مدرسة الوسطية الإسلامية
سمعتُ الكاتب الكبير/ محمد جلال كشك- يقول: (عايشتُ الملكية والجمهورية، وصاحبتُ الأعراب والأغراب، وتجاوزتُ الستين من عمري؛ فما رأيتُ مشروعاً تقرُّ به العين سوى الجمعية الشرعية؛ لأنه خالص لوجه الله)!
وكان أستاذنا المرحوم/ أحمد بهجت –كلما مرَّ بالجمعية الشرعية بشارع الجلاء- يقول: "سيظلُّ الخير في أُمَّة مُحمَّد إلى يوم الدِّين".
أجل! فالجمعية الشرعية منارة العلم الشرعي، وحارسة لغة القرآن، وناشرة العلم والثقافة، ومصنع الدعاة، يتخرّج فيها الآلاف من العلماء والأساتذة والدعاة إلى الله. وبجوار دورها العلمي والدعوي؛ لها دور توجيهي واجتماعي لا تخطئه العين، ولا ينكره إلاَّ منافق معلوم النفاق؛ وقد كتب الأستاذ/ فهمي هويدي- في السابع من أغسطس الجاري، مقالاً بجريدة الشروق، قال فيه: الجمعية الشرعية بذلتْ جهداً رائداً فى مجال الرعاية الصحية، والخدمات الاجتماعية، ليته يصبح مثلاً تحتذيه منظمات أهلية أخرى.
من هنا؛ وقف شيوخ الأزهر الشريف بجوار الجمعية الشرعية، وكانوا أشدّ حرصاً على دورها الإجتماعي، ورسالتها الحياتية؛ فقد تباهى الشيخ/ محمود شلتوت- بمواقف الجمعية في الرد على دعاوى القومية والماركسية والإشتركية التي كان يسوّق لها –آنذاك- تجار المذاهب، وسماسرة الفكر، وأولاد الأفاعي! وكان الدكتور/ عبد الحليم محمود- يقول للشيخ/ عبد اللطيف مشتهري: "أنتم مرابطون على ثغرٍ من ثغور الإسلام". كما أشاد الشيخ/ جاد الحق -في التسعينيات- بدور الجمعية أثناء مأساة البوسنة والهرسك، ومحنة الصومال. وكان الدكتور/ محمد سيد طنطاوي- أكثرهم دعماً للجمعية الشرعية وعلمائها ومشاريعها، وكان دائم التشاور والتنسيق الدعوي مع الدكتور/ فؤاد مخيمر، حتى إنه كان معه بالمستشفى في مرضه الأخير.
* * *
في ظل المد الشيوعي، والزحف العلماني؛ لمْ يألوا علماء الجمعية الشرعية جهداً في التصدِّي لذاك الزحف المدنس، بلْ ظلوا يخطبون ويُدرِّسون، ويُعلّمون الناس في القرى والمدن: أصول العقائد، وأحكام العبادات، وآداب المعاملات، ومكارم الأخلاق!
ولِمَ لا؟ فهم ورثة النبوة، وحملة الرسالة؛ هم هداة الخلق، ودعاة الحق، ورسل الخير، ومفاتيح الهدى، ومصابيح الدجى. وإنَّ وظيفتهم أشرف وظيفة في الوجود؛ لأنها وظيفة النبيين والمرسلين؛ هي الدعوة إلى الله على بصيرة، وقيادة الناس إلى جنات النعيم!
فلا يعرفون الحزبية، ولا المذهبية، ولا السلبية، ولا الأنانية، ولا التشدد، ولا التنطع.
فقد حاربوا الزندقة والإلحاد، وتصدوا لأمواج التغريب والعلمنة، وسائر الفلسفات والمذاهب التخريبية التي قذفتْ بها مراحيض الغرب!
كما طاردوا الخراف الشاردة؛ التي تدعو إلى الشكلية في العبادة، والسلبية في السلوك، والسطحية في التفكير، والحرفية في التفسير، والمظهرية في الحياة!
وانتقدوا الفِرق الضالة التي قدَّمتْ الإسلام في صورة تقشعر من هولها الجلود، وترتعد منها الفرائص، وتشيب لها الولدان!
إنها (الجمعية الشرعية) التي هزَّ منابرها: الباقوري، والغزالي، وأحمد الشرباصي. وحاضر في مساجدها: زغلول النجار، وعبد الحليم عويس، ومحمد عمارة، ومحمد داود، وغيرهم.
إنها مدرسة "الوسطية الإسلامية" التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوازن بين الثوابت والمتغيرات، ولا تنسى الماضي ولا تنعزل عن الحاضر ولا تغفل المستقبل!
