الثورة ورجل الدولة
عندما انتفض الناس في تونس، ومن ثَمَّ حذا حذوَهم أهلُ مصر وليبيا واليمن وسوريا، في وجه الأنظمة المستبدة والإجرامية، وبدأوا بالاحتجاج بشكل عفوي وتمكنوا من إسقاط الطغاة بن علي ومبارك، والقذافي وعلي صالح وفي انتظار السقوط المدوي لبشار، فأطلق على كل هذه الاحتجاجات والانتفاضات في البلاد العربية الثورات العربية باسم كل بلد اندلعت فيه.
فما معنى الثورة وما المقصود منها وكيفية قيادتها وكيفية قطف ثمارها وعلاقة النصرة بها؟، وما هو مصطلح سرقة الثورة أو الالتفاف عليها أو على الثائرين أو الاندساس بينهم؟ وما معنى حرف سير الثورة أو الانقلاب على الثورة؟ وأخيرا هل الثورة بحاجة إلى رجال دولة؟
لقد جرى تعريف الثورة عقب الثورة الفرنسية بأنها عبارة عن "قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة". وكان هذا التعريف تعبيرا عما حدث في فرنسا، وليس هو نتيجة دراسة معمقة لأن يصبح تعريفا جامعا مانعا. وقد أخذ الشيوعيون بهذا التعريف إلا أنهم استبدلوا بعبارة النخب والطلائع المثقفة عبارة الطبقة العاملة. وقد عرفها بعضهم بأنها الخروج عن الوضع الراهن سواء إلى وضع أفضل أو أسوأ من الوضع القائم. والخروج ضد المحتل وقتاله لإخراجه من البلاد سمي أيضا ثورة، كالثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، والثورة الفيتنامية ضد الفرنسيين أولا ومن ثم ضد الأمريكيين. وكذلك الانقلابات العسكرية في بعض البلاد سميت ثورات، كثورة 23 يوليو في مصر وثورة 14 تموز في العراق. وتطلق الثورة على غير ذلك مثل الثورة العلمية في أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وقد تلازمت مع عقيدة فصل الدين عن الحياة، حيث نُحي الدين جانبا وقُدّس العلم وجُعل هو مصدر الحقيقة، فأحدثت تغييرا شاملا في كافة مجالات ونواحي الحياة وأثرت على جميع دول العالم.
وبجانب ذلك حصلت الثورة الصناعية عندما تم اكتشاف الآلة نتيجة هذا التقدم العلمي فأحدثت انقلابا شاملا في استعمال الوسائل في العالم؛ سواء وسائل الإنتاج أو وسائل المواصلات أو المعدات العسكرية وغير العسكرية وغير ذلك من المجالات. والثورة التكنولوجية التي أرّخ البعض لبدايتها نهاية القرن التاسع عشر وتطورت في القرن العشرين حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في أيامنا هذه، فأحدثت انقلابا في العالم لم تشهده البشرية. ولذلك عرف البعض التكنولوجيا بأنها طريقة التفكير في استخدام المعارف والمعلومات والمهارات بهدف الوصول إلى نتائج لإشباع حاجات الإنسان وزيادة قدراته. ولذلك اعتبروا الأجهزة الإلكترونية الحديثة كنتائج للثورة التكنولوجية التي أحدثت انقلابا في عالم الاتصالات وتبادل المعلومات وفي مجالات الصناعة والزراعة والطب وغيرها وما زالت مستمرة لتشمل كافة نواحي الحياة.
على ضوء ذلك نفهم مصطلح الثورة في أي مجال من المجالات بأنها تلك "الحركة البشرية الانقلابية التي تُحْدِثُ تغييرا مؤثرا في حياتهم"، وإلا لا يقال لها ثورة حسبما يفهم من استخدام هذا الاصطلاح، فنرى أن هذا التعريف أدق وأشمل من غيره حتى يكون التعريف جامعا مانعا. فهي حركة بشرية انقلابية، أي تقلب النظام القائم وتأتي بنظام جديد، وهذا النظام الجديد يحدث تغييرا مؤثرا في حياة البشر. ربما يكون شاملا يشمل كافة نواحي الحياة أو يشمل قطاعات مهمة منها فيكون في كلتا الحالتين تغييرا مؤثرا. سواء أكانت هذه الثورة سياسية أم غير ذلك من أنواع الثورات. ولكننا هنا في صدد البحث في الثورات السياسية والثورات التي تقلب النظام القائم في المجتمع وتحدث تغييرا مؤثرا فيه.
