من شارع الحمرا إلى سجن الشرطة العسكرية في القابون، في ثلاث ساعات

 

من الحياة اليومية لمواطن سوري

الجزء الثاني والأخير

 رويت في الجزء الأول من هذه القصة التي جرت معي شخصياً عام 1980 في (سورية الأسد) كيف كنت أقود سيارة المؤسسة في شارع الحمرا بدمشق وفي طريقي للاجتماع بأصدقائي حين أوقفتني دورية شرطة مرور مدنية بتهمة قطع إشارة مرور حمراء، ولما رفضت دفع (المعلوم) وجدت نفسي بعد ثلاث ساعات في فرع الشرطة العسكرية في القابون.

وصلنا بعدها إلى القبو الثالث والأخير حيث قادني العنصر إلى غرفة المساعد أول المسؤول عن السجن. كان الرجل في عقده الخامس ويرتدي (بيجامة الرياضة) الزرقاء اللون الشهيرة في أوساط الجيش (الباسل)، كما كان ابريق الشاي وعلبة الدخان على الطاولة القذرة أمامه وكذلك مدفأة المازوت كلها مجتمعة لتكمل اللوحة النمطية لجيش (أبو شحاطة)، أما عدم وجود عدة (المتة) أو مشروب (العرق) فقد كان يعني وببساطة أن المساعد إياه لم يكن من (الطائفة الكريمة). ما أن بدأ الرجل بقراءة التقرير المكتوب بخصوصي وعرف قصة وصولي إلى هذا المكان، حتى هز رأسه متأسفاً ومتحسراً دون أن يعلق بأي كلمة، فالحيطان لها آذان في سورية، ولكنه قال بأنه سيسمح لي بالبقاء في مكتبه وعلى مسؤوليته حتى الساعة العاشرة لاأكثر، لأن ذلك قد يعرضه للعقوبة، وتمنى أن أتمكن خلال هذا الوقت من الخروج عن طريق (الواسطة) التي اتصلت بها وأخبرته عنها، وبالتالي لايضطر لزجي في الزنزانة حسب القانون وحسب ماهو مجبر عليه.

 ولكن يبدو أن ذلك اليوم أبى إلا أن يكون سيئاً حتى النهاية، فما أن أشارت الساعة إلى العاشرة، حتى طلب مني المساعد أن أسلمه (شواطات) حذائي قبل أن يرسلني إلى الزنزانة، وهي قاعدة متبعة في كافة السجون كي لايشنق السجين نفسه بها. تبعت بعد ذلك العنصر المكلف بايصالي إلى الزنزانة، وما أن فتح بابها الحديدي حتى لفح وجهي منها هواء حار، بالرغم من أننا كنا في شهر كانون الأول الشديد البرودة، وكان الهواء أيضاً ممتزجاً برائحة هي مزيجاً من العفن والعرق وأصابع الأرجل، وأقل مايمكن أن يقال فيه أنه خال من الأوكسجين. مالبث استغرابي لذلك الهواء وتلك الرائحة أن تبدد حين أصبحت داخل الزنزانة وأغلق الباب من ورائي، حيث وجدت نفسي في غرفة لاتتجاوز مقاساتها 3-2-2 أمتار، أرضها إسمنتية وجدرانها مزركشة ببقع الماء والعفن وفي سقفها مروحة سحب هواء صغيرة صوتها أكبر من فعلها، ومع ذلك تستضيف الزنزانة بين جدرانها مالايقل عن الخمسين سجيناً. لتحقيق هذه المعجزة الاسكانية، كانت المجموعة تتناوب مابين الوقوف والاستلقاء، وحتى من هم مستلقون، كانوا مستلقين على جنبهم لضيق المكان. من جهتي، لم أجد مكاناً أقف عليه حتى أجد مكانا أستلقي فيه لأنام، وبالتالي وقفت لاأعرف ماأفعل. بعد أن استوعبت الصدمة الأولى من دخولي إلى الزنزانة، بدأت أتحرك ببطء مبتعداً عن باب الزنزانة ومتجهاً إلى الجهة المقابلة، ناقلاً قدمي بحرص شديد كي لاأدعس على رؤوس أو أجساد المستلقين أو على أقدام الواقفين، هكذا حتى وصلت إلى صدر الزنزانة وبدأت أحاول أن أوسع لي مكاناً أجلس فيه.

