إشراقات المغترب.....
وانت تحاول الحديث عن الغربة والاغتراب تقفز إلى ذهنك الكثير من المواضيع المتبادرة إلى الذهن مثل المسببات والظروف الاقتصادية وانعكاسات الهجرة على الداخل السوداني وبعض الظروف المأساوية التي يقابلها المغترب أو المهاجر والكثير من القضايا المهمة والتي تتحمل كتباً أكثر من كونها مقالات ولكن هنا في هذه المساحة والسانحة سأتحدث عن جانب آخر وهو إشراقات المغترب نفسه ومايقدمه من نموذج خارج الوطن إذ هو يخرج من المطار وصالة المغادرة إلى جانب همومه التي تركها وحبه للديار يحمل جوازاً يمثل وطناً مهما إتفق مع النظام أو اختلف ولكن هذا الجواز ليس مكتوباً عليه الرئيس أو النظام وإنما كتب عليه وطنه ووطن أجداده ووطن إبنه الأم ولو تجنس.
ظل المغترب السوداني أو قل المواطن السوداني خارج الحدود مثالاً يحتذى به وظل دبلوماسيات تجوب صحاري العالم وقراه والمدن الشواهق.. ظلت جماليات هذا الإنسان فوق كل أرض وتحت كل سماء مصدر فخر وإعزاز لكل من ينتمي لهذه (السحنة الفريدة) وهذه الأخلاق الفاضلة وتلك الشكيمة القوية والكرامة والإباء كانت هذه الصفات مصدر تعجب الكثيرين ويقولون في قرارة نفسهم من أين ينحدر هؤلاء وكيف تشربوا هذه المعاني وكيف إعتلوا هذا المقام.
وكانت الجاليات في أي مكان آزوره أو حيث إقامتي بالخليج ينظرون لهذا الزول) بكثير من الإحترام نظره لا تخلو من تعجب ويقولون: كيف تجمعون بين الحب والأدب والتواضع والإيثار وفي نفس الوقت تثورون كالجبال سريعاً.. شعب فعال وإنفعالي ومتقد.. شعب حيوي.. أناس في الخارج يقدمون أرواحهم للتضحية بلا مقابل ولكن كلمة واحدة تمس الكرامة والوطن تحوله لشخص آخر، إنسان مهما بلغت به الفاقة لا يمد يده إلى مال غيره وهذا يشهد له به كل الجاليات التي إحتكت به.. أغنياء من التعفف لا يقبلون الكيد ولا يمارسونه على الغير ولا يبنون حياتهم على ضياع آخر أو إزاحته من عمله، أناس يملأ قلبهم الإيمان بالله وبما عنده،
في بلاد الغربة والمهجر يتهرب الآخرون عن بعضهم خشية إملاق والسودانيين عندما يعلمون بمقدم شخص جديد في منطقتهم يسعون لهم وهو لا يتكفف أحد يأتونه سعيًا ليقدمون له العون والمساندة وليشربونه بذات المعاني التي ستكون دينًا أخلاقيًا مستمراً وهكذا يتوارثون كرمهم وجمالهم.
في الغربة إذا حدثت لأحد مشكلة عمل يتوارى الآخرين حتى لا يشملهم شره ولكن السودانيين يتنادون ويتجمعون حوله ولو يكن ذلك على حساب مستقبلهم المهني والوظيفي بالرغم من المعاناه في الوصول لتلك البدائل الوظيفية خارج الوطن بعد أن باع كل شيء ليسافر.
كثير من الناس قابلناهم بمجرد تهديده بالعودة لوطنه يتنازل ولكن السودانيين هذه الكلمة يقابلونها بإعتزاز والمطالبة بالعودة حتى علم كل الناس ذلك ولم تعد كلمة تهديد مهما كانت ظروفه ولو باع كل شيء وهاجر ورصيده في ذلك أن العودة للوطن وحده لا تحتاج زاداً: (وزي وطناً وكت اشتاقله برجع ليه من غير زاد) وهو دوماً مشتاق.. إنسان مثل السوداني تستخسره في الغربة والهجرة لأي مكان في العالم لأنه كائن غير وشخص مختلف، تشعر بالفخر وأنت في أي مكان في العالم كونك سوداني وتتأكد كل يوم أنك لست وحيدًا.
التساؤل الذي يحاصرني دوماً بين الوطن والغربة هو: لماذا السوداني في الخارج بهذا الكمال والجمال في السلوك والمهنية والإجتهاد والأمانة ويقل هذا الجمال في الداخل؟.. لماذا ننجح كأفراد بالخارج والنماذج لا تحصى ولكننا كأمة نعاني خلافًا وإختلافاً؟.
وكأننا نحمل في جوانحنا وطن نعمل له لنرفعه في العالم وهو وطن إفتراضي لا نجده عندما نأتي، لا أريد أن نحلل الظاهرة بشكل سطحي بأننا هنا في الوطن كسالى ومهملين وفي الخارج نضطر لأننا نرى المواطن في الخارج متفانٍ دون رقابة وليس كالجاليات التي تعمل خوفًا أو رهبة.
لماذا لا يستفيد الوطن من علاقات أبناءه المنتشرين في كل العالم ويجلبون له الخير بعلاقاتهم، لماذا نتناحر وتكون المعادلة أن علاقات الخارج تدخلاً وتطفلاً وحرباً، لماذا لا نجعلها استثماراً ووعدًا وتمني، لماذا لا تتحول سفاراتنا لبيوت سودانية كبيرة وتستفيد من رعاياها، لماذا لا ننقل جمال الخارج إلى الداخل؟
الوطن هو المكان الذي يجمعنا برغم الإختلاف فلنعمل معاً لرفعته، والتحية لكل وطني غيور مغترب أو بالداخل، معارض أو موالٍ، فليكن الوطن قاسمًا مشتركًا،
وسوم: العدد 643