وعندما يجري الحديث عن الثورة لتغيير نظام الحكم، يتبادر إلى الذهن الحركة الشعبية ضد النظام القائم. لأن ذلك ظاهرها وواقعها، وهذا ما انطبع في أذهان الناس عندما دعا لها دعاتها وعندما تم تعريفها على أنها حركة شعبية. فربما تنفجر جموع الناس فجأة دون سابق إنذار من جراء الممارسات والأعمال التعسفية من قبل النظام القائم. فهي تشتعل في مكان ما ولكنها سرعان ما تعم كافة أنحاء البلاد. ومن ثم تقوم الجهات والتيارات المختلفة لتتبناها أو لتركب موجتها أو للعمل على حرفها عن مسارها سواء أكانت تلك الجهات نُخباً مثقفة أم حركات نشأت من جديد على أثر الثورة أم أحزابا وتنظيمات كانت موجودة أصلا وهي تعمل منذ زمن لتغيير النظام. فتعمل لتجميع الناس حولها لتعبر عن مطالبهم ولتقودهم حتى تحدث تغييرات مؤثرة وأساسية في حياتهم، وربما تكون جذرية، فيطلق على هذه الحركة التي تستهدف قلب النظام السياسي الحالي وتغييره بنظام جديد ثورة. والأساس في الثورة أن تأتي بنظام أفضل من سابقه لأن الناس ما قاموا وضحوا إلا ليأتوا بنظام أفضل وإلا يكون قيامهم عبثا أو أنهم لم يهتدوا للنظام الأفضل.
والحركة الانقلابية الصحيحة هي التي تغير المجتمع بتغيير مفاهيم الناس ومشاعرهم والنظام الذي يحكمهم بفكر صحيح. وهذا لا يكون إلا بالعمل الفكري السياسي بحيث تتجاوب الأمة معه. ويجب أن يكون بالعمل السلمي ولا تستخدم فيه القوة لأنه يهدف إلى تغيير مفاهيم الناس ومشاعرهم، لأنك تريد أن تقنع الناس وتجعلهم يتبنون هذه الأفكار من ذات أنفسهم من دون إكراه. ولكن عملية المباشرة بإسقاط النظام القائم أو تغييره حسب الفكر الجديد فإن الأصل أن تتم بشكل سلمي أيضا، لأن الناس عندما يقتنعون من ذات أنفسهم بالفكر الجديد الذي سيقوم عليه النظام الجديد فإنهم سوف يقومون بتغيير النظام بأيديهم إلا إذا كان سلطان البلد ليس بأيديهم أو أن يكون الذي في الحكم يملك قوة قادرة على أن تتصدى للثورة. وبذلك يصعب إسقاطه فعندئذ تحدث المواجهة. ولذلك احتاط رسول الله للأمر في بيعة العقبة الثانية إذا ما حدثت مقاومة من البعض فسميت تلك البيعة ببيعة الدم. ولكن لم تحدث مقاومة من الآخرين فبقيت سلمية من أولها إلى آخرها. وربما لم يحدث في العالم عبر التاريخ مثل هذه الحركة الانقلابية السلمية من بدايتها إلى نهايتها حتى وصولها إلى الحكم.
نريد أن نستعرض بعض الثورات بشكل مختصر لنتوصل إلى نتائج تهمنا في هذا الموضوع ولندرك طبيعة الثورات وما يحدث فيها لأن هناك أموراً متشابهة تحدث فيها.
