شتان بين جمهور المصليات وجمهور المهرجانات وكل إناء يرشح بما فيه
الجمهور في اللسان العربي من فعل جمهر يجمهر جمهرة الشيء إذا جمعه، وتجمهر القوم إذا اجتمعوا ، والجمهور معظم كل شيء ، ويطلق على معظم القوم وأشرافهم . وتطلق لفظة جمهور أيضا على الشراب المسكر لأن جمهور الناس يستعملونه. ويفهم من ذلك أن كل شيء يستعمله جمهور الناس يسمى جمهورا . والناس يتجمهرون لأسباب مختلفة تتراوح بين الجد والهزل ، وبين المهم والتافه ، وبين المقدس والمدنس ، وبين النافع والضار ... فالناس يتجمهرون خمس مرات في اليوم للصلاة، وهي عبارة عن وقوف بين يدي خالقهم تعظيما له وتقديسا وطلبا لهدايته وعفوه ومغفرته وتكفيرا للذنوب والمعاصي المرتكبة بين الصلاة والأخرى . ويتجمهرون في عيدي الفطر والأضحى شكرا لله عز وجل ، ويتجمهرون أيضا في الحج الأكبر لذكره وشكر نعمه ، وللتخلص من المعاصي والآثام . ويتجمهرون لسماع الذكر والوعظ أسبوعيا في يوم الجمعة . وقد يتجمهرون للاستسقاء أو بسبب الخوف ، وهذا النوع من التجمهر هو تجمهر عبادة يفرض على المتجمهرين نوعا خاصا من السلوك الذي يطبعه استحضار عظمة الخالق جل في علاه بسكينة وخشوع ورهبة ورغبة وبكل أنواع الأحاسيس التي تتطلبها العبادة .
وقد يتجمهر الناس لأسباب علمية كما هو الشأن بالنسبة للجامعات والمعاهد والمؤسسات التربوية . وقد يتجمهرون لأسباب اقتصادية كما هو الشأن بالنسبة لاجتماعهم في الأسواق للتسوق أو طلبا للرزق في مزارعهم ومصانعهم . وقد يتجمهرون لأسباب سياسية كما هو الشأن بالنسبة للتظاهرات الحزبية والسياسية وسماع الخطب السياسية والحزبية . وقد يتجمهرون للتنزه والتسلية والاستجمام والاستحمام كما هو شأنهم على الشواطىء وفي الطبيعة . وقد يتجمهرون للفرجة كما هو شأنهم في المسارح والأماكن العامة التي تكون أحيازا للفرجة. وقد يتجمهرون للعب أو مشاهدته كما هو الشأن بالنسبة لمختلف الرياضات . وقد يتجمهرون للأفراح والأتراح كما هو الشأن بالنسبة للأعراس و مختلف المناسبات ، وكما هو الشأن في العزاء . وقد يتجمهرون لأسباب أخرى بسبب تقليد من التقاليد أو عادة من العادات كما هو الشأن بالنسبة للمواسم .
ويكون التجمهر على قدر قيمة سببه ، فإذا عظم السبب وجل يكون التجمهر عظيما وجليلا ويكون شأن الجمهور عظيما جليلا أيضا ، وعكس ذلك إذا هان السبب كان التجمهر هينا وكان الجمهور مهينا .
ويجانب الصواب من يحاول المقارنة بين تجمهر وآخر أو بين جمهور وآخر، ذلك أن العبرة لا تكون بالتجمهر في حد ذاته بل تكون بسببه وعلى قدر أهمية هذا السبب في حياة المتجمهرين . ولقد قص علينا القرآن الكريم خبر تجمهر قوم فرعون عندما واجه نبي الله موسى سحرته ، ولم يكن التجمهر لصالحهم بل كان خيبة أمل بالنسبة إليهم لأنه كان تجمهر باطل ، وما بني على باطل كان باطلا . ولقد تباهى البعض بجمهور مهرجان موازين ردا على الذين أنكروا هذا المهرجان بسبب ما قدم خلاله من عروض لم تراع قيم الأمة الأخلاقية كما هو الشأن بالنسبة لعرض الراقصة الأمريكية ومجموعتها التي تعرت عريا مخلا بالحياء والأخلاق وحاكت برقصها لقطات جنسية فاضحة . ولقد اتخذ المسوقون أو المروجون لهذا المهرجان من جمهوره دليلا على مصداقيته ، علما بأن التجمهر قد يكون بسبب ما لا مصداقية له كما هو الشأن بالنسبة لتجمهرهم لمعاقرة الخمر حتى سميت الخمر جمهورا بسبب ذلك . والتجمهر لمشاهدة رقص العري الماجن لا يمكن أن يضفي المصداقية عليه ، ولا معنى ولا قيمة للافتخار بجمهوره . وعلى غرار الافتخار بجمهور مهرجان موازين في العاصمة الإدارية يقع اليوم الافتخار بجمهور مهرجان الراي في مدينة الألفية عاصمة المغرب الشرقي . وإذا ما تأملنا الراي الذي يتجمهر له الناس في مهرجان الراي من الناحية الفنية لم نجده شيئا ولا فنا كما يروج له سواء تعلق الأمر بمضامينه أو بأشكاله أو أساليب أدائه . أما مضامين الراي فعبارة عن مضامين عابثة ماجنة في الغالب تدور حول التغني بمغامرات السكر والعربدة والعلاقات غير الشرعية بين الجنسين أوما يسمى المغامرات العاطفية ... وأما أشكاله فعبارة عن إيقاعات صاخبة تنبعث من مختلف