الرمادي: زراعة الشوك
في مواجهة 2000 مقاتل كحدّ أقصى (والبعض لا يتردد في الحديث عن 1000 مقاتل، لا غير)، هم عديد «داعش» في الرمادي؛ ثمة ثلاثة جيوش:
ـ العراقي، الذي تهيمن عليه قيادات قاصرة عسكرياً، كما أثبتت معظم المعارك، ومنحازة مذهبياً، وفاسدة أخلاقياً. وهذا جيش متحالف مع «قوات الحشد الشعبي»، التي لم تعد ذات ولاء إيراني، تحت قيادة «الحرس الثوري» أحياناً، فحسب؛ بل اتضح أنها تمارس بعض أبشع أنماط القمع، والنهب، والتهجير، والتطهير المذهبي.
ـ الجيش الثاني هو الصيغة المحدّثة من «الصحوات» القديمة، أي الوحدات العسكرية المؤلفة من السنّة، المتطوعين غالباً، والذين تعهد الجيش الأمريكي بتدريبهم وتأهيلهم تحت شرط ـ متفق عليه، ومسكوت عنه ـ هو عدم خضوع هؤلاء لقيادة الجيش العراقي الرسمية؛ بالنظر إلى أنّ هذه الأخيرة لا تحظى بالثقة، بسبب سمعتها المذهبية والفاسدة تحديداً.
ـ وإذا كان العراقيون، في الفئات أعلاه، هم المكلفون بالقتال على الأرض؛ فإنّ الجيش الثالث ، الأمريكي يقاتل «داعش» من السماء فقط، وعبر عمليات القصف الجوي، منفرداً غالباً، وضمن التنسيق الفضفاض مع التحالف الدولي غالباً.
هذه، أيضاً، ثلاثة أساليب قتالية، وثلاث سياسات، غنيّ عن القول؛ ناجمة عن اختلاط الأغراض العسكرية، القريبة أو البعيدة، وتعدد القيادات أو ضعف التنسيق بينها أو انعدامه نهائياً. ومن الطريف متابعة السجالات، إذا جازت تسميتها هكذا أصلاً، بين الجنرال مارتن دمبسي رئيس الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية، والجنرال لويد أوستن قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، من جهة؛ وقادة الجيش العراقي، وزعماء «الحشد الشعبي»، وممثّلي المتطوعين السنّة، من جهة ثانية؛ حول «أولويات» المعركة: أهي تحرير الموصل، أم الرمادي، أم الفلوجة؟ الاعتماد على هذا الجيش، أم تلك الميليشيا؟ على الأرض، أم في السماء؟
وقبل أن يصل وزير الدفاع الأمريكي، أشتون كارتر، إلى العراق (وكان الأساس في زيارته هو طمأنة حليف الدرجة الأولى الإسرائيلي، ثمّ حليف الدرجة الثانية السعودي، قبل إنقاذ الرمادي والفلوجة والموصل…)؛ كانت تصريحاته حول انحدار كفاءة الجيش العراقي قد سبقته: «كما هو واضح، ما حدث هو أن القوات العراقية أبدت عدم رغبتها في القتال. إن عددهم أكبر من مهاجميهم بكثير، في الحقيقة، ومع ذلك فقد فشلوا في القتال، وانسحبوا من الموقع. لدينا مشكلة في إرادة العراقيين بالقتال ضد داعش، والدفاع عن أنفسهم».
لا بأس، ولكن هل كان كارتر، وقبله جنرالات البنتاغون، على يقين من أنّ هذا الجيش العراقي تحديداً، ربيب المذهبية والفساد، صنيعة الغزو الأمريكي للعراق في المقام الأول، الذي فرّ من الموصل كقطعان أرانب مذعورة… يمكن، حقاً، أن يصمد في الموقع، ويكرّ، ويحرّر، وينتصر؟ وما نفع أية ستراتيجية قتالية تُرسم لهذا الجيش من أروقة البنتاغون، إذا كانت غالبية قياداته لا تتخبط في التخطيط والتنفيذ على الأرض فقط، بل تتشرذم بين ولاءات شتى، ليست أقلها شأناً تلك الطاعة للجنرال الإيراني قاسم سليماني؟
يبقى، بالطبع، ما يتوجب التشديد عليه دائماً: أنّ المشهد العراقي الراهن، ومثله المشهد في سوريا أيضاً، ليس أقلّ من حصاد، متأخر أو كان مؤجلاً، لسياسات أمريكية عتيقة، تتجاوز خيارات البيت الأبيض الراهنة، وتضرب بجذورها في تلك التربة الفاسدة التي استقرّت عليها السياسات الأمريكية في المنطقة، طيلة عقود طويلة؛ أي رعاية أنظمة الاستبداد، أو حتى التواطؤ معها، تحت شعار «الاستقرار». ليس عجيباً، إذاً، أن تقفز «داعش» وأمثالها إلى ملء الفراغ؛ إذْ ما الذي ينتظره زارع الشوك سوى هذا الحصاد، في نهاية المطاف!
وسوم: العدد 626