الثورة الإيرانية:
الثورة الإيرانية لعب فيها عاملان؛ الأول كان ممثلا في الصراع الأمريكي الإنجليزي على البلد، وأما الثاني فكان تذمر الناس من ظلم الشاه واستبداده. فعندما اشتعلت الثورة في نهاية السبعينات من القرن الماضي رأينا أنه قد دخلها كل من هب ودب من حركات يسارية وقومية وليبرالية بجانب الحركات الإسلامية، إلا أن شخصية الخميني التي اكتسبت عراقة ولمعانا وجاذبية، وهو ما يعرف بالكاريزما، والتفاف الناس حوله وعدم لمعان الشخصيات السياسية الأخرى، ولأسباب تتعلق بالصراع الدولي حيث وقفت أمريكا وراء الخميني بعدما اتفقت معه، عندما رأت فيه القدرة على قيادة الشعب لإسقاط الشاه ونظامه الموالي لبريطانيا أكثر من الشخصيات الأخرى التي لم تكن مقبولة شعبيا وغير مجمع على قيادتها، وحاول الشاه أن يسحق الثورة بالقوة إلا أن أمريكا بدأت تضغط عليه واستطاعت أن تحيّد الجيش وأجبرت الشاه على مغادرة البلاد وسلم الحكم مؤقتا لشاهبور بختيار ولكن أمريكا أجبرت شاهبور بختيار على أن يسلم الحكم للخميني بعد عودته من فرنسا.
الثورة الأمريكية:
بدأت بحركات احتجاجية منذ عام 1773 أولا ضد المستعمر الإنجليزي لفرضه الضرائب الثقيلة وما سمي بالقوانين الجائرة على سكان المستعمرات وانتهت بحركة مسلحة ابتداء من عام 1775 بعدما بدأ المستعمر يستخدم القوة لإجبار الناس على دفع الضرائب والانصياع للقوانين الإنجليزية الجائرة التي رفضها الناس، وانتهت عام 1783 بإعطاء بريطانيا الاستقلال لها. فاعتبرت ثورة على أساس أنها أحدثت انقلابا مغايرا في البلد عن سابقه أحدث تأثيرا مهماً في حياة البشر، حيث لم تكن أمريكا دولة وكانت بلاداً مستعمرة من قبل الإنجليز، فأزالت سلطانهم وأوجدت سلطانا جديدا ودولة جديدة وشكلت شعبا جديدا، وأقامت نظاما جمهوريا جديدا مغايرا للنظام الإنجليزي الملكي، فتعتبر أول جمهورية في العالم الحديث وإن استندت من ناحية فكرية إلى الفكر الرأسمالي الديمقراطي الذي يتبناه الإنجليز والغرب عامة.
الثورة الفرنسية:
الثورة الفرنسية بدأت بتحركات احتجاجية على ظلم الملك ونظامه عام 1789، وتطورت إلى حركة دموية وتم التوصل إلى حل وسط بإقامة الملكية الدستورية عام 1792 ولكن الثورة لم تتوقف فاندلعت مرة أخرى وأعدم الملك وأعلن عن إقامة النظام الجمهوري عام 1794 وشكلت حكومة إدارة مؤقتة، وعرفت بالجمهورية المتشددة التي لا تقبل أثرا للعهد السابق وأتت بنظام جديد مختلف تماما عن النظام البائد. ولكن بعد ذلك تراجع المد الثوري وعاد ما سمي بالبرجوازيين المعتدلين وسيطروا على الحكم وانقلبوا على الثورة ووضعوا ما سمي بالدستور المعتدل وتحالفوا مع الجيش، إلى أن قاموا بانقلاب بقيادة الضابط نابليون بونابرت على ما سمي بحكومة الإدارة عام 1799 وعين كأول رئيس للجمهورية التي أعلنت. وبعد 5 سنوات من ذلك وافق مجلس الشيوخ الفرنسي على تنصيب نابليون إمبراطورا. وكل ذلك حدث بعدما اشتهر نابليون بحمايته للثورة كقائد عسكري في باريس فحمى حكومة الإدارة عام 1795 ضد الثورة المضادة التي قادها الملكيون، وفي عام 1797 أصبح القائد الفعلي للبلاد، وبعد سنتين ألغى حكومة الإدارة كما أسلفنا، ولم يعد النظام الجمهوري إلى البلاد إلا بعد هزيمة نابليون عام 1815.
