العقل السياسي الايراني المعاصر (13)

د. عبد الستار الراوي

من إسقاط الدول إلى التطهير الداخلي 

(1)

إن الرفض المطلق لكل ماهو غربي ، والرؤية الوثوقية للــ( أنا) على هذا النحو يزيد النزعة اللاهوتية تطرفا ، ويعبر عن تخضم سلبي في (الهوية)  ، فالسيد الخميني ، الذي درس الفلسفة لسنوات طويلة، يدرك قبل غيره بأن مفارقة الفكر للواقع ، يوقعه في فخ الترجسية التراثية المغلقة،  والعقل الكلي وفي تناقض يصعب الافلات من قبضته ، فالاولى  دراسة و نقد التراث و نقله إلى حاضر الأمة وإلى عصرها ليصبح عنصر قوة وعامل تجديد وبناء وازدهار في جميع المستويات الحياتية لأنه لازال وبقوة مخزونا في نفوس أبناء الأمة العربية والإسلامية وتحويله إلى طاقات وشحنات البناء الحضاري.  بدلا من ضم التراث والانكفاء على الذات ورفض الغرب  من الألف إلى الياء، بل يتعين علينا نقده من داخله ، فإن لم تستجب الاصالة وتعبر عن الواقع ، فإنها ستصبح عبئا علينا ، ولذل رفض المعاصرة باسم الدين او تحت عنوان الهوية ، يشير إلى تجاهل أو عدم إهتمام بحركة الحياة من حولنا ، او العجز قي إدراك العلاقة التبادلية  بين النص والواقع ومثل هذا النمط من الفكر يغلب عليه الطابع الدوجماطيقي الصارم، الذي لايقبل النقد ، ويرفض التحليل  ويكتفي  بقسمة الأمور بين الحق والباطل،

 ولذلك نرى أن كل مايمكن أن يقدم عليه أو يفعله  السيد الخميني هو تجاهل  منطق التعليل النقدي ، والثبات على  عقيدة  التبرير السياسي ، فصب ثورته في قوالب من الشعارات السياسية وأفرغ مضامينها في النداءات التحريضية  وفي الدعائية الموجهة للشعوب الاسلامية باسم الثورة  وتطبيقا لهذه الشعرات وجه الفقيه  مسؤولي الجهاز الإعلامي  تولي  عملية  اخراج  وتنفيذ  النداءات التالية [1]  

ـــ اخرجوا من عزلتكم”.

ــ خططوا للحكومة الإسلامية”.

ــ “تقدموا في خططكم”.

وإذا كنا نؤمن بإمكانية  الوصول إلى صياغة نموذج عقلاني إسلامي  ديمقراطي ، فإن مثل هذا النموذج لا يمكن أن يخرج إلى فضاء الحرية ، وهو مقيد بصلاحيات القائد الاوحد المطلقة  ، المفوض الهيا ، والنائب عن (المعصوم)  وفي ظل  نظام  كهذا ، فإن تجربة الثورة  الايرانية ستبقى تجربة ذاتية و حالة  متعالية على الواقع  ، لكنها بالقطع  حققت فوزا كبيرا  في  تشكيل     وتنمية طبقة عليا من رجال اللاهوت في المجتمع ، أصبحت هي البديل عن كل  جماهير الشعب وطبقاته الاخرى ـ

(2)

ومع تأكيد الإقرار بعدم جدوى (التغريب) العبثي أو العشوائي  في المجتمعات العربية الإسلامية، وإيماننا بضرورة أن ترجع الشعوب الإسلامية إلى ثقافتها الوطنية ، فإننا نؤمن أيضا بأن إقصاء التراث الإنساني وإلغاء منجزاته الفكرية، إنما يعد تجاهلا للواقع، وعودة إلى الوراء، في حين يحاول السيد الخميني في بعض أجزاء نظريته أن يظهر قدرًا من الحداثة، لكنها حداثة أسيرة تدور حول  اللا معنى ، مما يجعلها في حالة قطيعة مع الواقع الإنساني، فلا تجد الحاكمية الدينية في تجارب الشعوب وحضارة الأمم، ــــــ رغم كل ثرائها وخبراتها ــــــ  لا تجد فيها إلا عدوًّا يتربص بها ، مما يتعين التصدي له ومحاربته، ووأد “أفكاره بغض النظر عن هويته الأيديولوجية. والبديل الأوحد الذي يقدمه الخميني يكمن في ولايته المثالية ،  التي تبدو وكأنها طرازا من الــــ (يوتوبيا)  فالحاضرة التي ينشدها ويتطلع إليها ؛ لاتعدو أن تكون مدينة لا مكانية، غائبة وراء الزمان، لا صلة لها بالواقع الاسلامي أو الايراني ، ولاعلاقة تربطها بقانون تطور الفكر الإنساني، وهو موقف لا تاريخي تبناه الخميني، وتشبث به حتى النهاية، بعد أن ضغط الإسلام ضغطًا لاهوتيًّا جعله يعتبر الإيمان بولاية الفقيه على النحو الذي يقدمه، هو الخط الفاصل بينه وبين الآخرين، واسقط على الولاية قداسة  تلغي ماعداها، من النظم والفلسفات ،  فإتباع الولاية  عنده يعد مقياسا لصحة إيمان المسلم ،ومن يتخلى عنه ، أو يتبنى عقيدة مغايرة  يعد كافرا ، وخارجا على الملة يتعين اقامة الحد عليه ـ فإما الولاء أو العداء  ـ

