الفارس الذي أنقذ كاريوكا !

التقيت بالمصادفة وبغيرالمصادفة بعدد من الأدباء والنجوم منهم تحية كاريوكا التى حلت ذكرى وفاتها السادسة عشرة في 19 سبتمبر الحالي. كان ذلك عام 1961، ولم يكن التلفزيون قد بدأ إرساله وكانت الإذاعة هي الكل في الكل. ومازلت أذكر جلوسي ملهوفا إلي الراديو لأتابع حلقات" سمارة" وتحية كاريوكا بنت البلد. كنت في الثالثة عشرة ولفت نظري إليها اسمها الغريب وعلمت فيما بعد أنه اسم الرقصة التي عرضت عام 1940 في الفيلم الأمريكي"الطريق إلي ريو"ورأتها كاريوكا فطلبت من "إزاك ديكسون" أن يصمم لها رقصة كهذه وقدمتها بنجاح فالتصق بها اسم" كاريوكا". وكنت قد شاهدت أفلامها"لعبة الست" مع الريحاني"و" شباب امرأة"،واستوقفتني عيناها الواسعتان اللتان تصبان نظرة متماسكة مسلحة بالصراحة والمواجهة ولا تتمسح بالأنوثة كما كان ومازال شائعا لدي الممثلات. أحببت كاريوكا، وكانت بالنسبة لي نموذجا نادرا لامرأة تثق أنها كائن إنساني في المقام الأول، شجاعة عالية الصوت. وخلافا لشادية التي كنت أحبها كانت كاريوكا تبدو أقرب إلي حياتنا الواقعية تتماس مع عالمنا الأرضي كأنما يمكن التفاهم معها. وذات ليلة عام 1961، في نحو الواحدة ليلا، كنت أسير في شارع عبد الخالق ثروت متجها إلي الشقة في شارع عدلي حين فوجئت بتحية كاريوكا بقامتها الطويلة الفارهة تقف في منتصف الشارع أمام باب فندق، وبدنها يرتج مثل شجرة جميلة وهي تصيح منذرة محذرة وقبضتها تتأرجح عاليا. أهي كاريوكا؟! بلى هي! أي خطر يهددها فيجعلها تصيح هكذا وحدها في الليل؟ أقول كنت نحيفا مثل خط مرسوم على ورقة، هزيلا، ليس في جيبي سوى عشرة قروش، لكني قررت من دون تفكير:" لايمكن أن أترك كاريوكا وحدها في خطر"! مددت خطاي إليها وشاهدت ثلاثة رجال عمالقة يخرجون من باب الفندق ويمضون بخطوات بطيئة إلي كاريوكا. صحت بيني وبين نفسي:" لا تخافي يامدام كاريوكا. تمهلي. إني قادم"! أسرعت إليها. دنوت منها وهمست :" يامدام تحية ما تخافيش.. أنا معك لن أتركك". شاهدني الرجال الثلاثة، فتأملوني بدهشة فيل ضخم حين يرى فأرا ضئيلا يستعظم حجمه ودوره! كان أحدهم زوجها فايز حلاوة. ركز الثلاثة أبصارهم على وراحوا يقتربون مني، كما يقترب الطبيب من فراشة يفحصها. كنت أقف بجوار كاريوكا مبهوتا، فطوتني بذراعها وأخفتني مثل لقمة صغيرة وراء ظهرها وصاحت بصوت كالرعد: " اللي ح يقرب منه ح أقطعه حتت"! وتوقف العمالقة الثلاثة في أماكنهم على الفور. استدارت إلي وربتت علي كتفي بحنان:" خلاص ياحبيبي روح أنت لأهلك" . لكن الفارس يبقى فارسا فرفعت رأسي متشامخا :" عموما لو حصل حاجة أنا تحت أمرك". قالت بلطف:" كثر خيرك. روح بقى ". ومن دون تردد أطلقت ساقيي للريح ولم أتقف إلا عند باب عمارتنا! فتحت لي أمي :"مالك ياإبني؟!". قلت من خلال أنفاسي المتقطعة:" كنت.. بأنقذ.. بأنقذ.. تحية كاريوكا"!  لطمت أمي على خديها هاتفة:" هي كاريوكا عاوزه حد ينقذها؟ ياأولاد الحقوا أخوكم بشوية ميه"! فنانة عظيمة رفعت قدمها عن الأرض في 19 سبتمبر 1999 وغرستها إلي الأبد في قلوب عشاقها: رقصة هادرة وزهرة ملونة ونغمة مفرحة.  

وسوم: 635