الأنبياء والرسل عليهم السلام، ضحايا الظلم والعدوان!!
(دراسة قرآنية لفلسفة الحدث في التاريخ البشري)
بحث علمي محكم وقد نشر هذا البحث في مجلة الحكمة التي تصدر في مانشستر ضمن العدد 25 والصادر في رجب سنة 1423هـ
مقـــــــدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى من اتبعهم بحق إلى يوم الدين.
وبعد: فإن علم التاريخ ودراسة سير الأنبياء والرسل عليهم السلام من أهم العلوم التي ينبغي العناية بها، واستخلاص تجارب البشرية من خلالها، لنتمكن من استشراف المستقبل وصناعته بعد الاستفادة من تجارب الماضي، والخبرات البشرية السالفة على وجه الأرض.
وتاريخ البشر برمته لا يعدو أن يكون إلا صراعا بين الحق والباطل والخير والشر إلى يوم القيامة، ولذلك يمكن استخلاص النتائج الهامة منه في صنع مستقبل الإنسان، وتفسير الأحداث التي يعيشها، والصراعات التي يمر بها.. فعندما أراد الله أن يخلق الإنسان، تعجبت الملائكة من ذلك، فهي لم تتصور الأرض ستكون بعد خلق الإنسان إلا بقعة من دماء يفسد فيها الأشرار، بيد أن الله تعالى أبعد عنها هذا التصور، حين بين أن هنالك في علمه شيئا آخر غير هذا الشر الذي توجست منه الملائكة، فهنالك بشر سيصارعون هذا الشر، وسيحاولون الإصلاح، وسيوجهون سفينة البشرية نحو مرفأ الأمان، والمتمثل بالفطرة المستجيبة لنداء الخالق الكبير، هذا ما تصوره الآية التالية في حوار جميل: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)[1].
والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في مقدمة الرجال العظماء في هذا العالم، فهؤلاء جندهم الله تعالى من بين عباده ليصلحوا مسار الحياة، ويوجهوا البشرية نحو الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وإنها لمهمة شاقة تحتاج إلى مزيد من الجلد والصبر والتضحيات، وقد بذل الأنبياء والرسل عليهم السلام أموالهم وأرواحهم في سبيل الدعوة إلى الله، وتعرضوا لمختلف ضروب المحن والأذى، وتركوا بلادهم مهاجرين إلى الله، وقاسوا ما قاسوا من أجل تحقيق منهج الله وميزان العدالة ونصرة الحق على سطح الأرض، وهذا بحث يحكي قصة الصراع بين الأنبياء عليهم السلام وأقوامهم، وما لاقوه من العنت والمشقة، والعدوان والأذى، وقد كتبته من خلال معايشتي للقرآن الكريم في أحد مواسم شهر رمضان المعظم، وأرجو من الله القبول والتوفيق، وسوف نتناول في المقدمة ثمة عناصر تتعلق بالبحث وهذا أولها:
أولا: قصة الصراع بين الحق والباطل:
خلق الله سبحانه الخلق لعبادته، قال تعالى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[2]، وقد كرم الإنسان على ما سواه من المخلوقات، فأمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا باستثناء إبليس الذي كان يعيش معهم بيد أنه من الجن، وكان سبب رفضه للسجود حسده لآدم عليه السلام، وادعاؤه بأنه خير من آدم، قال تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)[3]، وقد ازداد إبليس حقدا على آدم فسول له ولزوجه الأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، وكانت النتيجة خروج الجميع من الجنة والهبوط إلى الأرض، وقد حذرنا الله من إبليس وغوايته، قال تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة)[4].
والعاقل من عبد الله وحده، ولم يتبع ما يأمره به الشيطان، أو ينطلق وراء هواه ليعبده، قال تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا)[5].
ثانيا: احترام العقل الإنساني
نصب الله سبحانه في السماء والأرض والنفس الإنسانية آيات كثيرة تدل على ربوبيته ووحدانيته، وهذه الآيات كافية لترشد من يتأملها إلى الصراط المستقيم، ولم يشأ ـ سبحانه ـ أن يقهر الناس على اتباع دينه، وذلك احتراما للعقل الإنساني، وللقرار الفردي لكل إنسان، (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)[6]، وقد وضع الله الشواهد والبينات الدالة على الحق، بيد أنه لم يلزم البشر بحتمية الهداية والاتباع لنهجه القويم، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)[7].
وينبه الله عز وجل رسوله الكريم إلى أن وظيفته تذكير الناس وليس إلزامهم بالهدى، قال تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)[8].
ثالثا: الناس حزبان
وقد انقسم الناس أمام الدين الحق ودعوة الأنبياء عليهم السلام إلى حزبين:
الأول: حزب الله، وهو الحزب الذي يمتثل بأوامر الله ونواهيه، ويتميز بمنهج واضح، وعقيدة ثابتة، ويشمل أتباعه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وأتباعهم من الصدِّقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وهؤلاء قال الله فيهم: (ألآ إن حزب الله هم المفلحون)[9]، وهذا الحزب دينه الإسلام، قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)[10]، وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)[11]، والإيمان في هذا الحزب واجب بجميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، قال تعالى: (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله)[12]، ومحمد عليه السلام هو خاتمهم ووريثهم كما قال تعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)[13]، والكفر بأحد الأنبياء عليهم السلام هو كفر بهم جميعا، ، قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا)[14].
والثاني: حزب الشيطان، ويشمل كل جماعة أو فرقة أو فرد لا يتبع منهج الله، قال تعالى: (ألآ إن حزب الشيطان هم الخاسرون)[15]، وهذا الحزب أتباعه فرق كثيرة من أهل الباطل، كالمشركين، والمنافقين، قال تعالى: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا)[16] ويدخل فيه الكافرون من أهل الكتاب ممن لا يؤمن بالنبي محمد عليه السلام، وذلك لأن الكفر بالنبي الخاتم الذي بشرت به الأنبياء عليهم السلام هو كفر بهم جميعا، قال تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية)[17] و يدخل فيه أيضا الملاحدة ممن لا يؤمنون بدين، وغير ذلك من الملل والنحل.
