أنا والبَهارات

مصطفى حمزة

[email protected]

سأبقى أتناول البَهاراتِ ، وسأبقى أتألمُ ، ولن أندمْ !هكذا ، عُنودًا ومُعانَدَةً لهذه المَعِدَةِ الجاحِدةِ الحمقاءِ ، وقـُرحتِها الدخيلةِ اللئيمةِ !

وكيفَ يُطعَمُ الطَّعامُ – يا ناسُ - بلا بَهاراتٍ ؟! وكيفَ أستسيغُه من غيرِ الفـُلفلِ الأسودِ   والمعجونِ الأحمرِ والقـَرْنِ الأخضرِ ، و المطحونِ من كل لونٍ ؟!

جرّبوا أكلَ لُحوم البرّ والبحرِ من غير بَهارات ؛ وستشمَتُ بكم حينَها الأسماكُ والخِرافُ والأبقارُ لأنكم دفعتم أثمانَ لُحومِها بلا جَدوى !

وحاوِلوا إكمالَ وجبةٍ واحدةٍ صغيرةٍ مِنْ أيّ مأكلةٍ خلتْ من البَهاراتِ ؛ تعلموا فضلَ البَهاراتِ على ذَوائِقِ العالَمين ! فلا الملوخيّةُ ملوخيّةٌ ، ولا المقلوبةُ مقلوبةٌ ، ولا الكبسةُ كبسةٌ، ولا المنسَفُ منسَفٌ بدونِها . ولا أيُّ طـُعْمَةٍ فاخرةٍ أو غيرِ فاخرةٍ  ومن أي عائلةٍ كانت ؛ ستهـِشّ لها الذائقةُ أو تَبَـشُّ من غيرِ توابلَ وأفاويهَ ؛ تلحَفُها وتكْتَنِفُ أمزجتَها .

عشرين سنةً وتزيد ومعدتي اللئيمةُ هذه تُدلّلُ كُلّ الدلال :

سَقَتْها أمّي – رحِمَها الله تعالى – من لبنِها ، وأطعَمَتْها من صُنع يدِها ، وممّا جادَ به حنانُها . وأكرمَها أبي من أطايِب السُّوق ، ولذائذِ الفصولِ الأربعةِ .. بكل ما استطاع جَنْيُهُ وجُهدُه . ثم تعّهدتُها أنا بعدَهما ؛ ألبّي رغباتِها  وأرسل فيها من كلّ ما أحلّ الله لها ، وقَدَرْتُ على ثمنه .

وفي يومٍ مُكْفَهِرٍّ تعيسٍ ، لا أدري ما اعتراها ! أهو العُسْرُ ألمّ بها ، أم زائرٌ غريبٌ جاءها ، أم هو تآمرٌ خارجيٌّ ؟ أم صدمةٌ أصابتها ؟ أمْ جُنّتْ ! والله لا أدري ، ولا درى الأطبّاءُ ما جرى لها حتى الآن !!

خُدشَ غلافها المُبَطِّنُ خَدشةً ، كأنّه خُمشَ بِظُفْرٍ ، فتغيّرتْ وانقلبتْ عليَّ ، وقـَلبت أيامي معَها وعَكّرتْ صَفْوَها !وما زلتُ – من يومِها ذاكَ – أشربُ الماءَ الفُراتَ ، فإذا بهِ عصيرُ ليمونٍ خالصُ الحُموضة ! وتطلبُ نفسي قِطعة الحلوى ؛ فتتناولها طحنًا وعجنًا لتحوّلَها بتدبيرِ لئيمٍ إلى قِطعةٍ من الألم اللّهْبانِ !

أمّا البَهارات بأنواعِها ؛ فَعَيْنُها تُبغضُ أنْ تقعَ عليها ، كأنّها عدوّتُها اللدودةُ من زمنٍ بعيدٍ ، أو كأنّما هي قاتلةُ أبيها ؛ فهي تطلـُب عندَها ثأرًا قديمًا غاليًا ! فإنْ وَطِئَتْ أثارةٌ منها عَتَبَةَ بابِها  ولو كانت حَشوَ مُضْغةٍ ، أو مزيجَ لَعْقَةٍ  أو رَشْفة شَفَةٍ ؛ تُرسِلْ عليَّ شُواظَ النارِ ، يرقـُصُ في حلـْقي  ثم يندفِعُ إلى رأسي ، فيفتِنُ عقلي ، ويلعَجُ حِسّي  فلا أقوى على عَملٍ مِنَ الأعمال    ولا أرى جمالاً من جِمالٍ .. يدومُ ذلك كلَّ مرّةٍ ما شاءتْ وشاءَ لها العُدوان !

 ولاتزال عليّ ثائرةً ، وما زِلتُ عليها صابِرًا ، أدعو اللهَ لها بالهدايةِ والرشادِ ، بعدَ أنْ رَفضتْ كلّ وساطةٍ ودواءٍ !

  مسكينةٌ مَعِدَتي - على لؤمِها - وحمقاءُ أيضًا ؛ لقدْ أصابَها ممّا أصابني من حِرمانٍ ، ومِن ألمٍ  ومِن سُهدِ الليالي  إذْ آثرت العيشَ في العِداء والخِصام ، وفي النّكَدِ والكَبَدِ ، وقدْ كانَ يكفينا – لو علمتْ - هذا الجسدُ ؛ لنعيشَ فيهِ في وئامٍ وسلامٍ وسَعادةٍ ، ونسيتْ حمقائي أنّنا من رَحِمٍ واحدةٍ  وفي جَسَدٍ واحدٍ ، وأنّنا سائِرانِ معًا إلى مصيرٍ واحدٍ .. إلى التراب !