أنواع الأدوات الموسيقية بألحان ناشزة يغلب عليها الصخب الذي يحاول التغطية على هزالة وضحالة المضامين ، ويحاول إثارة الجمهور لتنويمه مغنطيسيا والتحكم فيه ليصخب ويرقص بانفعال، وفي هذا الجمهور عدد لا يستهان به يكون تحت تأثير المسكرات والمفترات لأن الطرب في الغالب يصاحبه السكر ليحصل التفاعل بينهما . وأما أساليبه فتعتمد أنواع الإضاءة الخاطفة للأبصار بغرض التمويه على ضحالة الراي وتفاهته أيضا ، وهي أساليب تؤثر في الأغرار والصغار ومن على شاكلتهم . ومع أن الفن الراقي عند أهل العلم والاختصاص هو ما تناول قضايا إنسانية سامية وتغنى بالقيم والمثل العليا فإن المسوقين للراي يحاولون حشره في دائرة الفن مع أنه لا يسمو بالعواطف والأذواق نحو القيم السامية والمثل العليا بل ينحدر بجمهوره نحو أنواع من السلوك المنحط المبتذل حين يجعل من مغامرات السكر والعربدة والانحراف والاغتراب من أجل ذلك قضايا ويضفي عليها الأهمية ، ويزعم أنه يربي الأذواق ويسمو بها بمضامين فارغة خلقيا ، ويحاكي قول القدماء " أجمل الشعر أفجره " حيث يصير الفجور عند الفجار مثالا من المثل التي تستحق التغني بها . ومعلوم أن بداية الراي وهو ضرب من الهذر انتشر في شرق المغرب وغرب الجزائر كانت في مجالس الشرب حيث كان مغنو الراي بعد أن تلعب الخمر بعقولهم يتباكون على ما ضاع من حياتهم في اللهو والعبث والعربدة من خلال التحسر على رأيهم الفاشل . ولا زال الطابع الغالب على هذا النوع من الهذر أو العفن المحسوب على الفن هو التعبير عن فشل الرأي وضياع أصحابه ، وتلك ظاهرة قديمة عرفتها المجتمعات العربية كما هو الشأن بالنسبة لمن كانوا يسمون الشعراء المجان الذين كانوا يتغنون بالمجون والعربدة وشعارهم اليوم خمر وغدا أمر. ويجادل البعض في نسبة الراي للفن ،وفيهم مع شديد الأسف من يعدون من الدارسين الأكاديميين ويتعسفون في نسبته للفن ،وهم بذلك ينسبون النسل لذي عقم كما قال الشاعر . ومع أن الوطن الصغير والكبير يعجان بالمآسي الكبرى وعلى رأسها ضياع أقدس المقدسات ، وتفكك أوصال الأمة بالحروب الطاحنة التي أتت على الأخضر واليابس ، وتشتت الأمة بالنزعات الطائفية المقيتة ، وانتشار الجريمة بكل أشكالها، واستفحال الإرهاب ،وتفشي الفقر والفاقة والجهل والأمية ، وطغيان الاستبداد والظلم فإن أصحاب الراي يعيشون في أبراجهم العاجية ، ويشتغلون بصرف شباب الأمة عن أهم قضايا الأمة ، وينومونهم مغناطيسيا ،ويخدرونهم، ويجعلون هممهم قاصرة عن طلب العلا والمكرمات ، والكد والجد من أجل اللحاق بالركب الحضاري المتطور بسرعة فائقة . فما أكثر ضحايا تربية الراي من المراهقين الذين أهملوا دراستهم وتخلوا عنها وصار شغلهم الشاغل هو الترنم بأغاني الراي واجترار مشاعر التحسر بسبب الشعور بالضياع . ولقد بلغ الأمر بالمستلبين بالراي حد تسجيل عبثه العابث على هواتفهم الخلوية وتراهم يتسكعون في الشوارع وفي رؤوسهم قزع ، وقد تدلت سراويلهم عن أعجازهم وهواتفهم تصدح بعفن الراي وتسمع المارة في الشوارع وحتى من في البيوت ،وقد يكون ذلك في منتصف الليل أو في ساعة متأخرة منه أو في فجر بعد ليلة ماجنة عابثة . وصار هذا النوع من ضحايا الراي لا يعرف معنى للأخلاق والقيم لأنه تطبع على راي لا يولي القيم والأخلاق أهمية .
وليس من قبيل الصدف أن تطلق في اللسان العربي لفظة جمهور على أشراف الناس إذا تجمهروا من أجل أمر شريف ، كما تطلق على سوقتهم ورعاعهم إذا ما جمعهم سكر أو عربدة . ولقد تجمهر آلاف الناس في أربع مصليات في مدينة الألفية ولم تتحدث المواقع الإلكترونية عن هذا التجمهر الذي كان لله عز وجل بمثل ما تتحدث به عن جمهور الراي بل من المواقع الوقحة من انتقدت تجمهر المصليات وحاولت نسبة التذمر لجمهور المصليات بسبب الحرارة ، ومنها من انتقدت خطب العيد ونعتتها بأقبح النعوت في حين يوصف الراي بأفضل وأجمل الأوصاف ،ويرفع من قدر جمهوره مع أنه شتان بين جمهور المصليات وقد ختم شهر عبادة الصيام بتجمهر لشكر الخالق سبحانه وتعالى وبين جمهور مهرجان الراي الذي لا يخلو تجمهره من معصية الخالق ،وكل إناء يرشح بما فيه.
وسوم: العدد 627