فلسطين ، طريق الآلام
(1)
قبل أن نتحدث عن جريمة اقتحام الحرم القدسي والمسجد الاقصى ، يتعين علينا أن نستعيد قراءة العقل الصهيوني في بنيته وحركته ، لنعرف وندرك إلى أين ولأي إتجاه نحن ذاهبونّ!!
يعتمد العقل الصهيوني منهجا صارما في التعامل مع الواقع الموضوعي وفي معالجة الحقائق الميدانية ، فلا يقيم وزنا للقدرية المتعالية، ولا يثق بالرؤى الغيبية، ولاشأن للقيم الاخلاقية في منهجه العملي، بل يحرص دائما على تجهيز نفسه بكل أدوات المعرفة قبل أن يتخذ الخطوة الثانية ، فلابد أن تكون لكل قضية غاية واضحة وهدف محدد، معززا حركته منذ البدء بلوحة معلوماتية متكاملة ،
مع كل هذه الصلابة العقلانية، فإن العقل الصهيوني، العلماني كما اللاهوتي لايفارق نصوص العقيدة «الثيوسياسية»؛ فالأساطير التلمودية، المصممة بالاصل على تغييب وإنكار الوجود الفلسطيني ، وعلى خرافة أرض الميعاد، و إقامة (إسرائيل الكبرى) سلسلة واحدة ينتظم فيها العلماني والديني ، كلاهما يلجأ إلى ذات الجدليات الزائفة ، ويعملان معا على قلب حقائق التاريخ وتزييف الديمغرافيا الفلسطينية ، بمقولة (أرض بلا شعب ، وشعب بلا أرض)، وعلى هذا النحو الغيبي المفتعل، تنبث على سطح المنطق العلماني الاضداد المتنافرة، دون مغالبة أو صراع، في وحدة «الحاخام» و«الهرطيق»، كلاهما يؤمن بـ«أبدية إسرائيل»، وبإنكار الوجود الفلسطيني، والطرفان يعتمدان منهجا إرهابيا مشتركا؛ يحض على حرب الإبادة والتطهير العرقي؛ (ملعون من يمنع سيفه عن الدم) أو على طريقة مُنَظِّر الإرهاب الصهيوني؛ مناحيم بيجين القائل ؛ «أنا أقتل إذن أنا موجود»! منتزعا بذلك حجة ديكارت المعرفية من سياقها الفلسفي ، ليجعل منها أداة ذرائعية للقتل ودعوة إلى تصفية الوجود العربي في فلسطين ؛
بهذا المنطق الارهابي الصارم، وبهذه المنهجية التدميرية ، طَبَّقَ العقل الصهيوني مشروع «الأيديولوجيا والأساطير»: مشروعَ التكامل بين الاضداد:
الحُلُم- اليقظة
الهرطقة – التوراة
المنطق- العاطفة
الحبر- الملحد
الأمن- الإرهاب
الرصاصة- الضراعة
والتكاملية تتبدى في عملية الجمع الميكانيكي بين النقائض؛ الجميع على خط العمل كلٌّ حسب دوره وطاقته.
(2)
الهدف القومي الاعلى ؛ إقامة إسرائيل الكبري ذات الهوية اليهودية النقية، كقوة إقليمية عظمى مهيمنة في منطقة الشرق الأوسط، ولتحقيق ذلك في المرحلة القادمة –وفي ضوء ما يسمي بعملية السلام التي قبلها العرب- فإن على إسرائيل أن تسعى من خلال معاهدات السلام وترسيم الحدود إلى ضم ما تستطيعه من المناطق التي احتلتها في عام 1967، والتي تحقق متطلبات أمنها من وجهة النظر الجيواستراتيجية، ويكفل لها الحصول على مصادر مياه إضافية، وفرض شرعيتها على تلك الأراضي، مع إخلائها من السكان العرب حفاظاً على الهوية اليهودية، على أن تعمل الإستراتيجية العسكرية على تحقيق ذلك من خلال الردع الوقائي والانتقامي الجسيم، وتأمين عمليات الضم والاستيطان وتهويد الأراضي، والتحكم في المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً مع الاعتماد على الذات عسكرياً واقتصادياً.
