراحت تخضع للشروط التي يفرضها النظام، فلا تقل كارثية من الناحية السياسية والوطنية والعروبية والإسلامية. ولكنها أقل كارثية من ناحية الدماء والعذابات فقط. ومن ثم لا يصحّ اللجوء إليها مهما بلغ البطش والظلم كذلك. هنا يجب أن يتغلب الصبر والنفس الطويل والنضال المثابر المفكر به جيداً، والذي يندمج مع الشعب ويعبّر عن مشكلاته الكبرى. ويجعل قضية الشعب والأمة قضيته وليس العكس.

       والبديل الاستراتيجي هنا هو حمل الأهداف التي أرادت ثورة يناير تحقيقها، ونسيان موضوع الشرعية التي أجهضت وأصبحت من الماضي. لأن تلك الشرعية في الظرف المصري انقسم الشعب حولها، سواء أكان ذلك بحق أو بلا حق. ومن ثم لا يمكن أن يواجه أو يقاوم العهد القائم بالانقسام الشعبي وتكريسه، وإنما بإعادة بناء وحدة شعبية جديدة ضمن الشعارات التي اتفق عليها كل الحريصين على ثورة يناير. وذلك لتتحد مرة أخرى كل القوى التي صنعت ثورة يناير شعباً وجيشاً ومكوّنات اجتماعية.

فأشكال النضال التي يجب أن تُتَّبَع يجب أن تبدأ بالصمود والاستعداد للتضحية، وعدم الرضوخ لوضع أصبح الشعب يتأذى منه، وليس لأنه يقمع الإخوان. فقضيته مع الإخوان يجب ألاّ تكون المحرك للموقف وللسياسة إزاء النظام أو للاستراتيجية. فالهدف يجب أن يكون من أجل مصر ورفعتها ونهضتها.. من أجل شعبها ووحدته وتلبية تطلعاته الأساسية، ومن بينها الحرية والخبز والعدالة الاجتماعية وقضية فلسطين والوحدة العربية. ومن ثم تحل مشكلة الإخوان من خلال التفاهم على ذلك.

أما سقف هذا النضال (الاستراتيجية) فهي حدوث التغيير، من خلال رأي عام شامل ينزل إلى الشوارع في نهاية المطاف لتحقيق مطالبه كما حدث في ثورة يناير، ولو طال الانتظار، ولكن دون أن يغلق باب المصالحة ووقف نزف الدماء. لأن الوضع لا يحتمل الحرب الأهلية، ولا يحتمل استمرار الأزمة الحالية، وإنما يجب السعي للوحدة الداخلية الشاملة، من خلال مصالحة وإجماع وطني على ثوابت في السياسة الداخلية والخارجية.

هذا من جانب قوى المعارضة، أما من جانب عبد الفتاح السيسي ونظامه، وأساساً من جانب الجيش المصري، فإن سيادة نظرية الحل الأمني للأزمة داخل مصر، فينطبق عليه من حيث نتائجه الكارثية ما ينطبق على اللجوء إلى السلاح ضدّه. فمصر بعد ثورة يناير المجيدة لم تعد تحتمل نظاماً أمنياً يعتمد القوة لِكَمّ الأفواه ومخاطبة المعارضة. والدليل ما تشهده الجامعات منذ سنة من حراكات شبابية. كما انتقال الكثيرين من الموالاة إلى المعارضة أو العزوف عن الكلام.

فالذي فعلته ثورة يناير إلى جانب إنجازها الأول بالإطاحة بنظام حسني مبارك، كان إطلاقها لكل القوّة الكامنة داخلها. فالحيوية والشجاعة دبّتا في شرايين الشعب في مصر. وهو ما يجب أن يدركه كل من لا يستطيع إلاّ التفكير بالحل الأمني، وإقامة النظام الأمني مهما ساق من مسوّغات. فالبحث عن التوافق وشبه الإجماع الشعبي والمجتمعي يجب أن يكون هدفاً يسعى إليه الرئيس السيسي، كما كل المكوّنات الأساسية والسياسية، كما الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والدولة. أما ما عدا ذلك فطريق إلى الفوضى والكوارث والخراب.

فجميع القوى الأساسية والحريصة على الأهداف العليا لمصر: للشعب وللدولة أو للدولة وللشعب، أن يجنح للبحث عن التفاهمات التي تحقق الحدود الدنيا المقبولة أولاً، ثم الارتفاع بذلك أعلى فأعلى، وصولاً إلى الأمة لعربية كلها.

ما يعلنه الجميع تقريباً (عدا الفلول)، أو أقل ابتداء من الرئيس عبد الفتاح السيسي والجيش المصري، وانتهاء بالإخوان المسلمين، ومروراً بالأزهر والكنيسة القبطية وبالقوى السياسية الحيّة المؤيدة والمعارضة في أغلبها، الجميع تقريباً يعلن تأييده لثورة يناير وأهدافها (طبعاً مع تباين في التفاصيل وفي الأولويات والمحتوى).