رابعا: عقلية طاغية وتفكير عقيم
وقد وقف حزب الشيطان موقفا سلبيا من الأنبياء والرسل عليهم السلام وأتباعهم، ففسروا النبوة بأنها ضرب من السحر أو الجنون، قال تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون)[18] ، ولم يتنبهوا للآيات الدالة على الدين والتوحيد، قال تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)[19]، وعطلوا حواسهم التي وهبهم الله إياها، فلم يروا الحق ولم يسمعوه ولم يفقهوه، قال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)[20]، وقد عاش هؤلاء على الأرض يمارسون المأكل والمشرب والجنس كما تعيش البهائم التي لم تزود بحواس التأمل والتفكير، قال تعالى: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون)[21]
خامسا: رفض مطلق للحق
ورغم بزوغ شمس الحق من مكة، فإن كفار قريش رفضوا الإيمان به، وقالوا بلغة لا تخلو من التحدي: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم)[22]، وقد كان السبب في الرفض هو الحسد والهوى، قال تعالى: (وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)[23]، وكذلك وقف كثير من أهل الكتاب الموقف ذاته، وليس ثمة سبب لذلك إلا الحسد الذي كان أول من ابتلي به إبليس ثم شاع بين الناس فيما بعد، قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير)[24]
سادسا: إدانة ظالمة للإيمان والمؤمنين
وهؤلاء الذين رفضوا الإيمان، راحوا ينظرون للإيمان وكأنه تهمة أو جريمة، لأن الإيمان يحرر صاحبه من سلطة الطواغيت كلها، وفي هذا تهديد لمصالحهم ونفوذهم الاجتماعي، ولو كان الإيمان بالله الواحد القهار جريمة ـ كما يزعمون ـ فالمسئول عنها صاحبها وليس المشركون، قال تعالى: (قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون)[25]، وربما تولدت في نفوسهم مشاعر النقمة على المؤمنين دونما سبب، قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وإن أكثركم فاسقون)[26]، وأبرز مشاعر العداء تلك التي تفيض بها قلوب اليهود والمشركين، قال تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)[27].
سابعا: رفض التعايش السلمي
تدفع مشاعر العدوان حزب الشيطان إلى رفض التعايش السلمي مع حزب الله في مجتمع واحد، فلا يقبلون بالتعايش في مجتمع واحد تحت شعار (لكم دينكم ولي دين)[28]، لأنهم لا يؤمنون بالحرية وقبول الآخر أساسا، ولذلك يسعون للعدوان وإخراج المؤمنين من أوطانهم، قال تعالى: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة)[29]، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب في الهجرة من مكة، لولا أنه اضطر لذلك، روى عبد الله بن عدي بن حمراء رضي الله عنه، قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة ـ موضع بمكة ـ فقال: (والله إنك لخير أرض الله، واحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)[30].
وكما أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أصحابه من وطنهم، ووقع عليهم الظلم والعدوان، قال تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره)[31].
والإخراج منهج متبع لحزب الطاغوت مع جميع الرسل والأنبياء عليهم السلام، ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي عليه السلام: (ياليتني فيها جذعا ـأي شابا قوياـ ياليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟). قال: (نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)[32]
ثامنا: المسارعة في العدوان
يرفض حزب الله البدء بالعدوان، فهو حزب يحمل رسالة السلام والخير امتثالا لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)[33]، بيد أن حزب الشيطان لا يألو جهدا ببذل أقصى درجات العدوان والمسارعة إليه، قال تعالى: (وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون)[34] ، وهو يستخدم شتى الأساليب الإرهابية في عدوانه على المؤمنين، وهنا يثار سؤال ما هو الإرهاب الذي يرتكز عليه العدوان؟ وكيف يبتدئ؟
للإجابة على هذا السؤال نبدأ أولا بتعريفه من حيث اللغة: الإرهاب يرجع في اللغة إلى اصل ثلاثي وهو رهب كعلِم، ومعناه: خاف، ورَهَبوت خير من رحموت: أي لأن ترهب خير من أن ترحم، وأرهبه واسترهبه: أخافه، والمرهوب: الأسد[35]
فالإرهاب إذا يرجع إلى الخوف، والخوف يحصل بأسباب كثيرة، يبدأ بالأمور النفسية، فقد يخاف الإنسان مثلا: من تكذيب الآخرين له إذا حمل لهم نبأ صادقا، أو أن يتسبب هذا النبأ بازدرائه وتبكيته، وقد يخاف من أن يقدم شهادة الحق في محكمة مثلا لما سيتبعها من أذى، فالخوف من التكذيب والازدراء ونحو ذلك هو أدنى درجات الإرهاب ونسميه بالإرهاب النفسي، وقد يخاف الإنسان من أن يتحول التكذيب إلى تشهير دائم فيتطور الإيذاء النفسي إلى إيذاء إعلامي واجتماعي، وقد يقاطع الناس هذا الإنسان اقتصاديا، فيتحول الضرر من معنوي إلى حسي، مما يتسبب له بالفقر والضرر، وفي خطوة أخيرة قد يحاولون إيقاع الأذى الجسمي به أو بأهله وضيوفه، وهنا يدخل الإرهاب مرحلة خطيرة وهي مرحلة التصفية والإبادة، مما يبرر لهذا المتضرر بالدفاع عن نفسه حفاظا على حقه في الحياة.
من هذه المقدمة نستطيع تعريف الإرهاب بأنه: هو إيقاع الأذى المادي أو المعنوي بالآخرين ورفض الاستماع إليهم أوالتحاور معهم، ويبدأ الأذى بالتكذيب والتشهير، وينتهي بحرب الإبادة والتصفية الجماعية، وبين هاتين المرحلتين مراحل كثيرة من العدوان الإعلامي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.
ومن آثار الإرهاب مقابلة الحجة بالسوط، والحق بالسيف، والحقيقة بالجلد، إذ ينطلق الإرهاب من فكرة رفض التعايش مع الآخر، وينتهي بالتصفية الجسدية ومحاولة الاستئصال الدموي لذاك الآخر ولو كان نبيا مرسلا مثل موسى عليه السلام، قال تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم)[36].
تاسعا: شبهة وردها وردت مادة رهب ومشتقاتها في القرآن الكريم في اثني عشر موضعا، منها: الرهب ورهبانية ورهبان وغير ذلك[37]، ولم ترد بمعنى الأمر بإرهاب العدو أبدا، وإنما وردت لتعليل الإعداد لملاقاة الأعداء في المعركة، وذلك موضع واحد من الذكر الحكيم، وهو قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)[38]، والإرهاب المقصود هنا يكون في المعركة، فقد (أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة)[39]، ومعلوم بأن المعارك كلها تهدف إلى كسب الحرب وإرهاب العدو وإحراز الغنائم، فالحرب ليست لعبا، والقوي هو الذي ينتصر في النهاية، لذلك تحرص الدول والجيوش جميعا على كسب المعارك منذ الجولة الأولى، وبث الرعب في نفوس أعدائها، وهذا ما أراده القرآن، ولم يرد قط إرهاب الآمنين، أو تصفية الخصوم بالأساليب الغادرة كما يفعل الطواغيت في الأرض، لأن المبدأ الذي قام عليه الدين احترام حقوق الآخرين في العقيدة والحياة الكريمة والمشاركة الفاعلة في المجتمع، وعدم البدء بالعدوان على الآخرين، يقول سبحانه: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم)[40]. عاشرا: جذور العدوان
العدوان يبدأ من الناحية النفسية وينتهي بالتصفية الجسدية، وهو يرتكز أساسا على فكرة الإرهاب، وأول من ابتكر الإرهاب النفسي هو إبليس الذي رفض السجود لآدم زاعما بأنه من عنصر النار الذي يفضل الطين الذي خلق منه آدم، وهذه حجة واهية أراد إبليس من خلالها تبرير خروجه عن الأمر الإلهي، وأن يوهم الملائكة وآدم أنه على حق في عصيانه للأمر الإلهي، وإلا فالطين فيه عنصر النار وليس في النار عنصر الطين، فيكون الطين أشمل من النار، وأول من ابتكر الإرهاب الحسي ضد الغير هو قابيل، فهو الإرهابي الأول على وجه الأرض، حين حسد أخاه هابيل، وتخلص منه بالقتل، قال تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)[41]، ويتحمل قابيل مبتكر الإرهاب المادي على وجه الأرض وزرا من كل جريمة تقع من بعده، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل)[42].