 هنا تحرك شخص كان مستلق بجانبي والتفت إلى وقال بلهجة تحد: (شو يا أبضاي، شو عم تعمل؟) فقلت له: أحاول أن أنام! فعاد وسألني (وشو جابك لهون؟ تهمة قتل، تشطيب، سرقة، فرار؟). ظاناً بأني (مبيض وش)، قلت له (أبداً، أبداً، مجرد تهمة إشارة مرور). وهنا ضج الجميع بالضحك وكأني أطلقت نكتة الموسم، ولكن الوحيد الذي لم يضحك كان من وجه الكلام لي، والذي فهمت لاحقاً أنه (زعيم القاووش)، وأن لاأحد يتحرك في هذا (القبر) ولا أحد ينام أو يستلقي أو يجلس أو يقف إلا بعد أخذ موافقته! كانت المجموعة عبارة عن خليطة عجيبة من الأشخاص، فيها مراهقين وفيها من تجاوزا الخمسين، ومنهم من هم بالملابس المدنية ومنهم من بالعسكرية، وكان يبدو على وجوههم أنهم هنا منذ فترة ليست بالقصيرة ولكن كان من الواضح أن أياً منهم لم يكن مسجوناً بسبب (إشارة مرور). أرسل (زعيم القاووش) لي نظرة حادة رافقها بقفل حاجبيه وقال لي (ومالك مستحي على حالك جاية بتهمة إشارة مرور وماصرلك فايت كم دقيقة وبدك تعد بصدر القاووش؟ روح روح، ارجاع لعند الباب وخليك هنيك!) وهنا عاد الجميع إلى الضحك وإطلاق عبارات المديح للزعيم مثل (طيب أبو فلان، فهمو شو هي إيمتو ووين محلو!)

 حين وصلت إلى هذه اللحظة، لم أعد أعرف ما أفعل، وكانت محنتي قد وصلت إلى ذروتها وأنا مازلت أشك بأنها مجرد كابوس لابد وأن ينتهي حين أستيقظ، فالحقيقة لايمكن أن تكون بهذه القسوة. ماحصل بعدها أني فقدت أعصابي بالكامل، وقررت عدم السكوت عما يجري لي ومن حولي بعد كل هذا، وذلك على قول المثل (أكثر من القرد، الله مامسخ). شعرت حينها بقوة جبارة تسري في عروقي، هي قوة المقهور الذي قرر أخيراً أن لايسكت عن قهره، فكان أول مافعلته أن التفت إلى (زعيم القاووش)، وكنت واقفاً وكان مازال مستلقياً، وأمسكته من ياقة معطفه ورفعته إلى وضعية الوقوف. تفاجأ الرجل بتصرفي، وحاول عبثاً تخليص نفسه من يدي، ولكني كنت مطبقاً عليه بقوة بقبضة يدي اليسرى وأستعد لأنهال عليه بالضرب بقبضة يدي الثانية. وهنا اكتمل المشهد بالصراخ الأقرب إلى العويل الذي بدأ المساجين باطلاقه، وهو صراخ من شاكلة (لك ولي .. لك ولي، ياحرس .. ياحرس، لحئو الزلمة أبل مايموت، هالمجرم راح يموتو!) طبعاً فهمت لاحقاً أني كنت المقصود بالمجرم. غرابة الموقف وصوت العويل من حولي جعلاني أتوقف عن الحركة كلياً وكأنني تجمدت في قالب من الجليد، أو كأن الزمن توقف لبرهة ليستريح ويلتقط أنفاسه وكأنه هو الذي أتوا به من شارع الحمرا وزج به في هذه الزنزانة.

