مقدمة حول اللغة وعلومها، والبلاغة وتاريخها، ومدرسة الخطيب القزويني البلاغية
الحمد لله الملك الحق رب العالمين، الذي أرسل رسوله محمداً الأمين، رحمةً للخلق أجمعين، وجعل معجزته هذا الكتاب العربي المبين، وأبقاه حجة قائمة على الثقلين إلى يوم الدين.
وبعد: فإن اللغة العربية أشرف اللغات، نزل القرآن بها، وبعث النبي الخاتم على أرضها، وجعل الله الكعبة البيت الحرام في ربوع بلادها، فهي من مقومات بقاء الأمة، ومن أبرز معالمها الثقافية والحضارية على مر التاريخ.
وعلوم هذه اللغة كما ذكر أهل العلم هي "ثلاثة عشر علماً: الصرف والإعراب ويجمعهما اسم النحو، والرسم، والمعاني، والبيان، والبديع، والعروض، والقوافي، وقرض الشعر، والإنشاء، والخطابة، وتاريخ الأدب، ومتن اللغة"1.
نشأة العلوم اللغوية
ولا شك أن التسلسل التاريخي لنشأة علوم اللغات الحية يقتضي ظهور المفردات أولا ثم الجمل والتراكيب، ثم توجد النصوص المطولة من منظوم ومنثور، ثم يتبع ذلك ظهور علم النحو والصرف المستنبط من تلك التراكيب والنصوص، ثم علم الأدب الذي يقوم على دراسة النصوص وفق قواعد النحو والصرف، ثم علم البلاغة الذي يضع المقاييس الجمالية للكلام الأدبي، ثم علم النقد الذي يحكم على جودة النصوص ورداءتها، ويفاضل بينها من خلال مدى التزامها أو بعدها عن القيم الجمالية البلاغية والذوق الأدبي لأي أمة.
وعليه فنحن نرى أن الناقد لا بد له من أن يلم باللغة وعلومها، فهو يحتل قمة الهرم في علوم اللغة، والنقد يقوم مباشرة على البلاغة، ثم يسترفد من بقية علوم اللغة والحياة.
وهذا رسم توضيحي يلخص ما ذكرناه، ويبين العلاقة بين هذه العلوم التي قد يمتزج بعضها ببعض وبخاصة في لغة العرب:
1-
مخطط يمثل اللغة العربية وعلومها وتطور تلك العلوم
لماذا ندرس البلاغة:
ندرس البلاغة لأسباب منها:
1- لأنها هي الوسيلة للحكم على النصوص الأدبية.
2- لتنمية الذوق الأدبي والنقدي.
3- لتطوير المهارات الأسلوبية لدى الناطقين باللغة العربية.
4- للتواصل مع تراثنا القديم وأدبنا المعاصر، ومعرفة ما فيه من قيم جمالية.
5- لمعرفة إعجاز القرآن الكريم.
علاقة البلاغة بالإعجاز
جعل الله كتابه المنزل على سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزةً باقيةً أبد الدهر، ووجوه إعجازه كثيرة منها: الإعجاز البياني، والإعجاز التشريعي، والإنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة، والإعجاز العلمي، وغير ذلك..
والإعجاز البياني والأسلوبي هو أهمها وأشهرها؛ وذلك أن وجوه الإعجاز الأخرى هي وجوه مشتركة بين القرآن وبين الكتب السماوية المنزلة قبله، ووجودها فيه هو إعجاز لها وله، لأنه قد تضمنها، وهيمن عليها، ولكنه انفرد دونها بالإعجاز البياني والبلاغي الذي هو السحر الحلال: يأخذ العقول بجماله، ويبهر النفوس بعظمته، فسبحان من أنزله على عبده!، وجعل فضله على سائر الكلام كفضله على خلقه!.
جهود العلماء في البحث حول البلاغة والإعجاز
وقد هرع العلماء للبحث في وجوه الإعجاز بعامة، والإعجاز البياني على وجه الخصوص، فاقترن البحث بالإعجاز مع البحث البلاغي، وكان أول من تصدى لذلك الجاحظ في كتبه، وبخاصة كتابيه: نظم القرآن، والبيان والتبيين، ثم تبعه العلماء بالبحث، وكان ابرزهم الباقلاني صاحب كتاب إعجاز القرآن (ت403هـ)، وعبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب أسرار البلاغة وكتاب دلائل الإعجاز (ت 471هـ)، والزمخشري صاحب تفسير الكشاف والذي طبق قواعد البلاغة التي ذكرها عبد القاهر من خلال تفسيره لآيات القرآن (ت 537هـ)، ثم جاء السكاكي فمخض زبدة ما قيل قبله في كتابه مفتاح العلوم (ت 626هـ)، وانتهت رئاسة هذا العلم إلى الخطيب القزويني (ت739هـ) الذي لخص كتاب مفتاح العلوم في كتابه: تلخيص المفتاح، ثم شرح التلخيص في كتابه الإيضاح.
وبين هؤلاء العلماء أعلام كثر، لم نذكرهم اختصاراً للوقت، وقد فصلت القول في هذا الموضوع ضمن كتابي: (مباحث في البلاغة وإعجاز القرآن) واكتفيت هنا بذكر أئمة هذا العلم، وفيما يلي مخطط موجز يوضح ما ذكرناه:
مخطط يوضح تأسيس البلاغة العربية وتطورها
قيمة كتاب تلخيص المفتاح
أولا: يعتبر الخطيب القزويني [ii].