أحد عشر: ماذا يريد حزب الشيطان؟
كل ما يريده حزب الشيطان التمتع بهذه الدنيا بدون حدود ولا قيود شرعية، قال تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى)[43].
وليس ثمة شيء يحقق لحزب الشيطان ما يريد إلا حكم الجاهلية، وهو حكم الهوى والضلال، قال تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)[44] .
اثنا عشر: الوصاية على الناس
ولأن حزب الشيطان يريد التمتع بالحياة، ويرفض التعايش مع أهل الإيمان، فإنه يريد فرض وصايته على الناس بالقوة، ولو أدت هذه الوصاية إلى استئصال شريحة كبيرة من الناس بقتل أبنائهم واستبقاء نسائهم للخدمة كما فعل فرعون ببني إسرائيل، قال تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب، فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال)[45].
ثلاثة عشر: صراع إلى يوم القيامة
والصراع بين حزب الله وحزب الشيطان قائم إلى قيام الساعة، قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)[46]، فالله سبحانه يدفع أذى الشر والطاغوت بأنبيائه وأوليائه، والهدف الذي يسعى له حزب الشيطان من حرب الدعوة إطفاء هذه الشعلة الإلهية التي تبث الأمل والحياة في نفوس المعذبين على وجه الأرض، وهو هدف لا يمكن تحقيقه مهما أوتي الطاغوت من قوة وعتاد، قال تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)[47].
أربعة عشر: الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا ضحايا العدوان
نتيجة لفكرة رفض التعايش مع الآخرين، اشتعلت نار العداوة بين رؤوس حزب الشيطان من جهة والأنبياء والرسل عليهم السلام من جهة أخرى، فلا يخلو نبي من عدو يترصد به، قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين)[48].
وحسبنا أن نعلم بأن موسى وقومه كانوا ضحايا البطش الفرعوني لمدة طويلة، وحاول فرعون أن يستأصل موسى عليه السلام ومن معه حين اتبعهم للبحر، وعيسى وأمه ضحايا الافتراء من أعدائهما، وقد سعى أعداء عيسى لقتله عليه السلام لولا أن نجاه الله منهم، ومحمد مات عليه السلام بتأثير الشاة المسمومة التي أهدتها إليه امرأة يهودية في خيبر.
ورغم هذا العناء فإن النصر قادم، فقد غرق فرعون ومن معه من الجنود الفاسدين، ورفع الله المسيح عيسى إلى السماء، وانتشر دين محمد ملء الخافقين، وتحقق وعد الله بالنصر لحزبه، قال تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا)[49].
والنتيجة النهائية لهذا الصراع بين الحق والباطل، ولهذا الاستئصال الذي يمارسه حزب الشيطان ضد حزب الله في الدنيا هي في يوم الدين، فالدنيا هي الشوط الأول من رحلة الإنسان، والآخرة هي الشوط الأخير الذي تتحدد فيه النتائج، ويكون فيه العقاب الأبدي للطغاة، قال تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار، وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار، ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب)[50].
وهو عقاب أبدي عادل لحزب الشيطان في الآخرة، قال تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون)[51].
وأما حزب الله فسينالون الثواب الكريم من رب رحيم، قال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون، ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)[52].
وإنها لفرصة أخيرة لحزب الشيطان أن يكف عن عدوانه وظلمه تجاه الأنبياء عليهم السلام وحملة ميراثهم قبل فوات الأوان، فإن العقاب قادم لهؤلاء الاستئصاليين الذين يريدون وأد الإيمان وأهله، ولكن الله بالمرصاد لهم، قال تعالى: (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم)[53].
وهذا البحث قد جاء لبيان أساليب حزب الشيطان والمكون من أعداء الرسل والأنبياء عليهم السلام في العدوان على حزب الله والمتمثل بالرسل والأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من المؤمنين، وذلك من خلال آيات الذكر الحكيم وفق منهج علمي استقرائي، وهو مكون من خمسة مباحث وخاتمة.
المبحث الأول
الحـــــــرب النفسية
الحرب النفسية هي مقدمة لسائر الحروب الأخرى التي يشنها الطواغيت ضد الأنبياء والرسل عليهم السلام، بل هي قاعدة الحروب جيعا، وتشمل هذه الحرب عناصر عدة، من ذلك:
أولا: احتكار الحقيقة
عندما يدعي أعداء الرسل عليهم السلام بأن الحقيقة عندهم، وأنها ملك يديهم، فكأنهم يقولون للمؤمنين بلسان الحال فضلا عن المقال أنتم لستم على شيء، تضيعون أعماركم فيما لا طائل من ورائه، وعليكم أن تتبعونا وتنبذوا ما في أيديكم من ميراث النبوة، وفي هذا الصدد تدعي طوائف ممن انحرفوا عن هدي الرسل عليهم السلام بأنهم أصفياء الله، ويبالغون أكثر فيدعون القرابة والنسب إلى الله تعالى الله عن ذلك، قال تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق)[54].
ويبالغون في باطلهم حين يطلبون من الآخرين اتباعهم في غيهم وترك الملة الإبراهيمية المستقيمة، قال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)[55] .
وهذه الطوائف تقوم بكتمان الحق الذي يعرفونه جيدا كما قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)[56]، وهم جراء هذا الفعل الشنيع يستحقون لعنة الله وغضبه، قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا)[57].
والباعث على كتمان الحقيقة هو المصالح المادية العاجلة التي تجعلهم يشترون دنياهم بآخرتهم، قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)[58].
ثانيا: تزييف الحقائق
تزييف الحقائق أو لبسها على الناس هو ديدن حزب الشيطان الذي يكره الحق، قال تعالى: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون)[59].
فالمحرفون من أهل الكتاب مثلا يتعمدون مزج الحق بالباطل ليلتبس الحق على أعين الناس، قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون)[60]، وربما عمدوا إلى إظهار الإيمان بمحمد ثم تراجعوا عنه، وذلك بغية زرع الشك في قلوب المؤمنين، ومن ثم ردتهم عن دينهم، قال تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)[61].
والتذبذب بين الكفر والإيمان هو ديدن طائفة أخرى من غير أهل الكتاب سميت بالمنافقين، وهي فرقة احتارت بين مصالحها ودينها، ولم تجد لها موقعا ثابتا في معسكر الكفر أو الإيمان، قال تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، مذبذين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا)[62]، وقال أيضا مصورا خداع هذه الفرقة وضلالها: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)[63].