الثورة الروسية:
في عام 1905 انطلقت المظاهرات الاحتجاجية بشكل سلمي للمطالبة بالحرية والديمقراطية التي اشترك فيها حوالي 200 ألف في بطرسبرغ، وقامت قوات الأمن التابعة للقيصر بقتل المئات منهم لتفريقها وإخمادها بالقوة. وقد اندلعت مرة أخرى بشكل سلمي من قبل العمال والجنود ضد الأوضاع الاقتصادية؛ من ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور وازدياد نسبة البطالة، وضد خوض الحرب العالمية الأولى بجانب الحلفاء، وقد أخمدت. إلا أنها استؤنفت مرة أخرى في الأشهر الأولى من عام 1917 إلى أن اضطر القيصر إلى التنازل عن العرش وتسليم السلطة للأمير جورج ليفوف في 15/3/1917 ولكن الاحتجاجات والإضرابات لم تهدأ، وقد استطاع الشيوعيون بقيادة لينين أن يتصدروا الثورة ويحولوها لطرفهم. وكان لألمانيا دور في دعم لينين وحركته حتى تخرج روسيا من التحالف المشكل ضدها من قبل بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى. ولكن الذين لم يقبلوا بالنظام الاشتراكي بدأوا بالثورة المضادة، وقد دعمتهم بريطانيا وفرنسا إلا أن النظام الجديد بقيادة الشيوعيين استطاع أن يقضي عليهم عام 1920.
الثورة الإنجليزية:
وما يسمى بسرقة الثورة أو الاندساس عليها أو العمل على حرف مسارها شيء حقيقي، قد تجلى في الثورة الإنجليزية التي اندلعت عام 1642 حتى عام 1646 ولكنها لم تحقق أهدافها، وقد فر الملك تشارلز الأول عام 1647 فاندلعت الثورة مرة أخرى عام 1648 ولكن الملك عاد مرة أخرى إلى أن أعدم عام 1649 ونفي نجله الملك تشارلز الثاني، وقد اندس على الثورة اللورد أوليفر كرومويل فثبت وجود سيادة العائلات العريقة وأصحاب المال ومنهم العائلة المالكة بصورة أخرى، عندما لم يلغ النظام الملكي ويعلن الجمهورية كما كان يطالب الشعب ويقبل بوجود الملكية محددة الصلاحيات، ولم يلغ سيطرة العائلات العريقة والثرية. حتى إن هذه الإنجازات لم تثبت بسبب عدم تصفية الملكية وحكم العائلات العريقة وظلت الفوضى والاضطرابات مستمرة حتى عام 1689 عندما عزل الملك جيمس الثاني وصدر إعلان الحقوق من قبل البرلمان الإنجليزي الذي ينص على أن حق الملك في التاج مستمد من الشعب الممثل في البرلمان وليس من الله، ولا يحق للملك أن يلغي القوانين أو يوقف تنفيذها أو أن يصدر قوانين جديدة إلا بموافقة البرلمان ولا يفرض ضرائب جديدة ولا يشكل جيشا جديدا إلا بموافقة البرلمان وحرية الرأي والتعبير مكفولة ومصانة للبرلمان.
ومن استعراض الثورات القديمة والثورات الحديثة التي ما زالت مستمرة في العالم العربي ولم تؤت أكلها بعد ويجري التآمر عليها نستطيع أن نستنتج الأمور التالية:
الثورات يدخلها كل من هب ودب وكل فريق يعمل على جذبها لطرفه، ويندس بينها من أركان النظام القائم الذي ثار عليه الناس لتغييره ومن العملاء الجدد، فيركبون الموجة ويمتطون الثورة، فهي محفوفة بالمخاطر.
الثورة لا تحقق أهدافها بسهولة وإنما تطول وتمر في مراحل وتجري فيها مساومات. وربما تقبل بأنصاف الحلول لصعوبة الظروف التي تسيطر عليها وخاصة عندما يتمكن العملاء من أن يصبحوا قادة لها، بجانب وجود قيادات ضعيفة من بين الثائرين لا تحدد هدفها أو لا تصر عليه.
كثيرا ما تتحول الثورة إلى حركة مسلحة بعدما تبدأ بالاحتجاجات السلمية على تردي الأوضاع وعلى الظلم والاستبداد وعلى هضم الحقوق وتفشي الفساد والمحسوبية وإهانة كرامة الإنسان، فتسفك فيها الدماء وتختلط الأمور على الناس.
