في رَكبِ الآيِبينَ
سعادة الأستاذ الدكتور سليمان الرحيلي، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية،
سعادة الدكتور إبراهيم بن حمزة الصُّبيحي، رئيس قسم اللغة العربية،
سعادة إخواني الأفضلين، أساتذة القسم،
"سلامٌ عليكم، طِبتم" مساءً، وطاب مسعاكم إلينا!
بسم الله – سبحانه، وتعالى! – وبحمده، وصلاةً على رسوله، وسلاماً، ورضواناً على صحابته وتابعيهم، حتى نلقاهم! وكُلُّ مسافرٍ سيؤوبُ يوماً إذا دَنَتِ الديارُ من الدِّيار
إسحاق الموصلي
ما أغمض قول الشيخ التونسي الذي أُصلي معه دائماً:
- لن تكون بعد أن تؤوب من المدينة، مثلما كنت قبل أن تأتيها!
تُرى كيف كنتُ، أم كيف أكونُ، أم كيف أؤوبُ!
أيُّ شيخٍ هذا!
لا أحسبه رآني من قبل، ولا أحسبه يراني من بعد، ولا أحسبني جهلتُ بين يديه مكانة المدينة المنورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم -! ولا مكانته منها، ولا ترغيبه فيها، ولا ترهيبه عنها!
أهُوَ حدسُ العالم، أم خيالُ الفنان، أم كشفُ الصوفي! أتراه انتبه إليَّ أولَ مجيئي، فأنكر ملامحي المعقودة، ثم انتبه إليَّ بعد حين؛ فعرف ملامحي المبسوطة، وأيقن من أثر الجوار الشريف، ثم رآني مسؤولاً عن من قِبَلي، أن أؤوب إليهم بمعجزة بَسْطِ الملامح المعقودة، فأيقن من وشك إيابي!
ألا إن جوار رسول الله – صلى الله عليه وسلم!- لكفيل إذا أُخذِ بحقه، أن يُطَهِّرَ به الحقُّ – سبحانه، وتعالى!- القلوب والعقول؛ كيف لا ونحن نعرض عليه أنفسنا كلما مررنا من أمامه مُسَلِّمين، موقنين من أنه يعرفنا ويرد سلامنا!
وما حقُّ هذا الجوار الشريف، إلا الصبرُ على الاقتداء.
ثم ألا إن المُقام في حرم المدينة المنورة، لكفيل إذا أُخِذَ بحقه، أن يبارك به الحق – سبحانه، وتعالى!- في الأرواح والأشباح؛ كيف لا وقد أورَثها دعاءُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم! – بركةً مُضاعفةً، وسلامةً مُستمرةً!
وما حقُّ هذا المُقامِ الشَّريفِ، إلا الصبرُ على اللأواءِ.
وعلى رغم شهرة أن الأخلاق – ومنها الصبر – طبائعُ ثابتة غيرُ مُنتَقلة، كما في قول أبي الطيب الذي صار مثلاً:
وتَأبَى الطِّباعُ على النَاقِل
بَشرنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم!- بالقدرة على تغييرها، في قوله: "إنما العلمُ بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلُّم"؛ فالحلمُ الذي هو خُلُقٌ في طبيعة الحليم، يستطيع الجهول أن يكتسبه كما يكتسب العلم، فينبغي إذن أن يستطيع الجزوعُ أن يكتسب الصبر إذا تصبر، كما قال بشار:
إذا شِئتُ تصبرتُ ولا أصبرُ إن شِيتُ
ألا إن الصبر على الاقتداء النبوي والصبر على اللأواء المدنية، لشطران تلتئم بهما رحمُ أهل المدينة – جعلنا الله جميعاً منهم!- التي يصلُ الحقُّ – سبحانه، وتعالى! – من وصلها، ويقطعُ من قطعها. وليس الواصل بالمكافئ، بل الذي إذا قُطعت رحمهُ وصلها؛ فمن ثم ينبغي لكل مسلم من أهل المدينة، أن يُسابق أخاه إلى ذين الصَّبرين. ولكن الله "لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم" ولم يكن أهلُ المدينة خيرَ الأهلين، إلا بوقارِ الإيمان في قلوبهم وتصديق الأمر والنهي في أعمالهم، فمن ثم ينبغي لكل مسلم من أهل المدينة أن يُصَبِّرَ أخاه، وألا يقبل منه أن يكون شَرَّ الأخوين، بل يحب له ما يحب لنفسه.