وتعتمد هذه الفرقة على بث الإشاعات والرعب في قلوب المؤمنين لتثبيطهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى، كما قال تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)[64]، وتحاول هذه الفرقة أن تبحث عن مكاسبها المادية بأية طريق كانت، يقول تعالى: (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين)[65].
ويتجلى تزييف الحقائق في صور كثيرة، وفي مقدمتها: الشرك بالله، وهو أكبر الكبائر وأسوأ الذنوب، كأن ينسب لله ولد تعالى الله عن ذلك، وقد فعل هذا اليهود والنصارى، قال تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون)[66].
ومن ذلك صرف العبادة لغير الله، وهو من أنواع الشرك، مثل:
* مظاهر الطبيعة المختلفة، مثل السجود للشمس، وهكذا كان قوم سبأ (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله)[67].
* أو صرفها للأصنام والطغاة، قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله)[68]، قال الزمخشري في تفسير الآية: (أندادا: أمثالا من الأصنام وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم)[69].
ولا يتورع حزب الباطل أن يزكي نفسه، وأن يصرف العبادة لغير الله، وأن يفضل أهل الشرك على أهل التوحيد، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا، انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا، ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا)[70]، وقد نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى[71]، والجبت: الأصنام وكل ما عبد من دون الله، والطاغوت: الشيطان[72].
ومن تزييف الحقائق: الأمر بعبادة غير الله، قال تعالى: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون)[73]، وكذلك الاشمئزاز من ذكر الله وحده، قال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)[74].
ومن تزييف الحقائق: الإلحاد في أسماء الله عز وجل، قال تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا)[75]
ومن تزييف الحقائق: الإلحاد في صفات الله عز وجل، أو وصفه بما لا يليق به سبحانه كالفقر مثلا، وقد ادعى ذلك اليهود، قال تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق)[76]، أو وصفه بالبخل تعالى الله عن ذلك حيث قال: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)[77].
ومن ذلك أيضا طلب رؤية الله جهرة، وجعلها سبيلا وحيدا لليقين، قال تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا)[78].
وربما طلب بعضهم من النبي عليه السلام أن ينزل لهم كتابا محسوسا من السماء استهزاء وعتوا، قال تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم)[79].
ومن أسوأ صور تزييف الحقائق تحريف كلام الله المنزل من السماء، وهو ما عمد إليه بعض أهل الكتاب، قال تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)[80].
وسبب هذا التحريف مصلحة دنيوية عاجلة تتمثل في مكسب مادي بسيط كما قال تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)[81]، ولا يخفى بأن التبديل في دين الله وكتبه ظلم يستحق أشدالعقاب، ولذلك قال تعالى منددا بما فعله بعض أهل الكتاب: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون)[82].
ومن ذلك الافتراء على الله، ونسبة الأمر بفعل الفواحش إليه، قال تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)[83]، ويدخل في الافتراء التشريعات الباطلة التي لم يأذن بها الله، قال تعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)[84]ز
ويدخل في الافتراء على الله نسبة جرائمهم إلى القدر، وكأنه ليس لهم ثمة دخل فيها، قال تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين)[85]
وقد دأب حزب الشيطان على المكر والدهاء لتضليل الناس وغوايتهم، قال تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)[86]، والهدف الأول لهذا المكر عند جميع طوائف حزب الشيطان هو: حرصهم على تغيير الملة المستقيمة كما قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)[87].
وربما ادعى أعداء الرسل عليهم السلام من الطغاة الظالمين أنهم يحققون مصلحة العباد والبلاد في تصديهم لدعوة الرسل عليهم السلام، فهذا فرعون يدعي الرشاد قائلا لمن حوله: (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)[88]، وطالما ظن أئمة الكفر بأن عملهم صواب، فلا عجب إذا من صدهم عن سبيل الله، قال تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل لله قد ضلوا ضلالا بعيدا)[89]، فالكفر والصد عن سبيل الله قرينان، وليس الكفرة من أعداء الرسل عليهم السلام إلا قطاعا لطريق الحق، أعداء لأهل التوحيد، حتى لو أن قائلا ادعى بأنهم لم يخلقوا إلا لهذه الغاية لم يكن ذلك ببعيد.
ثالثا: الإرهاب النفسي
ويكون الإرهاب النفسي بالتخويف على مختلف الأصعدة، فقد يخوفون الرسل عليهم السلام من الأوثان التي يعبدونها، ويزعمون لها الضر والنفع، قال تعالى: (ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد)[90]، قال الزمخشري: (أراد الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه)[91].
وهذه الأوثان هي جزء من لحمة المجتمع الجاهلي ونظامه الاجتماعي، فالمساس بها مساس ببنية المجتمع الأساسية، قال تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام: (وقال إنما تخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين)[92]، وقد فسر الزمخشري المراد بالمودة في هذه الآية فقال: (أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها، واتفاقكم عليها وائتلافكم، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم)[93].
وفي لفتة كريمة من لدن الله العزيز الحكيم، لنبيه الكريم، لدحض فكرة هذا الخوف الذي تروج له الجاهلية يقول تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا)[94]، فالخوف لا ينبغي أن يلامس قلب الرسول الكريم أو المؤمن الصالح، لأنه على المحجة البيضاء والصراط المستقيم، وأولى بهذا الخوف أن يلامس قلوب المشركين الذين افتروا على الله الكذب، واتخذوا معه آلهة أخرى ظلما وعدوانا، وهو ما أشارت إليه آية كريمة في موضع آخر من الكتاب العزيز، وفيها يقول عز وجل: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)[95] .
وبحكم الطبيعة البشرية والضعف البشري قد يشعر بعض الأنبياء المقربين عليهم السلام برهبة أو خوف من القوى الطاغوتية التي يواجهونها في بعض المواقف، مثل ما حصل لموسى في مواجهة فرعون، حيث وردت آيات عدة تذكر هذا الخوف، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: (قال رب إني أخاف أن يكذبون)[96]، وقال أيضا: (ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون)[97]، وقال سبحانه: (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين)[98]، ولكن هذا الخوف سرعان ما تبدد في لحظة اللقاء مع فرعون، حيث كانت معية الله لموسى وهارون عليهما السلام كافية لأن تبدد أي ذرة من خوف ذلك الطاغية المتجبر، قال تعالى: (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)[99].
ومن أسوأ صور الرهبة والخوف تلك التي يزرعها السادة والكبراء في نفوس أتباعهم، وهو خوف يجعل التابع ينقاد للمتبوع انقيادا أعمى بلا وعي ولا تفكير، قال تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا)[100].
وفي مشهد آخر لهذا الحوار الساخن بين السادة والأتباع يوم القيامة يقول عز وجل: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون)[101]، فعملية الإضلال كانت مهيئة ومخططة عبر الليل والنهار، وكانت أمرا إلزاميا من السادة إلى أتباعهم وأعوانهم، هؤلاء السادة الذين يمثلون قمة الترف والفساد، ويدفعهم الخوف على مصالحهم الضيقة إلى التصدي لكل الأنبياء والمصلحين، قال تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)[102].