من هنا يمكن أن تكون البداية: الانطلاق من أهداف ثورة يناير أو محاولة التفاهم حولها. مما يسمح بداية بتخلي الإخوان عن شعار عودة الشرعية (مرسي)، وإسقاط انقلاب 3 يوليو، كما يسمح بتخلي عبد الفتاح السيسي عن سياسات إقصاء الإخوان المسلمين وتصفيتهم. ومن ثم عودة الطرفين ومَنْ بينهما من قوى سياسية إلى حوار وتفاهمات. وذلك على مستوى النظام الداخلي كما السياسة الخارجية.

آفة ما يمكن أن يتلبّس العقول كل العقول، هو صراعات الماضي وما حملته وما زالت تحمله من آلام وجراح وضغائن. والقانون هنا من كان في حفرة، فإن أول ما يجب أن يفعله هو ألاّ يحفر. الأمر الذي يقتضي عدم العيش في الماضي وما يتملكنا من آثاره. ومن ثم التفكير في الخروج من الحفرة، فنكون أبناء الحاضر وبناة المستقبل. وإلاّ كل ما نفعله فهو حفر يعمّق الحفرة... الأزمة- المأزق – الفتنة – الحرب الأهلية.

وما قيل ويُقال هنا في مصر ينطبق، ودعك من التفاصيل، على كل بلداننا العربية الآن. 

 

عارضة. فالبعض اعتبره نظاماً انقلابياً عسكرياً شمولياً (ولو كان الغطاء حراكاً جماهيرياً مليونياً)، والبعض أخذ عليه سلبيات كثيرة في سياساته الداخلية الاقتصادية والمعيشية بالنسبة إلى جماهير الشعب. وهنالك من يأخذ عليه سياساته في محاصرة غزة والعلاقات بالكيان الصهيوني لا سيما كما تبّدت خلال حرب الـ51 يوماً وما بعدها حتى الآن. وهنالك من أنصاره من انتقدوه لمشاركته التحالف مع السعودية في اليمن. وأخيراً وليس آخراً ثمة من يأخذ عليه افتقاره لاستراتيجية عربية متماسِكة ومبادِرة إن لم يلحظ ضعفاً وارتباكاً في سياساته عربياً.

وبعد، فإجابة عن سؤال الاستراتيجية: أولاً هل الاستراتيجية الأنسب أن تحمل هدف إسقاط النظام وعدم مساومته أي تكرار ثورة يناير التي نادت بإسقاط النظام وأطاحت برئيسه. وكانت استراتيجيتها التظاهر السلمي إلى حد العصيان العام والثورة الشعبية المليونية.

إن نجاح هذه الاستراتيجية تم بسبب توفّر ظرف وموازين قوى عالمية وإقليمية وعربية مؤاتية، كما توفر له داخلياً شيخوخة النظام وتبعيته لأمريكا وتناقض رئيسه مع الجيش بسبب التوريث. فالثورة نجحت بإنزال الهزيمة ميدانياً بالجهاز الأمني. ولكن الجيش انضم لها بعد ذلك مما أسرع ويسّر لنجاح هذه الاستراتيجية. فالشرط الداخلي الذي توفر لثورة يناير غير متوفر في مواجهة السيسي الذي يتمتع بدعم الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام ويحظى بدعم شعبي لم يحظ بمثله حسني مبارك. وذلك بالرغم مما يمكن أن يُسجّل عليه من سلبيات ومظاهر ضعف.

إن تجربة الشعب مع النظام الجديد ما زالت في بداياتها. ولم تصل إلى حد اليأس التام منه. فما يمكن أن تسجله المعارضة من سلبيات لا يرقى إلى جنوح الشعب إلى الثورة.

كما أن الدعم العربي النظامي للنظام والتصدي لكل محاولة تغيير شعبي يختلفان عن الوضع الذي عرفته ثورة يناير حيث أُخِذَت الأنظمة على حين غفلة، ولم تكن لها تجربة سابقة في مواجهة ثورة شعبية شبابية، كما هو حالها الآن في أكثر من بلد عربي يُواجِه ما يشبه الحرب الأهلية، كما لم يكن للشعب تجربة قاسية مع ما يجري الآن من فتن وكوارث وأخطار الانقسامات. وكذلك الحال مع الموقف الدولي إذ تعلّم بدوره ولم يعد من السهل أخذه على حين غرّة.