احتمال تدخل الدول الأجنبية التي لها مصالح في إنجاحها أو إفشالها وتبدأ بالعمل على شراء الذمم ليكون لها قدم في البلاد.
تختلط فيها أفكار كثيرة ومشاعر مختلفة وتطرح فيها حلول متعددة، وإن كان هدفها العام إسقاط النظام والإتيان بنظام أفضل. فتظهر عقبات أمام سيادة الفكر الصحيح ويواجه أصحابه صعوبة في جعل الناس يتقبلونه لوحده دون غيره. لأنهم يرون مشاركة أصحاب الأفكار الفاسدة معهم في الثورة فلا يقللون من شأنهم.
كثيرا ما يكون للجيش دور في حسم الأمور سواء بالتحرك مباشرة أو بوقوفه على الحياد حتى يسهل إسقاط النظام، والذي يكسب الجيش لصالحه يمكنه أن يقود الثورة ويأتي بالنظام الذي يريده.
هناك خيط رفيع يربط النقاط الست السابقة، وهذا الخيط الرفيع لا يخفى على صاحب الفكر المستنير. وهو غياب رجال الدولة. وقد يظن أكثر الناس أن رجل الدولة هو الحاكم أو من يباشر شؤون الحكم في الدولة، فيطلقون هذا الوصف على رئيس الدولة والوزراء وأمثالهم، ويعتبرون أن غير هؤلاء لا يتمتعون بوصف رجل الدولة. ويصنفون الناس إلى صنفين: رجل الدولة وابن الشعب، ويدخلون جميع الموظفين والمستخدمين في الدولة في الصنف الثاني.
إن هذا الفهم عند الناس لمعنى رجل الدولة فهم خاطئ، فالحاكم قد يكون رجل دولة وقد لا يكون، وابن الشعب يكون رجل دولة ولو لم يمارس أي عمل من أعمال الحكم، فقد يكون فلاحا في أرضه أو عاملا في مصنع أو تاجرا أو معلما ويكون رجل دولة.
إن رجل الدولة هو القائد السياسي المبدع، وهو كل رجل يتمتع بعقلية الحكم، وهو يستطيع إدارة شؤون الدولة ومعالجة المشاكل والتحكم في العلاقات الخاصة والعامة. هذا هو رجل الدولة، وهو قد يوجد بين الناس ولا يكون حاكما ولا يمارس شيئا من أعمال الحكم.
وإن الدولة الإسلامية منذ قيامها في السنة الأولى للهجرة كانت عامرة بحشد من الرجال الذين يحملون هذا الوصف في عقلياتهم ونفسياتهم وسلوكهم، وقد استمر هذا الحال ما يزيد عن ستة قرون، أي إلى أواخر الدولة العباسية، ثم إنها بعد ذلك لم تخل من أشخاص يتمتعون بوصف رجل الدولة حتى منتصف القرن الحادى عشر الهجري الثامن عشر الميلادى، حين بدأ القحط في إنبات عقليات الحكم، فقل عدد الرجال الذين يمكن أن يُسمَّوْا بحق باسم رجل الدولة، وحين هدمت الخلافة لم يقتصر الأمر على القحط بل انعدمت التربة التي تحوى الخواص التي تنبت رجل الدولة، فلم تعد الأمة الإسلامية تنجب رجالا لهم عقليات الحكم، فانتهى وجودهم في الأمة.
إن الأمة التي ينبت فيها رجل الدولة هي الأمة التي تتمتع في حياتها العملية وفي علاقاتها الداخلية والخارجية بأفكار الحكم، ويتملكها إحساس بمسؤولياتها عن جميع الناس حتى من هم خارج حدودها، في أن ترعى شؤونهم وتعالج مشاكلهم، أو يستولى عليها إحساس بقيمتها الذاتية بين الشعوب، فتندفع لأن تقتعد مكانا ساميا في العالم، بل تسعى لأن تكون في مركز القيادة في العالم أجمع.