وقد تكرر في القرآن الكريم نسبة المكر إلى الرؤساء كما في قوله تعالى: (ومكروا مكرا كبارا)[103]، قال الزمخشري: (والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصدهم عن الميل إليه والاستماع منه، وقولهم لا تذرن آلهتكم إلى عبادة رب نوح… والكبار أكبر من الكبير، والكبار أكبر من الكبار)[104].
وربما عظم التابعون من الرعاع والعامة أسيادهم كما يعظمون رب العالمين، وربما عبدوا قادتهم من دون الله تعالى، قال تعالى يذكر هذا التلاوم المزري بين السادة والقطيع يوم القيامة حيث لم تعد تجد الملامة: (فكبكبوا فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون، قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين، وما أضلنا إلا المجرمون)[105].
ومن صور هذا التعظيم القسم بالطغاة كما فعل السحرة أمام موسى، حيث قالوا: (فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون)[106]، ونتيجة لهذا التعظيم المفتعل قد يتمادى الطاغية فيعلن الألوهية أو الربوبية كما فعل فرعون: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)[107]، وفي مشهد آخر يعلن فرعون أمام رعيته: (فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى)[108]، وقد دفعه إلى هذا الطغيان استخفافه برعيته، وعدم وجود من ينصحه أو يعارضه، قال تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين)[109].
وكذلك فعل من قبله الطاغية نمرود أمام إبراهيم عليه السلام، حيث ادعى القدرة على الخلق والإبادة، فأتاه إبراهيم بحجة جعلته يقف أمامها فاغرا مشدوها حائرا، قال تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)[110] .
ونتيجة لضغوط حزب الشيطان المتعددة على أهل الإيمان بالله ورسله، يشعر المؤمنون بالرهبة والخوف، بيد أن الوعد الإلهي يتدخل ليبدد آثار ذلك الخوف، قال تعالى: (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)[111] .
وقد يقود التخويف إلى الغصب والإكراه، وهو ما لجأ إيه كثير من أئمة الكفر، فقد يحاولون إكراه الرسل عليهم السلام للعودة إلى الكفر عنوة حفاظا على حياتهم وممتلكاتهم، قال تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)[112]، وقال أيضا: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها)[113].
وربما مارس أعداء الرسل عليهم السلام سياسة الإكراه مع العامة من أجل مصالحهم الدنيوية، فهذا فرعون يقهر الناس على تعلم السحر، قال تعالى على لسان السحرة يخاطبون فرعون: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر)[114]، بيد أن فرعون لم يقبل منهم هذا الموقف وصرخ فيهم مستنكرا ومتوعدا: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)[115]، فكل شيء في عالم الذعر والإرهاب الذي يقوده الطغاة يحتاج إلى إذن، ويحتاج إلى قرار!
رابعا: الترغيب والإغراء
الترغيب في المنكر أسلوب من أساليب الضغط النفسي، وعندما يستخدم الترغيب في الشر يكون أثره السلبي على الإنسان مماثلا لأثر الترهيب، ولأن حزب الشيطان يؤثر الدنيا ومباهجها ولذاتها فهو يصد عن سبيل الله لتحلو له الدنيا كما يريد، قال تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون)[116].
وطالما أن حزب الشيطان يصد عن سبيل الله، فهو لا يتورع عن التلاعب بالأديان كما قال تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا)[117]، لذا نجد أتباع حزب الشيطان يحرضون المؤمنين على اتباعهم، ويغرونهم بحمل ذنوبهم يوم القيامة، قال تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون)[118].
ويستخدم حزب الشيطان ما بيده من مال وثروة لصد الناس عن الهدى، قال تعالى يذكر تحاور أهل النار، وكيف أضلهم أسيادهم بأسلوب الترغيب: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، قالوا بل لم تكونوا مؤمنين، وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين)[119]، ومعنى اليمين في هذه الآية: أي من قبل الخير وناحيته، أو أنكم كنتم تأتوننا عن القهر والقوة وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسروننا عليه[120]
وربما عمد حزب الشيطان إلى الفتنة بالحيوانات الثقيلة، فصنع بهائم من ذهب ليعبدها الناس، وإنما هم يعبدون في الحقيقة بريق الذهب، وذلك كما فعل السامري الذي أضل قوم موسى حيث أخبر الله عنه: (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا)[121] ، وهذا العجل كان مصنوعا من الحلى والذهب كما قال تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار)[122]، وهكذا الكفرة يفتنون بالجانب الحيواني المادي الثقيل الصفيق الذي له بريق الذهب فيعبدوه.
وقد حاول رؤوس الكفر قريش ثني النبي عليه السلام عن دعوته مستخدمين كل الأساليب، ومن ذلك أسلوب الإغراء، بيد أن رسول الله ثبت ولم يركع لمغريات الحياة، فقد بعث إليه أشراف قومه واجتمعوا إليه عند الكعبة وقالوا له: (يا محمد! إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي لأمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك ـأو كما قالوا له ـ فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا ملكا، وإن كنت تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا ـ فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم)[123].
خامسا: رفض الحقيقة
رفض الحقيقة صورة من صور الحرب النفسية، إذ يجعل المؤمن في حيرة من هؤلاء المعاندين الذين يتعامل معهم، فهم يملكون قلوبا قاسية كأنها من حجر، لا تستيقظ من سباتها، ولا تلين من قسوتها، وترفض الحق لمجرد أنه الحق، ويتجلى رفض الحقيقة بأمور كثيرة، منها:
* الكفر بعد الإيمان، كما قال تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون)[124]، قال الزمخشري: (هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد والقرآن)[125].
* وربما حاول أعداء الرسل عليهم السلام التفرقة بين الله ورسله والإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم الآخر، وكأن القضية مجرد هوى أو مزاج، قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا)[126].
* وقد ينكرون النبوات جميعا، قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء)[127].
* وقد يعلنون الكفر بآيات الله والصد عنها، قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون، قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون)[128].
* وربما صرحوا بمعاداة الله، وأعلنوا الحرب على الله ورسوله، قال تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين)[129]، ومعنى يحادون: يعادون ويشاقون، وكبتوا: أخزوا وأهلكوا[130]. وذلك لأن الحرب مع الله خاسرة، تدل على شقاء صاحبها، وسيخسر صاحبها في الدنيا والآخرة.
* وهناك شريحة تعرف صدق النبي عليه السلام، بيد أنها جحدت الحقيقة حسدا وظلما، قال تعالى: ( قد نعلم إنه ليحزنك الذين يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)[131].
* وهناك شريحة أخرى تظاهرت بالإسلام، بيد أنها ترفض التحاكم إلى شريعة الله، قال تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا)[132] .