"لقد تشرفتُ هذه المدةَ الفاخرة على سائر الظروف الزمانية، بالعمل في المدينة المنورة، مُتقرباً إلى جارنا فيها، صلى الله عليه، وسلم! ولولا رعايةُ أسرتي المنقطعةِ بالقاهرة، واستحالةُ إقامتها معي – ما آثرتُ على هذا الجوار الشريف، وعلى تلك العيشة المباركة:
وهل يستوي جارُ النبي سلامةً وجارُ لظى الويلاتِ لولا وُجوبُها
فإنَّ صِغاري يلهثون وأُمَّهُمْ على وضمٍ والأرضُ ضاقَ رحيبُها".
ذاكم نصُّ استقالتي التي تقدمت بها إلى سعادة الدكتور رئيس القسم، ولن يمنعني اختلافُ الأحوال اختلافاً يسيراً، من أن أدعي أنني نطقت فيها بلسان أخويَّ الكبيرين الأفضلين في ركب الآيبين، الدكتور مرعي والدكتور سيد؛ فلم نكن لننسى أننا نعلم أبناءَ المدينة المنورة وبناتها، بل كنا نتقرب بذلك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم!- حتى إذا ما التقينا على الحوض، انتمينا بذلك إليه، وتدللنا عليه!
ولقد اطلعت في أثناء ذلك من أساتذة القسم، على مذهبين:
1- مذهب سعادة رئيس القسم الحاضر، الدكتور إبراهيم الصُّبيحي، وهو مذهب هُدوئيٌ، يفتش عن محاسن الأحوال القائمة لتحصيل بعض المكاسب الممكنة.
2- ومذهب سعادة رئيس القسم الماضي، الدكتور مُفرحِ السَّيِّد، وهو مذهب ثوريٌ، يفتش عن محاسن الأحوال المتغيرة، لتحصيل بعض المكاسب المستعصية.
وعليهما يتوزع سائر أساتذة القسم. ولا أنكر أنني معجب دائماً بمذهب الثوريين، ولكنني أقر الآن وإحدى رِجليَّ في القاهرة، أنه لا غنى للثوريين عن الهدوئيين، ولا للهدوئيين عن الثوريين، فلينصت كل منهما، إلى صوت المذهب الآخر، قبل إنصاته إلى صوت مذهبه – يسمع كلام الحقيقة الناصعة، ويظفر برونق التطور الدائم!
ولقد كنت نفرت من حُفرة أساتذة القسم (غرفتهم)، التي نحتشد فيها، ولا تتسع لنا، ثم أبى الله إلا أن يخرجني من ضيق المكان، إلى فَرَج الأخلاق الذي أشار إليه عمرو بن الأهتم الساحرُ البيان، بعكس قوله:
لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكنَّ أخلاق الرجال تضيق
فلقد ذكرت غرفة أساتذتي بمبنى كلية دار العلوم القديم، التي كانت ملتقاهم كلهم جميعاً معاً، صغاراً وكباراً:
يجلس محمد حماسة عبد اللطيف وأحمد كشك وشعبان صلاح إلى علي النجدي ناصف وتمام حسان، ويجلس عبد الحميد شيحة وعبد اللطيف عبد الحليم وصلاح رزق إلى عبد الحكيم بلبع وأحمد هيكل، ويجلس شفيع السيد وعبد الواحد علام وأحمد درويش إلى محمد غنيمي هلال وعبد الحكيم حسان، ويجلس سعد مصلوح ومحمد فتيح ومحمد حسن عبد العزيز إلى إبراهيم أنيس وعبد الرحمن أيوب، ويجلس عبد الله شحاتة ومحمد بلتاجي حسن ومحمد نبيل غنايم إلى محمد أبو زهرة وعلي حسب الله، ويجلس عبد الحميد مدكور ومحمد السيد الجليند وعبد الله الشرقاوي إلى محمد كمال جعفر وحسن الشافعي، ويجلس عبد الرحمن سالم وشفيق أبو الخير وأحمد كامل إلى أحمد شلبي وعلي حبيبة. ذكرتُ تلك الغُرفةَ، ولم أُدركها، وكأن قَدْ!
ذكرتُها بكلمة أستاذنا الدكتور أحمد هيكل – رحمه الله! – آخرِ وزراء ثقافتنا المحترمين:
- جالسوا الأساتذة، وتعلموا منهم كيف يتكلمون، وكيف يضحكون!
واها، يا ألله!
ما أَجَلها كَلمةً، وما أدلها!
