الاستيطان ودولة يهودا والسامرة
مفارقة تلك التي تجمع بين هدم جرافة إسرائيلية منزلين، أقامهما مستوطنون يهود في مستوطنة بيت إيل على ملكية خاصة تعود لمواطن فلسطيني، تنفيذا لقرار طال انتظاره من محكمة العدل العليا الصهيونية، وقرار حكومة بنيامين نتنياهو المتزامن مع عملية الهدم بتشييد 300 منزل جديد في المستوطنة نفسها ضمن حفنة من القرارات الاستيطانية الجديدة في أرجاء الضفة الغربية، ومن ثم إقدام عتاة المستوطنين على حرق أسرة دوابشة، ما أدى الى استشهاد الطفل الرضيع حرقاً، ووفاة والديه لاحقاً، وما زال شقيقه (4 سنوات) في المستشفى يعاني من حروق بالغة.
هل ثمة تناقض بين (العدالة الإسرائيلية) المزعومة وقرارات الحكومة أم أن هنالك يقظة ضمير لدى البعض الصهيوني تجاه تغول السرطان الاستيطاني الصهيوني، وانتشاره في الأرض الفلسطينية.
المتبصر في تلك الأمور لا تخدعه هذه المظاهر الكاذبة، إذ إنه في حقيقة الأمر، وعبر القرارات المتعاقبة للمحاكم الإسرائيلية، يتبين بوضوح دور هذه المحاكم في توسيع الاستيطان وإعطائه الشرعية القانونية اللازمة، ولا يعدو أي قرار صادر عنها بإزالة مؤقتة لبعض التعديات سوى محاولة منها لإعادة المستوطنين إلى جادة التعليمات التي سنتها، لأفضل الطرق في مصادرة أراضي الفلسطينيين واقتلاعهم منها.
قالت وزيرة العدل في حكومة نتنياهو إنه من المفيد أن يهدم بيتان ليصير ممكناً إقامة عشرات البيوت في المكان نفسه، معتبرة أن من المؤسف هدمهما من أجل إعادة بنائهما. أما وزير التعليم فأوضح أن للمحكمة أن تقرر ما تشاء، فعلى القضاء إصدار الأحكام، وعلى الحكومة أن تقرر استمرار البناء، وهذا هو الرد الصهيوني كما يراه. كأنهما يقولان: حسناً، سنتعلم من أخطائنا، ونقوم بالاستيطان وفق كراس التعليمات القانونية التي تتجاوز الحكومة بعض إجراءاتها الشكلية، بحيث تغدو مهمة المحاكم الصهيونية إعادة إرشاد الحكومة إلى أفضل الأساليب والذرائع، لمصادرة الأراضي وتوسيع الاستيطان.
تتمثل الخطوات القانونية، كما تراها المحكمة، في جواز مصادرة الأراضي ونزع ملكيتها من أصحابها لأسباب أمنية، أو لإقامة قواعد للجيش عليها، ومن ثم توافق على إقامة مدنيين في هذه القواعد، بحجة مشاركتهم في الجهد الأمني، وتتحول هذه القواعد إلى مستوطنات، ويتم توسيعها تدريجياً، وتبتلع كل ما هو حولها بحجة أمن المستوطنين. إذ، وكما جاء في قرارات للمحاكم، يجوز تقديم الأرض لتوطين مدنيين عليها، لأن وجود هؤلاء المستوطنين من الضرورات الأمنية للدولة. كما وفرت المحاكم للحكومة عدة قوانين، تتيح لها التحكم بالأرض العربية كما تشاء، وأهمها: قانون المناطق المغلقة الذي يسمح للحاكم العسكري إغلاق أي منطقة من دون إبداء الأسباب، وقانون أملاك الغائبين الذي يتيح مصادرة أملاك الذين هجروا من أراضيهم، وقانون الأراضي البور الذي يجيز مصادرة الأرض التي لم تجر فلاحتها، وهو قانون مثير للسخرية، إذ غالبا ما تلجأ السلطات الصهيونية إلى إعلان منطقة ما مغلقة، وتمنع أصحاب الأرض من فلاحتها والاعتناء بها، لتصادرها بعد سنة تحت ذريعة قانون الأراضي البور.