طبعاً لا يعني هذا أن استراتيجية من نمط الثورتين المصرية والتونسية 2011 سقطت من الاعتبار أو أنها لم تعد قابلة للتكرار ضمن ظروف جديدة. بل العكس هو الصحيح فهذه استراتيجية يجب أن تظل حاضرة ولكن ليس بصورة تلقائية، أو بناء على الإرادوية والرغبوية، وإنما ضمن شروط قد يحتاج توفرها إلى آماد طويلة أو متوسطة. ولكن ليست قصيرة أو قريبة قطعاً. ولن تكون تكراراً بليداً لما توفرّ من شروط لثورة يناير 2011.

وهنا ينطبق المثل القائل "من قطف الثمر قبل أوانه عوقِبَ بحرمانه".

ثانياً: أما استراتيجية اللجوء إلى السلاح فأخطر ما يمكن ارتكابه لا سيما إذا جاءت نتيجة لما تواجهه الحركة أو الشعب من قمع أو مجازر أو حتى خيانات أو كفر. فالغضب هنا أو عقلية الانتقام السريع أو ما يسمّى الدفاع عن النفس طُرُق للكوارث والدمار. كيف؟

ذلك لأن اللجوء إلى السلاح أو العنف يجب ألاّ يكون إلاّ عبر حسابات دقيقة تنتهي بالنصر. فالسلاح ضد جيش وأجهزة أمنية موّحدة ومتماسكة وضدّ نظام لم يصل حدّ الشيخوخة والخور أو التفسّخ طريق للفتنة وسفك الدماء والفوضى والخسران. ثم هنالك موقف الشعب إذا لم يكن مستعداً إلى اللجوء إلى السلاح. ومن ثم تصبح المعركة بين تنظيم وجيش ومصيرها فشل التنظيم. طبعاً هذا أو ذاك لا ينطبقان في حالة مواجهة احتلال خارجي لأن قوانينه غير قوانين الحروب الأهلية.

هذا ما أجمعت عليه التجارب التاريخية والتجارب المعاصرة على مستوى عالمي. وقد أكد على عدم اللجوء إلى السلاح في غير أوانه ومكانه وموازين قوى وظروف محدّدة كل المنظرين الثوريين الكبار. وهو ما أخذ به التاريخ الفقهي في التجربة العربية، عدا في تجربة الحسين رضي الله عنه الذي أراد أن يصنع القدوة لا أن ينتصر بالسيف في حينه. وقد علم من هو وماذا يعني استشهاده. أما ما عداه فلا ينطبق عليه مَثَله وقدوته.

وقد ذهب المنظرون الماركسيون إلى حد تجريم القيادة التي تلجأ إلى السلاح في غير أوانه. لأنها ستكون مدمرة ومخرِّبة وبغض النظر عن النيات أو الثورية. وهو تنظير نابع من تجارب عملية قاسية غرقت بالدماء، وانتهت بكوارث ولم تحقق الهدف.

ففي الموضوع المصري الراهن يشكل اللجوء إلى السلاح طريقاً للهاوية والكارثة ولا تنفع النيات. مهما خلصت. ولا مسوّغ مهما بلغ الظلم حتى لو بلغ السيل الزبى: أو بلغ الإعدامات الإجرامية الهوجاء.

ثالثاً: أما في المقابل فإن أيّة استراتيجية تنبع من روح استسلامية. وقد فقدت الصبر والقدرة على الاحتمال، وضاق نفسها فراحت تخضع للشروط التي يفرضها النظام فلا تقل كارثية من الناحية السياسية والوطنية والعروبية والإسلامية. ولكنها أقل كارثية من ناحية الدماء والعذابات فقط. ومن ثم لا يصحّ اللجوء إليها مهما بلغ البطش والظلم كذلك. هنا يجب أن يتغلب الصبر والنفس الطويل والنضال المثابر المفكر به جيداً والذي يندمج مع الشعب ويعبّر عن مشكلاته الكبرى. ويجعل قضية الشعب والأمة قضيته وليس العكس.

       والبديل الاستراتيجي هنا هو حمل الأهداف التي أرادت ثورة يناير تحقيقها ونسيان موضوع الشرعية التي أجهضت وأصبحت من الماضي. لأن تلك الشرعية في الظرف المصري انقسم الشعب حولها، سواء أكان ذلك بحق أو بلا حق. ومن ثم لا يمكن أن يواجه أو يقاوم العهد القائم بالانقسام الشعبي وتكريسه وإنما بإعادة بناء وحدة شعبية جديدة ضمن الشعارات التي اتفق عليها كل الحريصين على ثورة يناير. وذلك لتتحد مرة أخرى كل القوى التي صنعت ثورة يناير شعباً وجيشاً ومكوّنات اجتماعية.

