الاعتفاد في الجاهلية
كان الناس في قريش في الجاهلية على طبقات منه الفقير ومنهم متوسط الحال ومنهم الغني. فإذا عطف غني على فقير كان ذلك منه منة وكرمًا. في ذلك المجتمع تفشت عادات سيئة منها الميسر(القمار) والخمر والمضاربة ما أدى إلى أن يصبح الغني بين عشية وضحاها معدمًا لا يملك شروى نقير، وذلك بعد أن هلكت أمواله وسافت، فكان هذا يعمد إلى الانتحار بأن يخرج هو وأهله إلى مكان ناءٍ فيضربون الأخبية ويجلسون فيها حتى يموتوا جوعًا قبل أن يُعلم بخلّتهم، وقد أطلقوا على ذلك اسم الاعتفاد وهو أن يُغلق الرجل باب داره ويبقى فيها حتى يموت مع أهله جوعًا، فلما نشأ هاشم بن عبد مناف وعظم قدره في قومه قال لهم: يا معشر قريش، إن العز مع كثرة العدد، وقد أصبحتم أكثرَ العرب أموالاً وأعزّهم نفرًا، وإن هذا الاعتفاد قد أتى على كثير منكم، وقد رأيت رأيًا، قالوا: رأيك رَشَدٌ فمرنا نأتمر؛ قال رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم، فأعمد إلى رجل غني فاضمّ إليه فقيرًا عيالُهُ بعدد عياله، فيكون مؤازِره في الرحلتين: رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن، فما كان في مال الغني من فضلٍ عاش الفقير وعياله في ظله. وكان ذلك قطعًا للاعتفاد، قالوا: فإنك نعم ما رأيت، فالّف بين الناس، فلما كان من أمر الفيل وأصحابه ما كان، وأنزل الله بهم ما أنزل، وكان ذلك مفتاح النبوة وأول عزّ قريش حتى هابهم الناس كلهم، وقالوا: أهل الله والله يمنعهم. وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك العام، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله، وكان فيما أنزل عليه وهو يُعرّف قومَه ما صَنَعَ بهم وما نصرهم من الفيل وأهله(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) سورة الفيل:1 إلى آخر السورة... ثم أخبره لِمَ فعل ذلك فقال(لإيلاف قريش إيلافهم) سورة قريش:1 إلى آخر السورة أي لتراحمهم وتواصلهم، وإن كانوا على شِرْك، وكان الذي أمنتهم منه من الخوف خوفِ الفيل وأصحابه، وإطعامه إياهم من الجوع، من جوع الاعتفاد. راجع التذكرة الحمدونية لابن حمدون ص 152-153.