 سمعت صوت بسطار عسكري يجري مقترباً من الزنزانة، انتهى بفتح الباب الحديدي من جديد ودخول العنصر الذي اقتادني إلى هنا قبل دقائق وهو يصرخ (شو عم تعمل ولاك انت واياه؟) وحين تعرف علي، قال لي (مو هلأ جبناك؟ لحئت تعمل مشاكل؟). كنت ماأزال في حالة الصدمة والجمود، ولم أعرف ماأجيبه به، فاكتفيت بالتحديق به دون أن أترك (الزعيم) من قبضة يدي. وهنا وصل عنصر ثاني من الشرطة اعتقدت بأنهم أرسلوه ليساعد الأول باقتياد المتسببين بالمشكلة لمعاقبتهم أو لأخذهم إلى الانفرادية. ولكنه فاجأني بقراءة اسمي من ورقة كانت بيده، ولما أجبت بنعم، قال: تعال معي، إخلاء سبيل! لم أصدق في البداية حتى وصلت إلى غرفة المساعد الذي وقف وصافحني بحرارة وقال لي (مبروك استاذ، الضابط المناوب بانتظارك في مكتبه لاخلاء سبيلك).

 وصلت برفقة العنصر إلى مكتب الضابط المناوب والذي لم يخيب ظني كونه من (الطائفة الكريمة). وغرفة مكتبه لم تخيب ظني أيضاً، كونها تحتوي على كافة عناصر ومكونات المكتب النمطي لضابط من (الشباب الطيبة)، عدة المتة وزجاجة وأقداح العرق وزجاجة ويسكي وباكيت الدخان، وطبعاً صورة للقائد الخالد وأقوال المأثورة على كل جدار من جدران المكتب. كان الرجل برتبة مقدم وكان شبه (مطفي) من كثرة المشروب، وبياض عينيه الزرقاوين بات أحمراً كالجمر وبالكاد تخرج معه الحروف. بعد كل هذه المناظر المقرفة، وقع بصري أخيراً على منظر أراحني وطمأنني، ألا وهو قريبنا الذي كلمته من مكتب المحقق وطلبت مساعدته. بادر الضابط قريبنا الذي كان نقيباً مهندساً بالسؤال (هل هذا هو قريبك الذي أتيت لاخراجه؟) فرد بالايجاب، فأردف قائلاً بسماجة فجة وابتسامة صفراء (كنا نريد استضافته عندنا كم يوم، ولكن لم تقبلوا ضيافتنا) ثم أضاف (اعذرني بأني لم أفرج عن قريبك إلا بأمر رسمي، فأنا لست مدير الفرع هنا ولكن مجرد ضابط مناوب، ولو كنت أخرجته بدون أمر لكان رئيس الفرع قطع (صبيعي). شكرنا الرجل وخرجنا مسرعين حيث رافقنا أحدهم إلى المرآب لاستلام السيارة.

 سألت قريبي هناك مالذي سبب تأخره كل هذا، فقال بأنه أتى أولاً إلى الفرع وطلب من المقدم إياه الافراج عني باعتباره يعرفه شخصياً وباعتبار أن مؤسستنا التي نعمل بها قدمت وتقدم دائماً خدمات هندسية وانشائية لفرع الشرطة العسكرية، ولكن كل هذا لم يكن كافياً ولم يدفع المقدم (السكير) للاستجابة لطلب الافراج، ولمح لقريبنا بأن (مافي شي ببلاش، وسبحان من فاد واستفاد). ولما سألته ماذا كان يريد بالتحديد لاخلاء سبيلي، فأجاب بأنه لم يسأله، بل غادر الفرع واتجه مسرعاً إلى بيت اللواء وأحضر منه (أمراً خطياً) بالافراج عني فوراً ودون تأخير، وهذا ماأغضب المقدم كونه كان يتأمل بأن (يلحس اصبعتو بشي كم ملحفة)، فحصل بدلاً عن ذلك على أمر بالتنفيذ الفوري وإلا!

 وبالمناسبة، فلم تمض أسابيع على هذه الحادثة حتى اصطدمت بمجموعة من (الطائفة الكريمة) في المؤسسة حول كيفية إداء العمل، فما كان منهم إلا أن اختلقوا لي تهمة سياسية حاولوا عبرها إرسالي إلى سجن تدمر العسكري لولا أن الرياح سارت على غير مااشتهوا، وكنت قد كتبت مقالاً حول هذه القصة سابقاً. هذه هي (سورية الأسد) التي لايزال البعض حتى اليوم يقولون فيها (كنا عايشين وماشي حالنا)، حيث لاقانون إلا قانون البلطجة والاذلال وحيث أن الحكام والمسؤولين هم خليط من المجرمين واللصوص ويشكلون نظاماً مافيوياً بامتياز يدعونه زوراً بالدولة.