أيةُ نيةٍ طيبةٍ كَمنتْ فيها، وأيةُ مودةٍ خالصةٍ، وأيةُ رغبةٍ صادقةٍ!
ذكرتُ تلك الغرفة بهذه الكلمة، فإذا حُفرةُ أساتذة قسم اللغة العربية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، من جامعة طيبة، بالمدينة المنورة – روضةٌ من رياض الجنة، وإذا الأساتذةُ فيها ملائكةٌ على أبواب النعيم بترتيب أسمائهم الهجائي:
فأُجاذبُ الدكتور أبا شُعيبٍ طرفاً من أخبار الأمانة والأُمناءِ فيطربُ ويُدخلُني، ثم أُجاذبُ الدكتور بدراً طرفاً من أخبار الذكر والذاكرين فَيَطْرَبُ ويُدخِلُني، ثم أجاذب الدكتور براءً طرفاً من أخبار التلطُّف والمُتلطِّفين فيطربُ ويُدخلني، ثم أُجاذب الدكتور التَّوايتيَّ طرفاً من أخبار السياسة والساسة فيطربُ ويُدخِلُني، ثم أُجاذبُ الدكتور حسنين طرفاً من أخبار التحقيق والمحققين فيطرب ويدخلني، ثم أجاذب الدكتور سيداً طرفاً من أخبار الغزل والغزلين فيطرب ويدخلني، ثم أجاذب الدكتور شعبان طرفاً من أخبار المشي والمشائين فيطرب ويدخلني، ثم أجاذب الدكتور عبد النعيم طرفاً من أخبار الوطنية والوطنيين فيطربُ ويُدخلني، ثم أجاذب الدكتور عصاماً طرفاً من أخبار التوكل والمتوكلين فيطربُ ويُدخلني، ثم أجاذب الدكتور علياً طرفاً من أخبار الابرِنْشاقِ والمُبرنشِقين فيطرب ويُدخلني، ثم أجاذب الدكتور قنديلاً طرفاً من أخبار الظَّف والظُّرفاء فيطربُ ويدخلُني، ثم أجاذب الدكتور هنادي طرفاً من أخبار الحديث والمُحدثين فيطرب ويُدخلني!
فإذا أنا في بُحْبوحَةِ الفوائد المُتشابهة يُعظمُ بعضها بعضاً!
ولكنني لما هاتفني بعض من عاش أكثر حياته بالمدينة المنورة، من تلامذتي المصريين، يطمئن علي:
- هل وجدت بركة المدينة؟
حِرتُ، ولجلجتُ، ثم تخلصتُ من حرج الموقف بكلام عام! ثم لما خَلوتُ إلى نفسي، عجبتُ لها، وأنبتُها:
ذهلتِ عن نفحاتِ الله واحتبست شهادة الحق واختانتكِ أخلاق وطيبُ طيبة ماءُ الروحِ شمسُ فتيل القلبِ والعقلِ يا مأوى من اشتاقوا فَحِرتِ تَهذينَ ألفاظاً مُلجلةً وأنتِ تدرين أنَّ الرزق أرزاق وإذا أنا قد حججتُ مرتين ولم أمكث بالمدينة المنورة أكثر من بضعة عشر شهراً، وأحججتُ زوجتي، واعتمرتُ مرات، وأعمرتُ أسرتي، وصليت بالحرم وتفيأت ظلال روضته مراراً، وسلمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم! – مراراً، وطابقتُ خطا المهاجرين والأنصارِ – رضي الله عنهم!- مراراً، وقضيت بعض حقوقي، وقرأت آلاف الصفحات، وأخرجت كتابين جديدين ومقالين علميين، وناقشت رسالتين جامعيتين، وحضرت مؤتمراً دولياً، وحاضرت محاضرة عامة، وواصلت عن شبكة الإنترنت طلاب علم وفن من أرجاء الدنيا، وشاركتهم فيما يعملون، وحظيت ببعض جوائزهم، واستقامت لأبنائي طريقُ العلم حتى حَظِيَ بعضهم ببعض الجوائز الدولية.
فلله الحمد والشكر، حمداً وشكراً دائمين متلازمين، كثيرين، طيبين، مباركاً فيهما، مباركاً عليهما، كما يحب ربنا ويرضى!
وجزاكم الله خيراً، عني وعن أخوي الكبيرين الأفضلين في رَكبِ الآيِبين، الدكتور مرعي والدكتور سيد – وجمعنا بكم على خير!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
وسوم: 638