ثانيا: ويعد تلخيص الخطيب القزويني أفضل تلخيصات كتاب (مفتاح العلوم) وأشهرها، فهو"خير من تأثر بالسكاكي، ونحا منحاه في تلخيص قواعد البلاغة، هذا المنحى الذي أدى الالتزام به، والاسترسال فيه فيما بعد إلى جفاف الدراسات البلاغية وجمودها، وكما أقبل القزويني على مفتاح السكاكي تلخيصا وتوضيحا، أقبل كذلك كثيرون من رجال البلاغة شرقا وغربا على تلخيص القزويني درسا وحفظا وتلخيصا وشرحا ونظما، كأنهم رأوا فيه خير مرجع لقواعد البلاغة"[iv].
رابعا: وقد تنوع اهتمام العلماء بالتلخيص، فمنهم من شرحه ومن نظمه ومن لخصه، فممن شرحه: الخطيب القزويني نفسه في كتاب (إيضاح التلخيص)، وسنفصل الحديث عنه في نهاية هذا المبحث.
2- محمد بن مظفر الخلخالي (ت745هـ)، وضع له شرحا سماه: (مفتاح تلخيص المفتاح).
3- أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي والملقب بهاء الدين (ت 773هـ)، وضع له شرحا سماه (عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح).
4- محمد بن يوسف المعروف بابن ناظر الجيش (ت778هـ) وسمى شرحه: (شرح تلخيص القزويني).
5- محمد البايرتي (ت 786هـ) وسمى شرحه: (شرح تلخيص المفتاح للقزويني).
6- شمس الدين القونوي (ت788هـ) وسمى شرحه: (شرح تلخيص المفتاح للقزويني).
سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، (ت792هـ) وضع له شرحين: الشرح الكبير وسماه: (المطول)، والشرح الصغير للتلخيص وسماه: (المختصر)، والحواشي على المطول كثيرة أهمها حاشية للشيخ محمد الدسوقي المصري المتوفى سنة 1230هـ.
7- عبد الرحيم بن أحمد العباسي، (ت 963هـ) وقد شرح شواهد التلخيص في كتاب سماه: (معاهد التنصيص على شواهد التلخيص).
8- عصام الدين بن إبراهيم بن محمد عربشاه الإسفراييني المتوفى بسمرقند حوالي منتصف القرن العاشر الهجري، وقد "سماه: (الأطول).
9- ابن يعقوب المغربي (ت1110هـ) وضع له شرحا سماه: (مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح).
وممن نظموه شعرا:
1- زين الدين بن أبي العز طاهر بن حسن الحلبي، (ت808هـ) وسماه (التخليص في نظم التلخيص).
2- زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المعروف بالعيني، (ت893هـ).
3- السيوطي (ت 911هـ)، وسمى نظمه: (عقود الجمان في المعاني والبيان)، ثم عاد وشرحه في كتاب سماه (حل عقود الجمان)
4- عبد الرحمن الأخضري، وسمى نظمه: (الجوهر المكنون في الثلاثة فنون).
وممن قام باختصاره:
1- شهاب الدين أحمد بن محمد المعروف بالصاحب، (ت 788هـ)، وسماه: (لطيف المعاني).
2- المولى لطف الله بن حسن التوقاني المتوفى شهيدا (900هـ)، وسماه: (تلخيص التلخيص).
5- عز الدين بن جماعة (ت819)، وسماه: (تلخيص التلخيص).
6- زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المعروف بالعيني، (ت893هـ)، وسماه: (تحفة المُعاني لعلم المعاني).
3- أبرويز الرومي (ت987هـ)، وسماه: (تلخيص التلخيص) أيضا.
7- خضر بن محمد مفتي أماسية (ت بعد 1060هـ)، وسمى تلخيصه: (أنبوب البلاغة)، ثم شرحه وسماه: (الإفاضة لأنبوب البلاغة).
4- زكريا الأنصاري.
رحم الله أولئك العلماء، وأدخلهم فسيح جناته، ونفعنا بعلومهم، وجعلنا خير خلف لخير سلف، وممن يقولون القول فيتبعون أحسنه.
والشكر للمنتدى الإسلامي بالشارقة، الذي حملني شرف نشر هذا العلم العربي العظيم في دورتين متتاليتين... فوجدت إقبالاً على هذا العلم الشريف، مما يدل على أن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى قيام الساعة!.
أسأل الله تعالى أن يجعلني أهلاً لنشر العلم، والذود عن تراث العلماء، وأن يجعلني في زمرة عباده الصالحين، وممن يصون هذا العلم، ويحفظ جلالته وقدره، ويسعى إلى نشره وتجديده.. إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] - جامع الدروس العربية، للغلاييني، (1/8)، المكتبة العصرية بيروت، الطبعة (33).
[ii] - التلخيص في علوم البلاغة، شرحه عبد الرحمن البرقوقي، ص(21-23)، دار الفكر العربي.
[iv] - البلاغة تطور وتاريخ، ص (375).
[v] - انظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، الحاج خليفة، (1/473-479).
وسوم: العدد 644