* ومن صور رفض الحقيقة الإعراض عنها، وعدم المبالاة بها، كما قال تعالى: الإعراض (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون)[133]، وقال أيضا: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين)[134].
* وربما هرب الكافرون من سماع الحقيقة، وأصابهم الهلع من رؤية صاحبها، فهربوا كما تهرب الحمير الوحشية من اللبؤة زوجة الأسد!، وهو هروب يدل على مدى الذعر والنفور من هذه الدعوة الجديدة، قال تعالى: (فمالهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة)[135].
ومن أسوأ صور الهروب من سماع الحقيقة صك الآذان عند سماعها، وتغطية الرؤوس عند رؤية صاحبها كما كان يصنع قوم نوح عليه السلام، قال تعالى: (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا)[136]، قال الزمخشري في شرح الآية: (واستغشوا ثيابهم: وتغطوا بها، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو تغشيهم كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله)[137]، وأية جهالة أكبر من صك الآذان، والتغطي بالثياب، إنه فعل من لا يثق بنفسه ومعتقده، فيريد أن يسد كل منافذ النور التي يمكن أن تبدد له ظلام ذلك المعتقد.
* ومن صور رفض الحقيقة تقديم تفسيرات غير صحيحة للدعوة، كدعوى أن النبي يريد الزعامة من وراء النبوة، وهذا ما ادعاه قوم نوح: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)[138].
* ومن صور رفض الحقيقة التشبث بالعقائد الفاسدة والتقليد الأعمى للسابقين ولو كانوا على ضلال!، وهو موقف تقفه الجاهلية في كل عصر، حيث تفترض في آبائها وأجدادها الصواب المطلق، وترفض الانعتاق من رق العبودية لفهم الآباء والأجداد، وتحارب أي دعوة لإعمال العقل والتفكير السليم، وهو موقف اتخذته ثمود مع نبيها صالح عليه السلام، حيث: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)[139]، وكذلك اتخذه أهل مدين، حيث: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد)[140]، وسارت عليه قريش كما قال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين)[141]، وقد استنكر القرآن هذا الاتباع الأعمى للآباء بعد نزول الهدى يقول تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)[142]، وتكرر هذا الاستنكار في أكثر من موضع كما في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)[143].
* ومن صور رفض الحقيقة التكذيب بها، فهذا هود يخاطب عادا خطابا مهذبا واضحا ناصحا فيقول: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون)[144]، فأجابوه بكل صفاقة: (قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين، إن هذا إلا خلق الأولين، وما نحن بمعذبين)[145]، وهذا النبي محمد عليه السلام يلاقي التكذيب من قومه أيضا، قال تعالى مواسيا له: (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور)[146]، وقال تعالى: (فويل يومئذ للمكذبين، الذين هم في خوض يلعبون)[147].
وسبب هذا التكذيب أن الكافرين أصلا يحبون الافتراء والكذب حتى صار ديدنهم وجبلة فيهم، فلا يتورعون عن رمي الصادقين به كما قال تعالى: (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون)[148]، والتكذيب هذا خلق أعداء الله جميعا، وقد عانى منه الأنبياء والمرسلون عليهم السلام جميعا، وربما قاد إلى الاستهزاء بهم، وبما يدعون إليه، قال تعالى بشأن قريش: (فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون)[149]، وقال أيضا: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون)[150].
* ويمتزج الإعراض بالتكذيب ليؤديان إلى الاستهزاء، قال تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون)[151].
وطالما كذب حزب الشيطان بالرسل عليهم السلام، فلا عجب بأن نجد لديه رغبة جامحة في ردة المؤمنين عن دينهم كما قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير)[152]، وربما تطورت هذه الرغبة إلى حد القتل كما سيأتي.
* والنعم التي ينعمها الله عز وجل على عباده تقود حزب الشيطان إلى الاستكبار واستخدام المال والزينة في المعصية كما قال تعالى: (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)[153]، ويتجلى الاستكبار في رفض الحقيقة المطلقة وهي التوحيد والدينونة لله رب العالمين كما قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون)[154].
ومن أشد المستكبرين وألعنهم الطاغية فرعون، يقول تعالى: (وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين)[155]. وكان الاستكبار يلفه هو وحاشيته وجنوده، كما قال تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين)[156]، وكانوا ينظرون إلى الأنبياء عليهم السلام وكأنهم يريدون نزع الزعامة منهم، فقد قالوا لموسى وهارون عليهما السلام: (قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين)[157].
ومن الأمم المستكبرة عاد كما تقدم، وقد غرتها قوتها المادية فطغت في الأرض ظلما وفسادا، قال تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون)[158]
وينهمك المستكبرون عادة في لذائذ الدنيا وشهواتها متناسين نعيم الآخرة وعذابها، يقول تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)[159]، وفي غمرة الشهوات يرفضون الحقائق الخالدة المنزلة من السماء، يقول تعالى: (ومأواكم النار ومالكم من ناصرين، ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون)[160]، وربما جادلوا في هذه الحقائق الخالدة من ألوهية وربوبية ودين ونبوة ومعاد بلا أدلة ليدحضوها ظلما وبغيا كما قال تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله)[161]، قال الزمخشري: (ثني العطف: عبارة عن الكبر والخيلاء، كتصعير الخد ولي الجيد)[162]، فاجتمع في موقفهم الجهل العلمي المتمثل بالجدل الباطل الذي لا يستند إلى حقائق، والمرض النفسي المتمثل بالخيلاء والانتفاش الفارغ الذي لا يسنده شيء.
* ومن صور رفض الحقيقة نبذ الدعاء عند المحن والشدائد، وهو نابع أساسا من الاستكبار، قال تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون)[163]، فهؤلاء السفهاء يرفضون الدعاء، لأنه في تصورهم سلاح الضعفاء، وهم مغرورن بقوتهم وأعمالهم.
* ومن صور رفض الحقيقة السخرية من أصحابها وحملتها، قال تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب)[164]، وقال تعالى: (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون، إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون)[165]، ومعنى: (أنسوكم ذكري) أي حملكم بغضهم على أن نسيتم معاملتي[166]، فهو عدوان على المخلوق ينسى المعتدي من خلاله خالقه، ويضيع في نشوة الظلم والعدوان.
* ومن أقبح أنواع السخرية الضحك عند سماع القرآن، قال تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون)[167]، وكذلك التهكم بأهل الصلاح والضحك منهم، قال تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون)[168]، والضحك من الأنبياء عليهم السلام جبلة الطغاة وعلى رأسهم الطاغية المغرور فرعون، قال تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآيتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين، فلما جاءهم بآيتنا إذا هم منها يضحكون)[169].
* ومن صور رفض الحقيقة الاستهزاء بها وبأهلها، والهزء في اللغة: مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح[170]، وقد استهزأ الكفرة بالنبي محمد عليه السلام، قال تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا)[171]، وقال تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا)[172]، كما استهزئ بكافة الرسل عليهم السلام، قال تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون)[173]، وقال أيضا: (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون)[174].