وقد طبق المقياس الولائي على الداخل الخاص والخارج العام ، فالحكومات القائمة في المنطقة وفي جهات العالم حسب  موديل الولاية  ليست  عادلة ،  بل على القوة والحراب، ولا بد من أن ينظر بأمرها ويتم الإعلان عن الحكومة الإسلامية العالمية.[2]

ويقول  السيد الخميني أيضا “ونحن لا ننافسه على الكراسي” [3] يقصد السلطة، ولكنه يواصل كلامه في النص ذاته بقوله “.. بل نترك من كان منهم تابعًا (لولاية الفقيه) وأمينا على التنفيذ في مكانه”.!! [4]

هنا ؛ تبدو الإشارة واضحة إلى أن مقياس أهلية السلطة أي سلطة، إنما يعتمد على مدى  تبنيها لأفكار الفقيه ومقدار تنفيذها لأيديولوجيته، وبغير ذلك فإنها تتحول إلى هدف معادٍ ينبغي التصدي له وإزالته.

ومن الواضح المبين أيضا أن الفقيه الذي يبدأ مقدماته بالحديث عن الثقافة الإسلامية وعن ضرورة إحيائها والتمسك بها، يتحدث في الوقت نفسه عن تصميمه على  مصادرة الرأي الآخر، وعن إستعداده شن الحروب على النظريات والأيديولوجيات غير (الولائية)، كل هذه الثنائيات المتصادمة تجعل الحاكمية الدينية التي يتمسك بها المرشد الاعلى  تثب فجأة إلى نتيجة قائمة بذاتها لا صلة لها بالمقدمات النظرية التي وضعها في بداية البحث.

 الفكرة الرأسية التي تحتل وجدان الرجل هي فكرة “الدولة” أو (حكومة القانون الإلهي)، وإصراره على الغلو في التأويل الذاتي  للوقائع التاريخية دون سند أو برهان مما يخرج النصوص عن أسبابها وعن سياقها الموضوعي  ، وهو منهج عبرت عنه ثقافة البعد الواحد ، وهو ماتفصح  ولاية الفقيه عن تبني  ثقافة أحادية ، يعل منها مرآة عاكسة لماهية التجربة الإيرانية، حيث تحول البحث عن التراث الإسلامي الأصيل ومحاربة الاغتراب، إلى إجراء المقارنة بين نوع العمامة وعدد طياتها.

فالإسلام الذي تقدمه الولاية للعالم طبقا لتفسيرها اللاهوتي ، يحتل فيه (الشادور)  مكان الفضيلة، وطول (اللحية) يعد معيارا لقياس التقوى، والقبعة وربطة العنق من مخلفات الأجنبي. ويبدو أن أنصار الدولة الدينية نسوا أن جميع وسائل التقدم الصناعي والتقنيات الهائلة في عالم اليوم بما فيها الحاسبات الشخصية والهواتف النقالة والسيارات التي يستقلونها كلها طاغوتية من مبتكرات هذا العالم الأجنبي وجميعها من مستلزمات الحياة اليومية التي تحملها سفن الكفر للموانئ الإيرانية! [5]

(3)

أما الذين اختلفوا مع الفقيه ، وابدوا وجهة نظر معارضة تجاه مطلقات الولاية ، فقد افتيدوا  إما إلى الموت الرحيم أو إلى السجن الرجيم  ، ومن هنا بدأ السيد الخميني تحت شعار (إصلاح المتقدسين) حملة تطهير واسعة للمخالفين ، وبسلاح  الارهاب الفكري الذي هدد به نظم الحكومات الإسلامية وأيديولوجيات شعوبها وقواها السياسية فإنه باشر هجومه على أولئك الذي وصفهم بأنهم “نصبوا أنفسهم للقضاء والفتوى” [6] لمجرد إيمانهم بأن واجباتهم الدينية تقضي بذلك دونما شيء آخر.

