الشاعرة الرائدة نازك الملائكة
زنابق صوفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
الشاعرة الرائدة نازك صادق الملائكة (1923 – 2007)، فقد نشرت والدتها سلمى عبد الرزاق الشعر في المجلات والصحف العراقية باسم أدبي هو "أم نزار الملائكة" أما أبوها صادق الملائكة فترك مؤلفات أهمها موسوعة دائرة معارف الناس، في عشرين مجلداً.
وقد اختار والدها لها اسم نازك تيمناً بالثائرة السورية نازك العابد، التي قادت الثوار السوريين في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي في العام الذي ولدت فيه الشاعرة.
تخرجت شاعرتنا في دار المعلمين العالية عام 1944، ثم التحقت بمعهد الفنون الجميلة وتخرجت في قسم الموسيقى عام 1949، ثم حصلت عام 1959 على الماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن – ماديسون في أمريكا، وعينت أستاذة في جامعات بغداد والبصرة والكويت.
عاشت في القاهرة منذ 1990 في عزلة اختيارية، وتوفيت بها في 20 يونيو 2007 عن عمر يناهز 83 عاماً بسبب إصابتها بهبوط حاد في الدورة الدموية، ودفنت في مقبرة خاصة للعائلة غرب القاهرة.
حصلت نازك على جائز البابطين عام 1996، كما أقامت دار الأوبرا المصرية يوم 26 مايو 1999 احتفالاً لتكريمها بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي، ولم تحضره بسبب المرض، بل حضر عوضاً عنها زوجها.
أهم مجموعاتها الشعرية: عاشقة الليل، وشظايا الرماد، وقرارة الموجة، وشجرة القمر، ويغير ألوانه البحر، مأساة الحياة وأغنية للإنسان، الصلاة والثورة.
كما كانت ناقدة متميزة، صدر لها في النقد: قضايا الشعر الحديث، والتجزيئية في المجتمع العربي، وسايكولوجية الشعر، والصومعة والشرفة الحمراء، كما صدر لها في القاهرة مجموعة قصصية عنوانها "الشمس التي وراء القمة".
يعتقد الكثيرون أن نازك الملائكة هي أول من كتبت الشعر الحر عام 1947 ويعتبر البعض قصيدتها المسماة الكوليرا من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي. وقد بدأت الملائكة في كتابة الشعر الحر في فترة زمنية مقاربة جداً للشاعر بدر شاكر السياب وزميلين لهما هما الشاعران شاذل وعبد الوهاب البياتي، وقد سجل هؤلاء الأربعة بوصفهم رواد الشعر الحديث في العراق:
البحر إغماء لحن حبٍ، البحر زرقة
البحر طفل مسترسل الشعر،
للضحى فوق مقلتيه انكسارةٌ، رفة، وشهقة
البحر تلهو عرائس الماء في تراميه الف جوقة
يلبسن غيماً، ينشرن أجنحة من ضباب
عرائس البحر ضيعتني
زورق شوق هيمان في فضة العُباب
وصيرتني فراشة الرغو والسحاب
وملء روحي وجه حبيبي
تسبيحة عذبة ونجمة
وبرد نسمة
وجه حبيبي أكبر من لانهاية البحر، من مداه
يسد أقطاره الزرق
يطوي طيورهُ، موجهُ، رؤاهُ
وجه حبيبي: زنابق، أكؤس، مياهُ
وجه حبيبي واللا نهايات في عالم واحد
ليس يشطر ولا يجزأ
يابحر قل: أين ينتهي ذلك الوجه؟
قل أين أنت تبدأ؟
وجهُ بحارٌ اضيع فيها، وينطفي ضوء كل مرفأ.. مقلتاهُ
أين ترى تنتهي ؟ وفي أي نقطة تبدأ البراءة؟
وما حدود الألوانِ فيها؟
كيف يمتص منها البحر ليلهُ؟
كيف يستعير الضحى ضيائه؟
وجه حبيبي، يا بركة الصحو والوضاءةِ
وجه حبيبي كسّرهُ الموج واقتناهُ
أشعة، زورقاً، شراعاً
يحضن أفقاً ملوناً، يرتدي سماءه
وكان قلبي يسبح عبر استغراقةٍ خصبة المرايا
في موج غيبوبة وتيه ، في حلم حب
مضيعٍ في مروج هدبِ
يحوب لج البحار بحثاً
عن لؤلؤ ناصعٍ فيه ما في قلب حبيبي
من ألق السر، من عطورٍ، ومن خفايا
من نغم دافئ الهبوبِ
يتمتم النبع فيه وتنساب رياح الجنوب
كنت على البحر أترع البحر من منايا
وجاءني طائر جميل وحط قربي
وامتص قلبي
صب على لهفتي السكينة
ورش هدبي براءة، رقة، ليونة
وقلتُ ياطائري، يا زبرجد
من أين أقبلت، أي نجم أعطاك لينه؟
يا نكهة البرتقال ، يا عطر ياسمينة
وما اسمك الحلو؟
قال: أحمد
وامتلأ الجو من أريج الإسراء
طعم القرآنِ
وامتد فوق إغماءة البحر ضوءٌ
من اسم أحمد
وقلت في لهفة أتوسلُ: أحمد، أحمد
أحمد كانت عيناه بحراً
تسقي باب الوجود.. كانت تنشر عطراً
تنبت في الصخر مرج شذر وأقحوانِ
تسيل نهراً.. من زعفرانِ
أحمد قد كان يانعاً تنتمي الدوالي الى جبينه
وفي عيونه
نكهة أرضي، وطعم نهري، وعطر طينهُ
أحمد قد لاذ بي، ونمى أهداب لحني
في ولهٍ راعش الحنانِ
أحمد من ضوئه سقاني
أحمد كان البخور والشمع في ومَضاني
أحمد كان انبلاج فجرٍ ، وكان صوفية الأغاني
وأحمد في مروج تسبيحةٍ رماني
كلا جناحيه بعثراني
كلا جناحيه لملماني
من أبد الضوء جاء أحمد
من غابة العطر والعصافير هلَّ أحمد
عبر عطورِ القرآن، عبر الترتيل والصومِ، شع أحمد
من عمق أعماق ذكراتي
من سنواتي المختبآت في شجر السرو
من عطور الخشخاش واللوز وجهُ أحمد
يا طائر الفجر
يا جناح الزنابق البيض
يا حياتي
يابعدي الرابع الموسد.. في أغنياتي
ياطلعة المشمش المورد
في زمني، عبر نهر عمري، في كلماتي
أحمد، أحمد!
