أثر الحاجة فى تقدير العقوبة
إن حاجة الإنسان سواء كانت طعامًا أو شرابا أو تعليمًا أو ملبسًا أو علاجًا أو زواجًا أو غير ذلك إن لم تُلَبَ بالعدل والمعروف ستقود بعض المحتاجين حتمًا إلى الإخلال بالأمن وارتكاب الجرائم، مما ينبغى أن يكون موضع اعتبار حين تقدير العقوبة.
ومن العدل والإنصاف القول بأن جناية الفقراء والمحتاجين ليست جنايتهم وحدهم وإنما هى فى النظر العادل جناية الأمة بأسرها : جناية الحكومة على وجه خاص ، وجناية الأغنياء من وجه آخر إذا لم يقدموا يد العون لمن قصدهم وهم يقدرون .
وقد حمل الشيخ محمود شلتوت الحكومات مسئولية حوادث الفقراء والمحتاجين وجناياتهم ذلك لأن المسئولية كما تتجه إلى الأفراد المعينين تتجه أيضًا إلى الهيئة التى تمثل القوة المهيمنة على الأمة المدبرة لشأنها ، المطالبة بمصلحتها .
والحاجة على اختلاف جوانبها من أكبر أسباب ارتكاب الجرائم خاصة جرائم السرقة والدعارة ، ولذا عمل الإسلام على تحقيق الكفاية للفرد وسد حاجاته الرئيسية على الأقل، ودعا إلى التكافل مما يضيق الخناق على الجريمة ويضمن تحقيق العدالة .
وفى العصور الزاهية فى الإسلام ، كان يوجد عطاء لكل غير قادر على العمل من بيت المال ، حتى الطفل الصغير كان له نصيبه من العطاء ، فطم أم لم يفطم ، واستقر على ذلك التشريع فى عهد عمر .
ومن ثم لا يليق أن تنعزل الحاجة فى تشريعنا الجنائى عن العقوبة، ولا يصح أن نغفل عن أثرها فى تقدير العقوبة، ما دام لها هذا الدور فى وقوع الجرائم.
ومن ثم يسيئ إلى التشريع الإسلامى من يقول : تقطع يد من لا يجد قوت يومه، أو من يعتمد على صناديق القمامة والمزابل لتحصيل بقايا طعام ، يقيم بها صلبه، ويسد بها رمقه، تقطع يده إن هو سرق ، ويليق - فقها - أن نقول : نعاقبه تعزيرًا.
وهذا ما كان يفهمه ويطبقه فاروق الأمة وفقيهها عمر بن الخطاب حين أسقط الحد عن غلمان حاطب بن أبى بلتعة حين سرقوا لحاجتهم إلى الطعام ، وإن لجأ إلى عقوبة تعزيرية أخف حتى لا يسقط العقاب بالكلية فيتجرأ الناس على مواقعة الجرائم.
و هذا ما أورده الإمام ابن القيم فى إعلام الموقعين : أن غلمة لحاطب بن أبى بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر، فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم، - ثم - قال عمر: يا كثير بن الصلت، اذهب فاقطع أيديهم، فلما ولى بهم ردَّهم عمر، ثم قال: أما والله لولا أنى أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حلَّ له لقطعت أيديهم، وأيم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال: يا مزنى بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر : اذهب فأعطه ثمانمائة .
وليس من سرق لحاجة مأكل أو مشرب أو علاج ممن ينطبق عليه فى جريمته ركن الاعتداء أو القصد الجنائى ، حتى قال أستاذنا الدكتور محمد بلتاجى عميد دار العلوم – رحمه الله - : إن كان هناك اعتداء فهو ذلك الذى وقع عليه ، وليس الذى وقع منه ...ولا تقطع يد السارق فى الإسلام إلا إذا تحققت له ظروف المعيشة الشريفة التى يمكن أن يستغنى فيها عن الكسب الحرام بما قدمه له مجتمعه من العمل المناسب لمن يستطيعه أو فرض الراتب الكافى لمن لا يستطيعه .
وقد أكد البيان العالمى لحقوق الإنسان فى الإسلام (الوثيقة الثانية التى أعلنها المجلس الإسلامى الدولى للعالم والتى تضمنت حقوق الإنسان فى الإسلام) على الحاجات الإنسانية الأساسية للإنسان واعتبرها من ضروريات الحياة.
جاء فى الحق الثامن عشر وهو حق الفرد فى كفايته من مقومات الحياة:
من حق الفرد أن ينال كفايته من ضروريات الحياة من طعام، وشراب، وملبس ومسكن، ومما يلزم لصحة بدنه، من رعاية وما يلزم لصحة روحه وعقله من علم ومعرفة وثقافة فى نطاق ما تسمح به موارد الأمة، ويمتد واجب الأمة فى هذا ليشمل ما لا يستطيع الفرد أن يستقل بتوفيره لنفسه.
هذه الحاجات التى قد يراها البعض ترفيهًا اعتبرها فقهاء المسلمين المعاصرين حقوقا أساسية للفرد فى ظل الدولة المسلمة .
وسوم: 635