(3)
تعالج إسرائيل مشكلات أمنها الجاري من خلال إستراتيجية تطلق عليها (اللاءات العشر) تتقيد بتنفيذها كل من السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية للدولة, وتعكس الثوابت الأمنية لإسرائيل وتتمثل في الآتي:
لا للانسحاب الكامل إلى حدود 1967. لا لتقسيم القدس. لا لسيادة عربية كاملة على جبل الهيكل (المسجد الأقصى). لا لدولة فلسطينية ذات استقلال كامل. لا لإيقاف علميات الاستيطان أو تفكيك المستوطنات. لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين. لا لتحالف إستراتيجي عربي يضم بعض أو كل دول المواجهة والعمق العربي. لا لامتلاك أي دولة عربية برنامج نووي. لا لأي خلل في الميزان العسكري القائم حالياً بين العرب وإسرائيل. لا لحرمان إسرائيل من مطالبها المائية في الأنهار العربية.
(4)
تتوالى برقيات التنديد ووصايا الصبر الجميل لليوم الثالث هو كل ماتدخره مؤسسة الجامعة العربية في جعبتها أمام السلوك قوات العدو الصهوني، والعالم يرى ويسمع بالصورة والصوت ، كيف طوقت بنادق تل أبيب منبر صلاح الدين ، بعد عملية إقتحام باحات الحرم القدسي والمسجد الأقصى لليوم الثالث على التوالي، وكل مابحوزتنا نحن العرب ، قنابل الكلام الفراغية ، والإستنكارات التي باتت أشد وطأة على فلسطين وشعبها المناضل ، وهو يحاول بكل بسالة الدفاع عن هويته وتاريخه ، أمام الرصاص وقنابل الغاز، بعد أن طوق قوات العدو مداخل الحرم القدسي وفرضت قيودا أمنية صارمة، واعتلت القوات الخاصة أسطح المسجد الأقصى ، ووجه قناصتها اسلحتهم إلى صدور مناضلي فلسطين المرابطين ، ومن داخل المسجد ومن نوافذه شرعت بنادق الاحتلال تطلق نيرانهاـ
للاسف لازلنا نحن العرب ندور حول أنفسنا ، لم نتعرف بعد على البناء النفسي للعدو ، فتحن نقرأ الاحداث بعين عام 1948 ، و1967 (مكانك سر) الذي أفضى إلى النكبة المركبة ، جراء هزيمة العقل العربي، لاننا مازلنا ننظر إلى فلسطين من الخارج وكأنها خارطة سياحية ، لقد غادرنا الواقع لاننا غير قادرين على بناء علم معرفة الذات والآخر ، فالخطط التي نضعها عجولة وفي الغالب ردود افعال مؤقتة ، لاصلة لها بالواقع ولا علاقة لها بالمستقبل ، لم نسمع طوال الـ الستين سنة من عمر الجامعة العربية ولو لمرة واحدة، أن هذه المؤسسة واجهت نفسها أو أجرت نقدا ذاتيا لقصورها تجاه العديد من قضايانا المصيرية ، من بينها على سبيل المثال لا الحصر (مأساة الهجرة) الاخيرة لشعبي العراق وسوريا ، لذلك فإن من اللياقة الدبلوماسية في الاقل تقضب إما أن تكف الجامعة عن تصريحاتها، وان تتوقف عن بياناتها السياحيةـ أو تتخذ موقفا استراتيجيا عمليا ليس دفاعا عن فلسطين فقط ، بل دفاعا عن الامن العربي كله ، أعتقد أن شعب فلسطين يدرك بالتمام أن في معركة الحرية ، لن يتم إنجازها عن طريق مذكرات التنديد ، لانها لن تجد في عالم الوحش الامريكي من يتصفح أو يقرأ كلمة واحدة ، لكنه بالقطع سيصغي إلى منطق المقاومة ، والى العقل الارادي الفلسطيني الحر، صاحب الكلمة الاولى لتصعيد مديات الفعل المقاوم.
د.عبد الستار الراوي
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
وسوم: 634