أما وقد قامت هذه الثورات بعجرها وبجرها، وبعد أن اتضح للأمة أن حزب التحرير، المعتم عليه إعلاميا قبل الثورات، قد أوجد فيها ومنها رجالا يتصفون بوصف رجل الدولة، فإن على الأمة أن تسلم قيادتها لهؤلاء الرجال، لما لديهم من القدرة والملكة على القيادة السياسية، فيقودوا ثورتها عبر الوجهة الصحيحة التي تعيد لها عزتها كما أرادها الله سبحانه وتعالى حين قال: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾.
ولن يكون ذلك إلا بمضاعفة احتكاك حملة الدعوة بالناس ليزرعوا فيهم الأمل بقرب تحقيق وعد الله، فالخطاب مع الأمة اليوم، في ظل المتغيرات الحالية يجب أن يكون خطابا مؤثرا يمتاز بالحكمة وسعة الحيلة، لأن واقع الأمة اليوم ليس كالأمس، ونحن لا نقصد تغيير فحوى الخطاب أو التنازل عن الأفكار، بل نقصد بذلك حسن العرض للأفكار وتناولها من الزوايا التي تساعد على تطوير فكر وحس الأمة الإسلامية، التي أثبتت الأحداث الحالية تطورهما.
أما أخذ النصرة من أهل القوة والمنعة فيها، فهذه هي الطريقة الشرعية التي سار عليها رسول الله في بناء أمة على فكر واحد وإقامة الدولة على هذا الفكر. فقد أوجد الرسول مجتمعا راقيا بعد أن أخذ النصرة من قادة الناس الذين آمنوا بهذا الفكر ووثقوا بقيادته من دون أن يريق قطرة دم واحدة، فأهل المدينة آمنوا به وآووه ونصروه. ولم يقبل، عليه الصلاة والسلام، بوجود فكر آخر مع فكره ولا نظام آخر مخالفٍ لنظامه، فعمل على سيادة الإسلام وحده بشكل صريح من دون تحالفات مع قوى معارضة ومن دون تنازلات. وقد حاولت قريش خداعه على شاكلة إقامة نظام وطني وذلك بأن تجعله ملكا على مكة في ظل نظامها مع تعايش دينها مع دينه، وكذلك القبائل الأخرى التي اشترطت لنصرته أن يكون لها الملك والأمر من بعده، فرفض كل ذلك وأصر على مطلبه بأن يؤمنوا به رسولا من عند الله الواحد الأحد ويتبعوا ما جاء به من عند ربه، وأعلن موقفه إما أن يظهر الله هذا الدين وحده وسيادته في الدولة وفي المجتمع، وإما الهلاك والموت دونه. وهذا ما يجب أن يكون عليه رجل الدولة الآن وقد تثقف بالثقافة الإسلامية السياسية المبنية على العقيدة الإسلامية أي على الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة.
والخلاصة أن يبقى صدق التوجه وإخلاص العمل وموافقته لكتاب الله وسنة نبيه مفتاحا لوصول الفكرة للناس وقبولهم إياها، وعلى رجال الدولة من أهل الله أن يطرقوا بابه أولا ويخلصوا العمل لتفتح لهم كل القلوب والعقول، وحتى تصل ثورة الأمة إلى المستوى الذي يرضى الله عنه، لا بد لحملة دعوة الخلافة أن يجتهدوا في طرق الأساليب حتى يأذن الله بنصر من عنده ويفتح لنا قلوب وعقول المسلمين وأهل القوة منهم خاصة، فتعود جحافل الفتح وفيالق النصر تضرب في الأرض من جديد حاملة الإسلام والحضارة إلى هذا العالم المريض، وما ذلك على الله بعزيز. وإلى أن يكون ذلك فإن الثورة يجب أن تستمر...
وأخيرا أسأل الله عز وجل، أن يهيئ لنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويحكم فيه بالإسلام، اللهم عجل بقيام دولة الخلافة، اللهم أنجز لنا ما وعدتنا يا رب العالمين، اللهم عجل بقيام الدولة التي تحقن فيها دماء المسلمين وتحفظ فيها أعراض المسلمين، اللهم رحماك رحماك بنا، اللهم لا تقبضنا حتى تسعدنا برؤية دولة الخلافة عاجلا غير آجل، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين اللهم اشف صدورنا بقيام هده الدولة دولة الخلافة على منهاج النبوة يا رب العالمين.