وهبني قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ أيعمى العالمون عن الضياء؟!
* * *
في عام 1430 ه/ ـ2009م حازت الجمعية الشرعية على (جائزة الملك فيصل العالمية) لخدمة الإسلام، تقديراً لِما قدمته من خدمات جليلة -منذ إنشائها قبل مائة عام- ونشرها الوعى الإسلامى الصحيح، وترسيخ مفهوم الدعوة الإسلامية، بعيدة عن المطامع السياسية، واعتمادها فى دعوتها على الكتاب والسنَّة، وتصديها فكرياً وميدانياً للحملات المغرضة ضد الإسلام والمسلمين، وقيامها بمشروعات اجتماعية وإنسانية كبرى لمساعدة المحتاجين داخل مصر وخارجها، وبخاصة فى الدول العربية والإسلامية الفقيرة فى إفريقيا وآسيا. وقد تنازلت الجمعية بقيمة الجائزة المادية لشعب فلسطين!
نعم! فالجمعية الشرعية بمشاريعها الإنسانية؛ عنوان الوسطية، ورمز التسامح، ورسالة المحبة، وبسمة الأمل، ومصباح الهداية، وطريق الخير والفلاح ... الذي عالج، وآوى، وأنقذ حياة المئات من القلق إلى السكينة، ومن الضياع إلى النجاة. كما أخرج الآلاف من العمى إلى الهداية، ومن الظلمات إلى النور ... وإنَّ بيت القصيد هنا أعظم من القصيد كله؛ لأنَّ هذا النور يسري بخطى إيمانية لا تشوبها شائبة، فلا مظنة سمعة، ولا شبهة رياء!
* * *
لقد بذلت (الجمعية الشرعية) جهوداً جبارة في العمل التطوعي: في محو الأمية وتعليم الكبار، وتحفيظ القرآن الكريم، وإنشاء المدارس، ورعاية طلاَّب العلم الفقراء، وإنشاء المقابر الشرعية، وكفالة الأطفل اليتامى، وتيسير زواج اليتيمات، وتشغيل أمهات الأيتام، ورعاية المعاقين، وإيواء المغتربات واليتيمات، إلى غير ذلك من الأعمال الخيرية.
وها هي "الجمعية الشرعية" تنتقل من طورٍ إلى طور، ومن نجاح إلى آخر، حتى أصبح لها أكثر من ٥٠٠٠ فرعاً بمصر، وأكثر من ٥٠ معهداً لإعداد الدعاة والقرَّاء، يدرس فيها حوالي ٢٠ ألف طالب وطالبة. كما أنشأت أكثر من ستة آلاف مسجد، وأكثر من ١١٥٠ مكتباً لتحفيظ القرآن الكريم، ينخرط فيها حوالي ٧٠ ألف فتى وفتاة، وهناك إدارة خاصة لرعاية للوافدين من الدول الإسلامية للدراسة في الأزهر (وعددهم ٧٠٠٠ طالب من ٦٨ دولة). وتضم الجمعية الشرعية في عضويتها حالياً نحو ٤٠٠ أستاذ بجامعة الأزهر، وحوالي ٢٠٠٠ واعظ و٢٠٠ واعظة، يتولَّون العمل الدعوي ونشر الوعي الإسلامي، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، ومحاربة البدع والخرافات ... كل هذا وغيره يتم دونما صخبٍ ولا ضجيج .. دون أن يصطحبوا معهم رجال الأحزاب، ولا رؤساء النقابات، ولا أبواق الإعلام، ولا بائعات الهوى وكاشفات البطون!
لكن؛ على الرغم من كل هذه النجاحات المتواصلة التي حققتها الجمعية؛ إلاَّ أنها لم تسلم من ألسنة الحاقدين، ولا أقلام المرجفين-ففي الحقبة الأخيرة، وفي ظل أجواء بعينها، ومن خلال صحف بعينها، مملوكة لشخصيات بعينها- علا ضجيج السفهاء من الناس؛ الذين أصيبوا بمرض إشاعة أجواء الإرهاب الفكري، وإخوانهم الذين لم يستطيعوا الخروج من التابوهات التي صنعوها بأيديهم، وشنقوا أنفسهم بها- لكنَّ الله خيَّب مسعاهم، وأضلَّ أعمالهم، وجعل كيدهم في تضليل!
كناطحِ صخرٍ ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل!