فأشكال النضال التي يجب أن تُتَّبَع يجب أن تبدأ بالصمود والاستعداد للتضخية وعدم الرضوخ لوضع أصبح الشعب يتأذى منه وليس لأنه يقمع الإخوان. فقضيته مع الإخوان يجب ألاّ تكون المحرك للموقف وللسياسة إزاء النظام أو للاستراتيجية. فالهدف يجب أن يكون من أجل مصر ورفعتها ونهضتها من أجل شعبها ووحدته وتلبية تطلعاته الأساسية ومن بينها الحرية والخبز والعدالة الاجتماعية وقضية فلسطين والوحدة العربية. ومن ثم تحل مشكلة الإخوان من خلال التفاهم على ذلك.

أما سقف هذا النضال (الاستراتيجية) فهي حدوث التغيير من خلال رأي عام شامل ينزل إلى الشوارع في نهاية المطاف لتحقيق مطالبه كما حدث في ثورة يناير، ولو طال الانتظار، ولكن دون أن يغلق باب المصالحة ووقف نزف الدماء. لأن الوضع لا يحتمل الحرب الأهلية، ولا يحتمل استمرار الأزمة الحالية، وإنما يجب السعي للوحدة الداخلية الشاملة من خلال مصالحة وإجماع وطني على ثوابت في السياسة الداخلية والخارجية.

هذا من جانب قوى المعارضة أما من جانب عبد الفتاح السيسي ونظامه، وأساساً من جانب الجيش المصري فإن سيادة نظرية الحل الأمني للأزمة داخل مصر فينطبق عليه من حيث نتائجه الكارثية ما ينطبق على اللجوء إلى السلاح ضدّه. فمصر بعد ثورة يناير المجيدة لم تعد تحتمل نظاماً أمنياً يعتمد القوة لِكَمّ الأفواه ومخاطبة المعارضة. والدليل ما تشهده الجامعات منذ سنة من حراكات شبابية. كما انتقال الكثيرين من الموالاة إلى المعارضة أو العزوف عن الكلام.

فالذي فعلته ثورة يناير إلى جانب إنجازها الأول بالإطاحة بنظام حسني مبارك، كان إطلاقها لكل القوّة الكامنة داخلها. فالحيوية والشجاعة دبّتا في شرايين الشعب في مصر. وهو ما يجب أن يدركه كل من لا يستطيع إلاّ التفكير بالحل الأمني، وإقامة النظام الأمني مهما ساق من مسوّغات. فالبحث عن التوافق وشبه الإجماع الشعبي والمجتمعي يجب أن يكون هدفاً يسعى إليه الرئيس السيسي كما كل المكوّنات الأساسية والسياسية كما الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء والدولة. أما ما عدا ذلك فطريق إلى الفوضى والكوارث والخراب.

فجميع القوى الأساسية والحريصة على الأهداف العليا لمصر: للشعب وللدولة أو للدولة وللشعب، أن يجنح للبحث عن التفاهمات التي تحقق الحدود الدنيا المقبولة أولاً ثم الارتفاع بذلك أعلى فأعلى وصولاً إلى الأمة لعربية كلها.

ما يعلنه الجميع تقريباً (عدا الفلول)، أو أقل ابتداء من الرئيس عبد الفتاح السيسي والجيش المصري وانتهاء بالإخوان المسلمين، ومروراً بالأزهر والكنيسة القبطية وبالقوى السياسية الحيّة المؤيدة والمعارضة في أغلبها، الجميع تقريباً يعلن تأييده لثورة يناير وأهدافها (طبعاً مع تباين في التفاصيل وفي الأولويات والمحتوى).

من هنا يمكن أن تكون البداية: الانطلاق من أهداف ثورة يناير أو محاولة التفاهم حولها. مما يسمح بداية بتخلي الإخوان عن شعار عودة الشرعية (مرسي)، وإسقاط انقلاب 3 يوليو، كما يسمح بتخلي عبد الفتاح السيسي عن سياسات إقصاء الإخوان المسلمين وتصفيتهم. ومن ثم عودة الطرفين ومَنْ بينهما من قوى سياسية إلى حوار وتفاهمات. وذلك على مستوى النظام الداخلي كما السياسة الخارجية.

آفة ما يمكن أن يتلبّس العقول كل العقول هو صراعات الماضي وما حملته وما زالت تحمله من آلام وجراح وضغائن. والقانون هنا من كان في حفرة فإن أول ما يجب أن يفعله هو ألاّ يحفر. الأمر الذي يقتضي عدم العيش في الماضي وما يتملكنا من آثاره. ومن ثم التفكير في الخروج من الحفرة، فنكون أبناء الحاضر وبناة المستقبل. وإلاّ كل ما نفعله فهو حفر يعمّق الحفرة... الأزمة- المأزق – الفتنة – الحرب الأهلية.

وما قيل ويُقال هنا في مصر ينطبق، ودعك من التفاصيل، على كل بلداننا العربية الآن.