ووقع الاستهزاء على أتباع الرسل عليهم السلام أيضا، قال تعالى في صفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان خديعة ويخفون الكفر بين جوانحهم بغرض الاستهزاء: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)[175]، وأمام هذا الاستهزاء بالدين وشعائره التعبدية يحذر الله عباده المؤمنين من موالاة أئمة الكفر والركون إليهم، فيقول عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)[176].
سادسا: تأثيرات نفسية مختلفة
إضافة إلى ما ذكرناه فيما سبق، فإن هنالك العديد من التأثيرات النفسية المختلفة التي تدخل في الحرب النفسية، ويمكن إضافتها هنا، ومن ذلك:
* الطيرة: وهي التشاؤم من الرسل عليهم السلام وأتباعهم، وهو أسلوب يزرع الإحباط في نفوس أهل الإيمان، فهذا النبي صالح عليه السلام يخاطبه قومه: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون)[177] والمعنى: (أي تشاءمنا وكانوا قد قحطوا)[178]، وهؤلاء ثلاثة من الرسل عليهم السلام بعثهم الله إلى قرية من القرى يدعون أهلها، فكان جواب أهل القرية: (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم)[179]، وهؤلاء آل فرعون يتشاءمون من موسى ومن معه، قال تعالى: (وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه)[180].
* وهناك الشماتة، وهي خلق يدل على التشفي بالآخرين عندما تنزل فيهم المصائب، كما قال تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)[181]، قال الزمخشري: (الحسنة: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع، والسيئة ما كان ضد ذلك، وهذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير، ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدة)[182]، وقد تكررت الإشارة إلى الشماتة في أكثر من موضع في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولون قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون)[183].
* والزهو والفرح والمرح أمور تزرع الطمأنينة والخيلاء والتكبر في نفوس أعداء المؤمنين، فيظنون بأنفسهم أنهم على حق، قال تعالى موبخا أهل النار: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون، ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين)[184]، وتجد واحدهم يمشي ممشوق القامة، مصعر الخد، متبخترا في مشيته، كما قال تعالى: (فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى)[185]، ومعنى: (يتمطى): يتبختر، وأصله: يتمطمط، أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه[186].
وربما ظن ذلك الكافر المغرور عمله صالحا نتيجة فرحه ومرحه، يقول تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء)[187]، وليس هذا السلوك قاصرا على فرد، بل هو سلوك الكافرين جميعهم: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)[188].
* والغرور بالنعم يدفع الكافر للاستعلاء على المؤمنين، قال تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)[189]، قال الزمخشري: ([فلما نسوا ما ذكروا به]: أي من البأساء والضراء، أي تركوا الاتعاظ به فلم ينفعهم ولم يزجرهم، [فتحنا عليهم أبواب كل شيء]: من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء كما يفعل الأب المشفق بولده، يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى، طلبا لصلاحه، [حتى إذا فرحوا بما أوتوا]: من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتداب لشكر ولا تصد لتوبة واعتذار، [أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون]: واجمون متحسرون آيسون)[190].
وتجد أئمة الكفر يفتخرون بالجاه والقوة، قال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا)[191]. المقام: موضع الإقامة والمنزل، والندي: المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم، والأثاث: متاع البيت، ورئيا: هو المنظر والهيئة[192]، وربما دفعهم هذا الجاه إلى الشقاق كما قال تعالى: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق)[193]، أو إلى الظلم كما قال تعالى: (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا)[194].
كما نجدهم يغترون بالثروة والعلم بكيفية جمعها، فهذا قارون المتكبر يقول لمن وعظه: (قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون)[195]، وقصارى علم هؤلاء الجهلة مقصور على الدنيا دون سواها، قال تعالى: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)[196].
والخلاصة في هذا المبحث أن الكفرة والمنافقين هم قوم مرضى نفسيا، كما قال تعالى مؤكدا مرضهم: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)[197]، وقال أيضا مؤكدا تعطل حواسهم عن استقبال الهدى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة)[198]، ولا عجب إذا كان مريض القلب والروح يكيد للهدى بمختلف السبل والوسائل، لأن المريض لا يدرك حقائق الأشياء، وقديما قال المتنبي[199]
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
المبحث الثاني: الحــــــرب الإعلامية
الحرب الإعلامية هي جزء من الخطة العدوانية الشاملة التي يتبعها أعداء المنهج الإلهي في الأرض، وتقوم الحرب الإعلامية على عدد من الأمور، سنفصلها في هذا المبحث إن شاء الله.
أولا: انعكاس التصورات
إن أكبر الأسس التي يقوم عليها الإرهاب الإعلامي هي انعكاس المفاهيم والتصورات لأرباب هذا الإعلام، فالفساد عندهم صلاح!، والصلاح فساد!، ومن كانت هذه حاله أفسد في الأرض وهو يظن نفسه يعمرها، وأنكر على من يعمر الأرض عمرانا صحيحا زاعما بأنه يفسدها!، قال تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)[200].
وطالما أن هنالك انعكاسا بالمفاهيم، فلا غرابة في أن يطلق أهل الكفر والنفاق على أهل الإيمان الألفاظ النابية مثل لفظ السفهاء، قال تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألآ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون)[201]، ولا غرابة أيضا في الترويج للملل والنحل الباطلة على أنها هي الطريق القويم والصراط المستقيم، قال تعالى يذكر قول هؤلاء المروجين للملل الباطلة: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)[202].
وأصحاب الملل الفاسدة، والتصورات المعكوسة يحملون الكراهية للحق وأهله، ومن هذا المنطلق تبدأ حملتهم الإعلامية ضد الهدى، قال تعالى: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم، ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)[203].
ثانيا: ترويج التهم والأباطيل
ترويج التهم والأباطيل هو ديدن حزب الشيطان، فليس لدى أهله حجة تقابل حجة، ولا برهان يقابل برهانا، ولذلك يلجؤون إلى ترويج التهم الباطلة، والألفاظ النابية، لصرف الناس عن دعوة الأنبياء عليهم السلام، ومن هذه التهم:
* السحر، وهو في الأصل من صناعة الشياطين كما قال تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)[204]، وقد يعتمد الطغاة على السحرة في الترويج لفعالهم الخبيثة، ولكسر قلوب الناس، قال تعالى في وصف السحرة الذين اعتمد عليهم فرعون: (واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم)[205]، وإذا كان السحر من صناعة حزب الشيطان أساسا، فمن المستهجن أن تطلق أبواق الكفر الدعايات المغرضة حول الأنبياء عليهم السلام وتصفهم بأنهم سحرة، قال تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون)[206].
