سوء التفكير السياسي يعرقل التحرر من الهيمنة الغربية
يفكّر الإنسان عموما بالوقائع المحيطة التي تشغل باله، وحتي يتم عقل هذه الوقائع (أي التفكير) لا بد من أن تنتقل "بيانات" هذه الوقائع إلى دماغ الإنسان عبر أدوات الإحساس البشري، ومن ثم لا بد من توفّر معلومات سابقة مخزّنة في ذهن الإنسان يتم ربطها بتلك البيانات المحسوسة. إذن، هنالك أربعة مقومات لعملية التفكير: ثلاثة تتعلق بالمفكر (وهي الدماغ والحواس والمعلومات السابقة) وواحدة بما يحيط به وهي الوقائع. ولا يتم التفكير إلا باكتمال هذه العناصر.
والتفكير السياسي هو نوع من التفكير بالوقائع التي تتعلق برعاية شؤون الناس، لأن السياسة أساسا هي رعاية مصالح الناس وشؤونهم. وهو من أهم أنواع التفكير الذي تستقيم به أمور الناس والدول، ويجري عبره التغيير والنهضة. ويكون باتجاهين: معرفي وعملي، على النحو التالي:
(1) أكاديمي - بحثي يقف عند حد إنتاج المعرفة وتوفير معلومات سياسية، وهو ما يمارسه "المحللون السياسيون" مثل العلوم السياسية والأبحاث السياسية ودراسة نظرياتها.
(2) تنفيذي - رعوي يقود للعمل وهو ما يمارسه "السياسيون"، ولذلك فهو يستند لتداول الأخبار والوقائع وربط حوادث الشأن الجاري، مستهدفا تغيير الأحداث أو التأثير في مجرياتها، فهو تنفيذي لا مجرد تحليل نظري، ويعتبر أعلى أنواع التفكير ويحتاج إلى دراية ومهارات يكتسبها السياسي مع المراس والتجربة السياسية والمداومة على تتبع الأخبار والشأن الجاري. وهو فرض كفاية على الأمة الإسلامية، لأنها تحمل عقيدة سياسية تدفع أتباعها للاهتمام بشؤون العباد.
ولا شك أن المتابع للإعلام يلاحظ وجود هذين النوعين: المفكر السياسي (أو المحلل) والسياسي الفاعل.
ومما يؤسف له أن الأمة - بعد هزائمها العسكرية أمام الغرب - تأثّرت بنتاج الفكر السياسي الغربي نتيجة لعقدة "تقليد المغلوب للغالب" وكمحصلة لعملية ترويض طويلة "للنخب السياسية" التي تم صناعتها، فساء عندها التفكير السياسي، ومن ثم نتجت طبقة من السياسيين (تسندها طبقة من المفكرين السياسيين) صارت في حالة انفصام مع الأمة وثقافتها، وذلك لأنها تبنت نتائج وتوجهات التفكير السياسي الغربي: الذي قام على فكرة سياسية تناقض ثقافة الأمة وحضارتها، وهي فصل الدين عن الدولة، وقام على فلسفة "الحل الوسط" التي أبدعها مفكرو الغرب إبان الصراع الثوري ضد هيمنة الكنيسة وأنظمة الإقطاع. ومن ثم بلوروا فكرة الحكم الجماعي كحل وسط بين حكم الشعب المباشر وحكم الملك المتفرد.
وسارت تلك "النخب السياسية" على النهج الغربي وحملت نظرياته السياسية وتبنت معالجاته للوقائع التي تطرحها المؤتمرات والمبادرات السياسية. وحشرت ممارساتها السياسية وأطروحاتها ضمن أدبيات الحكم الديمقراطي، وقامت على فكرة الغرب في الحكم الجماعي: على مستوى السيادة التشريعية (البرلمانات) وعلى مستوى السلطان التنفيذي (مجالس الحكم ومجالس الوزراء). وتكونت الأحزاب السياسية على هذا الأساس الغربي. ولم يقف السوء عند هذا الحد، بل تبنت بعض النخب ما "أبدعه" الغرب من فكرة القطاع الثالث (المنظمات غير الحكومية) كقطاع منفصل عن الحكومة وعن القطاع الخاص (الربحي)، وأوكل إليه جانبا رئيسا في الرعاية اعتبرها شيئا منفصلا عن الدولة، وصارت نافذة للاختراق السياسي عبر التمويل.
