عن الزهد وإيقاع العصر
رشيد العالم
متى فقدت الأمم روحانية الزهد، وزلال هالتها الوضّاءة الناصعة البياض، والحكمة من الزهد، صَارت كالبهائم والروبوتات والأصنام التي وصف بها أبو الطيب المتنبي، البشر في بيت شعري شهير له وهو ممتط ناقته:
وأســـيرها بن أقوام أشهــادها
ولا أشــاهد فيها عـــفة الصّنم
حُق لأبي الطيب أن يصف البشر بالأصنام، لاسيما في زمن يعمل في البشر ليل نهار تخريبا ً وتمزيقا ً لبعضهم البعض، وشطرا ً للحمة الحقيرة التي تجمع بين أفراد الأسرة البشرية، إلى أجزاء متعددة، فلو كان سكان المعمورة يزهدون في يومهم رُبُعَه، أو نِصْف رُبُعهِ، لتقينا شرّا مستطيرا، وحضينا محاسن ومآثر عدة،
الزهد الذي وصفه القديس " أوغسطين ":
" بأنه سياحة روحية تفضي إلى تجربة داخلية "
و يعني بذلك أن يتخلص المرء من كل الأعباء التي تثقل النفس، ومن كل شوائب الجسد، ومن كل الطاقات السلبية التي اجتذبتها حواسه.
والذي وصفه " دلاي لاما " زعيم التبت الروحي، بأنه ترويض للنفس والروح، وتجميل لها بالفضيلة والمعرفة، وحكمة يكتسبها الإنسان من خلال الاستغراق في التأمل والتفلسف، فتصفى روحه بالتعبد وتتسامي إلى حضرة الذات الإلهية،
فهو يعتقد أن المعرفة الميتافيزيقية، أو الحكمة الماورائية، لا تتحقق إلا بمعرفة وجودية.
كثر ما قيل وما كتب عن الزهد، فمعظم الديانات كتابية كانت أم شفهية، تطرقت إلى الزهد، واعتبرته كما لو أنه عبادة تضاف إلى أنواع العبادات الأخرى، القلبية، القولية، العملية، المالية، فحتى في الديانات التي ظهرت في آسيا والشرق الأقصى والهند من طاوية ويوجي وفيداثا، وبوذية وسخنية وكونفوشيوسية وغيرها، اعتبرت الزهد والتصوف عبادة، فكان يُنظر إلى الزّاهد باعتباره الصّالح التقي، صَاحب الفتح الرباني، ومالك الأسرار، ومالك النفحة القدسية العلوية...
كما أن التاريخ يزخر بقصص الزهاد الذين صاروا أشبه بالملوك، فكان القوم يبايعونهم ويعتبرونهم مرجعيات روحية،
وقُيّادا ً يوكل إليهم زمام الحكم والقرار والإرشاد، فالكل سمع بقصة التاجر الإفريقي الزاهد الصالح التي أسلم على يده ملايين من الأفارقة بالقدوة الصالحة.
الزهد حياة من أجل الحياة
حياة من أجل فهم معاني الحياة..
وما وراء الحياة، لا كما قال الفيلسوف " نيتشه " من أن الزهد
هو حياة ضد الحياة أو هو إرادة العدم.
فالقرآن الكريم يؤكد في غير ما سورة وآية على أهمية الزهد والخلوة والسفر والتفكر، في حياة الإنسان.
" قل سيروا في الأرض فانظروا"
" أفلا يتفكرون " . " أفلا يعقلون" . " أفلا ينظرون "
" قل انظروا ماذا في السماوات والأرض.."
" أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يفقهون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "
غير أن الزهد في نظر الجيل المعاصر من بني البشر، يعتبر ضربا ً من ضُروب الجنون والهَرطقَة، وسلوكا شاذا، فالزهد لم يكن يوما، جفاء الآخرين، فها هو " بوذا " مؤسس الديانة البوذية، بعد سنين من التأمل والزهد وقلة الطعام والشراب، اكتشف أن تعذيب النفس يملأ العقل ضبابا ويحجب عن النفس رؤية الحقيقة، فعدل عن الزهد إلى حياته العادية يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويجالس الناس،
الزهد لم يكن هجر الآخرين والإعراض عنهم تقربا وتضرعا إلى لله، ولم يكن اختلاء بكهف ولا غار، ولا تيها بين الفجاج، ولا هجرة بلا عودة في قلب فلاة من الفلوات القاحلة، مما ظهر عند كثير من المتصوفة المسلمين جراء احتكاكهم بالثقافات الغربية فتأثروا بثقافية الفرس والهند واليونان، فزاغ الزهد ومذهب التصوف عما كان عليه، فتحول من تفرغ للعبادة، إلى محاولة الإتحاد بالذات الإلهية، كما اختلط بأنواع من ممارسات السحر والشعوذة والدجل والفراسة والعرافة بعد أن فشا الجهل والجمود، وأسرف الزهاد المتصوفة على أنفسهم، فبعضهم أعتبر نفسه إلها، وبعضهم كفر بالدين والقرآن، وبعضهم استغني عن العبادة،
الزهد لم يكن ما كان يفعله أسلافنا، فلو تسنى لهم أن يشهدوا ما شهده العالم الحديث من ثورات رقمية يومية، لما فكروا في الخلوة والزهد، ولما استطاعوا ذلك، غير أن الزهد الحالي يجب أن يخضع لأسلوب تربوي متحضر عقلاني ينساق مع نمط العيش والمتغيرات الاجتماعية والعلمية والتقنية والثقافية وأن يواكبها ويرافقها وأن لا يبقى بمنأى عنها، فأن نقول مثلا بأن الزاهد عليه أن يقطع صلته التامة بعوالم الاتصال الحديثة قبل أن يتفرع للزهد، فهذا نوع من التزمت، ورغبة في العودة إلى الجمودية، والعودة بالعصر إلى وراء الوراء، بل على العكس يمكن للمرء أن يكون زاهدا وهو على صفحته في " الفايس بوك "، مثلا فلا ينقر بزر الفارة الأيمن على ما يخرم المروءة، ويخدش الفضيلة، ويسيء إلى سمعة المرء وعفته، وأن لا يحذق في الإباحيات والصور، التي لا معنى ولا طائل من مشاهدتها، وأن يكلم الصلحاء من الناس وأن يساهم في عملية الإصلاح والتغيير من داخل هذه العوالم الرقمية، أن ينشر كلمة تترك أثرا في النفوس، فائدة من الفوائد...إلخ
فهذه المسائل تعتبر زهدا وتصوفها وعبادة في حد ذاتها، وهي الأصعب والأفضل والأسمى من زهد التشرد في الغابة والتيه خلف اللاوجهة واللاشيء،
الزهد لا يعني الانعزال عن استعمال الوسائل التي جادت بها العولمة التكنولوجية، إنما الزهد يكمن في كيفية استعمالها، بما يعود بالنفع والصلاح على المجتمع والفرد، وفيما يرضي المولى عز وجل.
فالتاريخ أثبت أن كثيرا من الزّهاد الذين انعزلوا بلا علم ومعرفة مسبقة، وآثروا خلواتهم، على مُشاركة الأمّة همومها ومستجداتها، أفراحها وأتراحها، ارتدّوا على الدين، وسَنوا لأنفسهم عقيدة أخرى، فبعضهم وقع في " الحلول "، وبعضهم وقع في " التثنية "، وبعضهم تزندق والبعض الآخر ألحد...
صلة الرحم بالآخرين تقتضي في المستوى الأول، أن نجدد ونوطد صلتنا بأنفسنا، فكما أن فهمالأنا خطوة لفهم الأخر والآخرين، فصلة الأنا جسر نحو صلة الأخر والآخرين...