لم يتطرق اتفاق أوسلو إلى موضوع الاستيطان، بل وترك أكثر من 60% من أراضي الضفة الغربية ضمن ما يعرف بالمنطقة ج، الخاضعة كلياً للإدارة العسكرية الصهيونية. ولأن الاستيطان هو جوهر العقيدة الصهيونية، فقد تضاعف عشرات المرات في ظل مفاوضات السلام، وفشلت منظمة التحرير الفلسطينية في انتزاع أي تعهد إسرائيلي بوقف الاستيطان أو تجميده. الضفة الغربية نخرتها المستوطنات كالغربال، ووصل عدد المستوطنين فيها إلى أكثر من 600 ألف مستوطن، منهم 200 ألف في القدس وحدها. ونجح الاستيطان في تقطيع أوصالها، وفي إفشال حل الدولتين مرحلة أولى، وشكّل قوة صهيونية ضاغطة، لمنع أي اتجاه نحو الانسحاب، ولو من جزء يسير من الأرض الفلسطينية.
ازداد نفوذ المستوطنين، وسعت مختلف الأحزاب الصهيونية إلى كسب ودهم، بل أصبحت لديهم أحزابهم الخاصة بهم، ولم يعد ممكنا تشكيل حكومة إسرائيلية بدونهم، كما نمت في صفوفهم عدة منظمات ومليشيات متطرفة، تتولى تنظيم الاعتداءات على القرى الفلسطينية، بمعدل ألف اعتداء سنوياً، وتشمل هذه الاعتداءات القتل والضرب وحرق المحاصيل والأشجار والبيوت ومنع المواطنين من الوصول إلى أراضيهم وإتلاف ممتلكاتهم. وجديدها حرق أسرة دوابشة، الحادث الذي لم يكن منفصلا عن سياقه، وإنما جاء ضمن هذه الاعتداءات الممنهجة. وغني عن القول إن كل المستوطنين مسلحون من رأسهم إلى أخمص أقدامهم، ناهيك عن الدعم والحماية المقدمة لهم من الجيش الإسرائيلي، وعن الرعاية والتشجيع من الإدارة الحكومية.
لم يعد سراً ما تتناقله الدوائر الصهيونية، وجديده ما قاله مدير الاستخبارات الصهيوني السابق، يوفال ديسكين، عن احتمال قيام دولة للمستوطنين في يهودا والسامرة، وهو احتمال طرح مرارا في السابق، تلويحاً من المستوطنين بقدرتهم على إفشال أي انسحاب، ويأتي الآن في سياق إخضاع الضفة لسيطرة المستوطنين، تحت ذريعة أن هنالك نزاعا بين السكان المقيمين في الضفة الغربية. وأن الحل في المناطق المحتلة يجب أن يراعي التنوع السكاني المفروض قهراً. حسبنا، هنا، كي ندق ناقوس الخطر، أن نعلم أن نسبة المستوطنين اليهود إلى العرب في الضفة الغربية تفوق نسبة اليهود إلى العرب في سنة 1948 عندما أعلن اليهود دولتهم. وأنهم بلغوا من القدرة والتأثير ما يمكّنهم من إعلان دولتهم الخاصة، بحيث تبدو الحكومة الإسرائيلية كأنها غير مسؤولة عما يحدث هنالك، أو أنها تقدم فقط المساعدات لأبناء جلدتها، بعد أن مهدت الطريق لجحافل المستوطنيين، للسيطرة على كل المفاصل والبنى التحتية، وشقت لهم الطرق الالتفافية، ودعمتهم بمنظومة أمنية شاملة.
يجري تهويد الضفة في كل لحظة، وكارثة كبرى توشك أن تقع، وسط غياب كامل وعجز قاتل مما تدعى السلطة الفلسطينية، وتجاهل من النظام العربي لما يجري، وصمت من المجتمع الدولي، يجعل من حكومة الاحتلال مطلقة اليدين في فعل ما تشاء، وإطلاق الفصل النهائي من إقامة دولة للمستوطنين في الضفة الغربية التي يطلقون عليها اسم يهودا والسامرة. فهل من مجيب لوقف الكارثة، قبل أن يرفع الستار عنها؟
وسوم: العدد 629