من أسف؛ ينسى هؤلاء المفترون، والجاحدون؛ الخدمات الصحية، والمستشفيات المتطورة لعلاج الأورام والحروق، ومراكز الأشعة التشخيصية، ووحدات العناية المركزة، والغسيل الكلوي، ومناظير الجهاز الهضمي، وحقن دوالي المريء، وعلاج العيون بالليزر، ورعاية الأطفال المبتسرين، فضلاً عن القوافل الطبية التي تجوب المدن والبوادي!
وينسون المدارس -التي أنشأتها الجمعية الشرعية- والملاجئ، ودور الأيتام، ومشاريع تنقية مياه الشرب، وغير ذلك من المشاريع الممتدة من الدلتا إلى الشلاَّل!
نسوا كل هذا، وهو ماثلٌ أمامهم، وشاهد على خيانة أعينهم، وما تخفي الصدور!
نسوا كل هذا، وهو قائم واضحٌ -في مدنهم، وقراهم، وحواريهم، وأمام منازلهم- وضوح الشمس في ضحاها، والقمر إذا تلاها ... فلماذا نسوه؟!
نسوه؛ لأنهم أرادوا أن يعيبوا، وأن يتقولوا، وأن يكتموا الشهادة، وأن يغمطوا الحق، وينحرفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الإغضاء عنها، لوْ أنهم أرادوها وتعمدوا ذِكرها ولمْ يتعمدوا نسيانها ... جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلوا.
* * *
(حكايـــــة) في منتصف الثمانينيات؛ استمعنا درساً عن "فلسفة الصيام في الاسلام"، وذلك في مسجد "الجمعية الشرعية" بشارع الجلاء بالقاهرة- فلم يتمالك الحاضرون أنفسهم من عظمة التشريع الإسلامي، وقيمه العليا ... وقبل أن يختم الشيخ درسه؛ تسابق الناس يسألون مَن يكون هذا العالِم الرباني؟ فقيل: إنه الإمام/ محمود عبد الوهاب فايد (الرئيس الجمعية الشرعية)!
فطفقتُ أُردِّد: الحمد لله؛ لا تزال الأمة بخير مادام فيها مثل هذا العالِم الجليل ... ... ومنذ ذلك الحين؛ حافظتُ على دروس (الإمام) إلى آخر يومٍ في حياته!
وفي أواخر التسعينيات؛ صلَّيتُ الجمعة بـــ"مسجد الجمعية الشرعية ذاته؛ وقد تعرض "الخطيب" لقضية شائكة كانت مثارة آنذاك! وظلَّ الحاضرون يعجبون، ويتعجبون من جمال العرض، وفصاحة اللسان، وعبقرية الأداء، وفن المعالجة ... وبمجرد أن فرغنا من الصلاة؛ تساءل الحاضرون: مَنْ هذا الخطيب البليغ؟ فأخبرونا بأنه الإمام الدكتور/ فؤاد مخيمر (الرئيس العام للجمعية)!
فرحتُ أُردِّد: الحمد لله، الحمد لله؛ لا تزال الأمةُ بخير مادام فيها أمثال هذا العالِم النحرير ... ومنذ تلك الحادثة؛ صرتُ أحد مريدي الإمام –طيَّب الله ثراه!
ومنذ بضع سنوات؛ حضرتُ ندوة فكرية بالمسجد ذاته- وقد أبدع "المحاضر" في حديثه عن مقاصد الإسلام العليا، وجوهر الدين، وحقيقة الإيمان، وروح الشريعة. في تلك الأثناء اكتظَّ المسجد بالحشود الهادرة من كلِّ فج عميق، وامتلأتْ الطوابق كلها، وازدحم الشوارع ازدحاماً ... فسألتُ مَن بجواري: مَن هذا العبقري –لا فُضَّ فوه-؟ فنظر إليَّ متعجباً، وقال: ألاَ تعرفه؟ قلتُ: أُريدُ أنْ أعرفه –بالله عليك. فتبسَّم، وقال: إنه الإمام الدكتور/ محمد المختار المهدي (الرئيس العام للجمعية)!.
فقلتُ: زاده الله علماً إلى علمه، وأدباً إلى أدبه، وتواضعاً إلى تواضعه ... ومن يومئذٍ؛ أصبحتُ صديقاً لهذا الإمام الجليل –متَّعه الله بالعافية في دِينه ودنياه!
* * *
الحق أقـــول: ليس هؤلاء العلماء بِدعاً عن بقية دعاة الجمعية الشرعية وعلمائها -الذين يتجاوز عددهم الآلاف؛ الذين يرشدون الناس ويعلِّمونهم شرائع الإسلام وأنوار هداياته ... لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله ...!
وسوم: العدد 629