ويلاحظ المتابع بوضوح هيمنة هذه التوجهات الغربية على سياق الأحداث اليومية في الأمة: فمثلا تم في سياق الثورات طرح الدولة المدنية (العلمانية) كبديل عن الأنظمة الدكتاتورية، ومن ثم انشغلت القوى السياسية في صياغة دساتير وضعية عبر برلمانات جعلت السيادة التشريعية فيها لمجموعة منتخبة، ومن ثم تم تشكيل الحكومات ومجالس الوزراء الديمقراطية، وأيضا ظلت تنشط تلك المؤسسات غير الحكومية وتتحرك بسيل التمويل الأجنبي لتنفذ الأجندات الغربية وتحرف الثورات عن مسار التحرر الكامل من الهيمنة الغربية.
وهذه الأمثلة تكشف عن مفاصل سياسية دفعت الثورة إلى حضن الاستعمار بدل أن تخلعه، وأدّت إلى انتكاسة جديدة كما تجسّد بوضوح في الحالة المصرية، التي اتخذت فكرة الحكم الجماعي وإرادة الناس مبررا للانقضاض على الحكم الجماعي الآخر الذي نتج عن الانتخابات بعد الثورة، وتم تغيير الدستور تحت الذرائع نفسها.
وبكل أسف لم يقف حد ذلك السوء عند الأنظمة، بل تم الاختراق الفكري والسياسي لكثير من الأحزاب والجماعات، وتماهت مع ذلك التفكير السياسي الغربي الهدّام، وأصبحت من حيث تدري أو لا تدري أداة تسهم في تعزيز الهيمنة السياسية والفكرية للغرب، وتمكّن الغرب عبرها من تمرير برامجه ومشروعاته السياسية، كما حصل في تونس مثلا حيث تمازجت ألوان الأحزاب التي انخرطت في اللعبة الديمقراطية ولم يعد بالإمكان تمييز ما هو "إسلامي" عما هو علماني، وكما يجري في اليمن من اقتتال بين الفصائل التي تحمل جميعا مشروعات سياسية ترقيعية أو مصلحية، وتحتشد ضد بعضها البعض على أساس تناقض المصالح الاستعمارية لا تناقض المبادئ وأفكار الحكم. وكما في سوريا حيث تجنّدت بعض الجهات "الثورية" لتحقيق النموذج الغربي في الحكم وتمرير ما تطرحه القوى الغربية من الحلول السياسية التي تبقي الهيمنة الأمريكية على سوريا. لذلك فإن سوء التفكير السياسي قد أفشل عددا من الثورات التي لم يتبلور فيها فكر سياسي متحرر من نتاج الفكر السياسي الغربي، ومهّد لردة ثورية.
وهذه النتائج الخطرة لسوء التفكير السياسي يجب أن تقود السياسيين المخلصين إلى التنبّه، وتدفع ثوار الشام على وجه الخصوص إلى التفكير السياسي الصحيح المستند إلى عقيدة الأمة والمتحرر من أدبيات الغرب وأطروحاته وممارساته. وأن توجّههم لنظام الحكم الفردي في الإسلام الذي جعل السيادة التشريعية للشرع، وقام على الشورى لا على الديمقراطية، وأوجب التحرر من الاستعمار لا التماهي مع مشروعاته، وتناقض في جلّه مع الفكر السياسي الغربي من حيث الشكل والمضمون.
وسوم: العدد 628