يا لونُ، يا عمق، يا وجنة السر، يا انفلاتي
من جسدي
من سلاسلي
من ثلوج ذاتي
من كل أقفال أمنياتي
ياطائر الصمتِ، والغموض الجميل، يا شمعدان معبد
أنت المدى والصعود
أنت الجمال والخصب
أنت أحمد
يا رمضاني ، يا سكرة الوجد في صلاتي
يا وردتي، يا حصاد عمري، يا كل ماضٍ، يا كلُ آتٍ
وياجناحي نحو سمائي ونحو ربي
وياقطرة الله في شفاه الوجود، ويا ظلتي، وعشبي
أنقر تسابيح صوفية من على شفتيا
بعثر قرائين بيضاً وخضراً في صحن قلبي
يا سُبُحاتي
يا صوم أغنيتي
ويا سنبلاً طرياً
إني أنا حرقة المتصوف في غسق الفجر
أحمد، أحمد
هل أنت إلا طائر ربي
يا ثلج صيفي، يا لين سُحبي
يا ضوء وجهٍ يطلع لي من كل جهاتي
شرقي وغربي
ومن شمالي، ومن جنوبي، من كل تعريشة ودرب
يطلع أحمد، يطلع أحمد، وجهاً نبياً
ملفعاً بالغناء والأنجم الشمالية المحيا
أحمد يا صافياً مثل أمطار آذار
يا ثلج أول الموسم الرحيمِ
مثل رفيف الأهداب في أعين النجومِ
أحمد يا شاطئ الأبدية
عبر سماءٍ روحية الصمت، ليلكية
تشرب صوفية الغيوم
يا لاعباً بالضباب، يا عطش المجدلية
أحمدُ، أحمدُ
أنا، وأنت، الطبيعة، البحر.. جو معبد
شمعة نذرٍ في خاطر المرتقي تتوقد
والله في حلمنا المورد
شباك عسجد
شباك عجسد
أحمد يا توق مقلتين
مضيئتين
خاشعتين
بالسر والعمق مملوءتين
ياوتراً من قيثارة الله، يا وردُ، يا بحة المؤذن
يا أثراً للسجود ندى جبين مؤمن
أنا وأحمد
أنا وأحمد
سكون ليلٍ ورجعُ تسبيحة تتنهد
يحبناالبحرُ والهديرُ
تعشقنا موجةٌ وتغازل أغنيتنا عرائس الماء والصخورُ
نحن قرابين في المُصلى، نحن نذورٌ
أنا وأحمد
نشوة قديسة تتعبد
سطور حب ممحوة خلفها سطورُ
نهر مديدٌ، ولا عبورُ
أنا وأحمد
يحبنا الليلُ يسهرُ
يشتاق أعيننا
وبأسمائُنا يتهجد
يلثم أقدامنا البحرُ يحملنا في اتجاهٍ
بعد اتجاهِ
أواه لو أنت أحببتنا انت يا إلهي!
ومقلتا أحمدٍ صلاةٌ
مغفرةٌ
موعدٌ
بسملة
جناحه يجرف الخوف، والحزن من حياتي
يُزيحُ أستاري المُسدلة
يفتح في عمري كل بوابةٍ مقفلة
يمنحني للوجود شعراً، أذان فجرٍ، غيبوبةً، ركعةً، سُنبلة
أحمد زنبقة الله تقطر في تنهداتي
أحمد فوق شواطئ وعيي: فكرٌ، محبة
والبحر من دون مقلتيه موتٌ وغُربة
من دونه العمر جرف ليالٍ
مثل الخطايا، سوداء، رطبة
أحمد توبة
أحمد توبة
وطارت الطير في الصباح
طارت جميعاً تلعبُ في الغيم والرياح
وتنقر الضوء فوق بحرْ بلا انتهاء
ولم يطر أحمد، ظل قربي
وظللتنا سحبٌ مبقعةٌ بالضياء
كنا نغني.. للحب، للبحر، للسماء
كنا شراعين شاردين
مضيعين.. في غاب لحن
تكسرت في غنائنا الشمس والمرافي واللانهاية
تكسرت كل ضحكاتنا، كل أشواقنا في مدى حكاية
والمد جاء
يلثم أقدامنا، يتكسرُ
أحمد، أحمد
نحن، أنا، أنت والأعالي.. ليلٌ وصمتٌ.. والله في روحنا غناء
وسوم: العدد 625