لكنهم في رأي قائد الولاية “يشكلون أكبر خطر على الإسلام ويبرزونه بصورة مشوهة“[7]. لذلك يقول مهددا ؛ “علينا أولا أن ننصح هؤلاء أن يرجعوا عن غيهم.. فإن نفعت الذكرى فذاك ما نريد وإلا كان لنا معهم حساب آخر وموقف آخر”.!! [8] “ويوجد من هؤلاء كثير في النجف وقم وخراسان يدعون الناس إلى الكسل والتخاذل” [9] وهذا تأكيد آخر على أن عموم الفقهاء سواء كانوا في إيران أو في العراق وفي غيرها من الأقطار الإسلامية هم تحت الوصاية المطلقة للفقيه، وليس هذا فقط، بل يتوجب على رجال الدين أن يتخلوا عن مهامهم الروحية أو وظائفهم الشرعية لصالح  أيديولوجية الخميني وأن يعملوا في خط الفقيه السياسي والفكري ويسعون إلى تحقيق الحكومة الإسلامية.

ومن هنا يمكن القول بأن الاعتبار الأول لدى السيد الخميني، يتمثل في إخلاص رجال الدين للولاية وطاعة قائدها ، والعمل على بسط نفوذها في العالم ، فإن  تهاونوا في ذلك أو ترددوا في التأييد والإقرار، فإنهم في رأي الفقيه “أعداء الإسلام، يجب على شبابنا وأبنائنا انتزاع عمائم هؤلاء من فوق رؤوسهم”!!.[10].

وبهذه الاساليب الرخيصة ، تصادر ولاية الفقيه أبسط  بديهيات معرفة الإسلام ،  في السماحة، والرفق، ونفي الإكراه في الدين، أو الإجبار القسري، حيث يقف الإسلام بالضد من ذلك تمامًا فيحض على الحسنى، والحوار الهادئ، الذي يوطد مبدأ إنسانية الإسلام وتفتحه على الآخرين وقبوله للرأي الآخر مهما كان مصدره.

(4)

يطالب الفقيه الإيراني بتحرير المراكز الدينية من ذوي الحاجات العاجلة ، الذين أغوتهم بطونهم واستهوتهم الحياة الدنيا، فعملوا في صف الخونة الحاكمين  في العهد البهلوي . [11] ورغم نقده اللاذع لهؤلاء الذين وصفهم بـ(محبي الحياة الدنيا) فإنه كعادته يكتفي بنداءاته الحركية دون أن يحدد ماهية العمل الذي ينبغي أن تضطلع به المراكز الدينية في حياة المسلمين،  لكنه شدد في المقابل  على البعد القيمي (أداء الأمانة وحفظها من قبل الفقهاء العدول). [12]، وبراديكالية متأججة العاطفة يعلن غضبته على  فقهاء السلاطين .. هؤلاء ليسوا بفقهاء.. هؤلاء يجب فضحهم). [13]

وإذا كان مصمم مشروع (حكومة الفقيه) قد أدان رجال الدين ممن أغوتهم بطونهم من الوصوليين والمتزلفين فقهاء القصور، فإنه لم يستطع التحرر من  التناقضات التي وقع فيها.

 ففي المقدمات الأولى التي شدد فيها على ضرورة تحول الفقهاء من مهامهم الوظيفية الشرعية إلى مخالطة الجماهير والنضال معها، فإنه يعود مرة أخرى ليجعل من رسالة رجل الدين في هذا العالم، رسالة زهد وانقطاع وإبعاد النفس عن التهالك على حطام الدنيا!!

ويناقض نفسه مرة ثالثة، فيتخطى موضوع الزهد وأهله..  فليس من وظيفة يقوم بها رجال الدين إلا ما يحددها لهم: “جندوا أنفسكم لإمام زمانكم حتى تستطيعوا أن تبسطوا العدل على وجه البسيطة”[14]. ويتطلب هذا الأمر الذي يدعو إليه الإمام الإيراني أن يتحول الفقهاء إلى جيش “الخلاص” الذي من شأنه أن يؤسس قواعد “العدل” ودولته في أرجاء العالم.

وهنا نلمس أيضا أنه يرفع مقام المجتهدين إلى ما يمكن أن نسميه بـ”المقدسين” فكل واحد من هؤلاء هو (مخلص) أو (منقذ) ينتظره المقهورون في الأرض، ومثل هذه الوظيفة الميتافيزيائية ، المفارقة للممكنات الواقعبة  لا يمكن أن  يقوم بها إلا البطل المؤله الخارج من بطون الاساطير ـ

المراجع

 [1] ولاية الفقيه. ص134-135.

 [2] الخميني. كشف الأسرار. مركز البحوث والمعلومات. بغداد 1983 ص221.

 [3] ولاية الفقيه. ص13.

 [4] المصدر نفسه. ص135.

 [5] إيران على مفترق طريق المصير. ص5-6.  

 [6] ولاية الفقيه. ص139.

 [7]  المصدر نفسه. ص139-140.

 [8] المصدر نفسه. ص140-141.

 [9] المصدر نفسه. ص139-140.

 [10] المصدر نفسه. ص144.

 [11] المصدر نفسه. ص143.

 [12] المصدر نفسه. ص141.

[13] المصدر نفسه. ص142.

[14] المصدر نفسه. ص144

د. عبد الستار الراوي

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: 634