وإذا كان الاتهام بالسحر عاما للأنبياء عليهم السلام، فقد قص علينا القرآن تفصيلا لهذا الاتهام عند بعض الأنبياء عليهم السلام، فقد اتهم بالسحر موسى عليه السلام، وسجلت هذا الاتهام آيات عدة، منها قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)[207]، وقوله: (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم)[208]، كما اتهم بالسحر أخاه هارون أيضا، قال تعالى: (قالوا إن هذا لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى)[209]، والعجب أن هذه الفرية التي ألصقت بموسى وهارون قد ألصقت أيضا بمحمد عليه السلام!، وسجلت هذا الاتهام آيات عدة، منها قوله تعالى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين)[210]، وقوله: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب)[211].
ولكن كيف يكون الرجل ساحرا عظيما ومسحورا في آن واحد؟ هذا هو التناقض الذي لم تأبه به أبواق الدعاية الفرعونية حين وصفت موسى بأنه مسحور، قال تعالى: (فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا)[212]، ومثل هذا الخلط بين الساحر والمسحور وقع به كفار قريش حين زعم بعضهم أن محمدا مسحور، قال تعالى: (نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا)[213]، ويلاحظ هنا تناقض المشركين في وصف الرسول مرة بساحر وأخرى بمسحور! ومثل هذا التناقض كثيرا ما تقع به أجهزة الدجل الإعلامي في حزب الشيطان.
* ومن التهم التي يفيض بها قاموس حزب الشيطان وصف الأنبياء والرسل عليهم السلام بالجنون، وهذا الاتهام الظالم لم يسلم منه رسول ولا نبي من الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون)[214].
وإذا كان الاتهام بالجنون عاما للأنبياء عليهم السلام، فقد قص علينا القرآن تفصيلا لهذا الاتهام عند بعض الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى عن قوم نوح عليه السلام: (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر)[215]، وتكرر ذلك منهم، فقال تعالى عنهم في موضع آخر: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)[216]، واتهم موسى عليه السلام أيضا بالجنون، قال تعالى على لسان فرعون: (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون)[217]، وقال أيضا: (فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون)[218]، وقد اتهم النبي محمد عليه السلام بهذا الاتهام، قال تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون)[219]، وقال يحكي مقولة الكفار عن نبيه محمد عليه السلام: (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)[220].
وقد يصاحب الاتهام بالجنون نظرات حاقدة تطفح غيظا وعداوة، قال تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون)[221] قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (يعني أنهم من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك، من قولهم: نظر إلي نظرا يكاد يصرعني، ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله)[222].
* ومن التهم التي يفيض بها قاموس حزب الشيطان وصف النبي عليه السلام بأنه شاعر، قال تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر)[223]، وقال أيضا: (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون)[224]، وقال عز من قائل: (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)[225]، وكيف يكون المرء شاعرا ومجنونا في آن واحد؟ ما أبعد هذا عن محمد صلى الله عليه وسلم!.
* ومن التهم التي يفيض بها قاموس حزب الشيطان وصف النبي بأنه كاهن، قال تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون)[226]، وقال أيضا ينفي الكهانة عن نبيه عليه السلام: (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون)[227].
* ولا يقتصر حزب الشيطان على إطلاق الأوصاف النابية على الأنبياء عليهم السلام، بل تتسع الدائرة لتشمل أتباعهم، فهؤلاء قوم نوح يقولون له في تبرير عدم إيمانهم: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)[228]، والرذالة: الخسة والدناءة، قال الزمخشري: (وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية)[229]، ويفيض الزمخشري في تفصيل أسباب هذا الموقف السلبي من المؤمنين، فيقول: (وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل: كانوا من أهل الصناعات الدنية كالحياكة والحجامة، والصناعة لا تزري بالديانة، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الأنبياء كذلك حتى صارت من سماتهم وأماراتهم، ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قال: ضعفاء الناس وأراذلهم. قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك)[230]، فالفقر والتخلف المهني أو الصناعي لا يعيب الإنسان عند بداية إيمانه، ولكن لا يعني هذا بأن الدين يحبذ بأن يبقى المؤمن فقيرا ضعيفا لا حيلة له ولا سعي، فالمؤمن مطالب بأن يكون في مقام القدوة وصاحب المبادرة حيثما كان، وذلك لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، واليد العليا خير من اليد السفلى.
ثالثا: اعتماد أساليب متعددة للتضليل الإعلامي
ومن هذه الأساليب:
* تشويه الحقائق، واتهام حملتها الصادقين من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام بالكذب والضلال، وهو ديدن الكافرين من الأمم السابقة مع الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال تعالى في شأن قوم نوح عليه السلام: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين)[231]، وقال أيضا في شأن قوم هود عليه السلام: (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون، قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين)[232]، وقال تعالى في شأن قوم صالح عليه السلام: (كذبت ثمود بالنذر، فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر، أألقي عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر)[233]، ومعنى أشر: بطر متكبر، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك[234]، وقال تعالى في شأن كفار قريش: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون)[235].
* ومن أساليب التضليل الإعلامي تشويه الخطاب الرباني، وذلك من خلال لي الألسنة في التلاوة، كما قال تعالى: (وإن منهم لفريقا يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)[236]، قال الزمخشري: (يلون: يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف)[237]، ويدخل في التشويه اللغو في القرآن، قال تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)[238]، والمعنى: (أي إذا تلي لا تسمعوا له كما قال مجاهد، [والغوا فيه] يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تفعله)[239].
* ومن أساليب التضليل الإعلامي إبراز الكفر وكأنه الحقيقة المسلمة في هذا الكون، والإسراع إليه، كما هو شأن بعض العتاة من الكفرة، قال تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا)[240].
* ومن أساليب التضليل الإعلامي الثرثرة الإعلامية والاجترار الطويل للكلام، والمتمثل بالجدل بالباطل، ويدخل فيه الجدال بغير علم، قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)[241]، وكثيرا ما يكون هذا الجدل بوحي من الشياطين، قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)[242]، وتمكن الكافرين في الأرض هو الباعث على هذا الجدل، قال تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد)[243]، وربما جادل أولئك الكفرة بما يضربه الله من أمثال، قال تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)[244].
ومن العجب أن الكفرة الذين تجذر فيهم الجدل، يتهمون أنبياءهم عليهم السلام به، قال تعالى عن قوم نوح: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)[245]
* ومن أساليب التضليل الإعلامي التشكيك بالحقائق والمسلمات، فقد شكك الكافرون بالقرآن، فادعوا بأنه حديث مفترى، قال تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم)[246]، ومرة أخرى ادعوا بأنه إفك قديم، قال تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم)[247]. وكان أبو جهل أحد حاملي راية التشكيك بالدعوة الجديدة، فقد فكان (إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفلين رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرا، قال له: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به)[248].
ومن التشكيك المبتذل، ما أثارته قريش حول جلوس الرسول صلى الله عليه وسلم مع رجل نصراني بمكة، مما أغرى قريشا بدعوى منكرة، وهي أن النصراني يعلم محمدا، متجاهلين أن الكتاب الذي أنزل على محمد إنما هو بلسان عربي مبين، وهو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تحداهم بها، بينما كان ذلك النصراني لا يحسن العربية، مما يبطل حجتهم ويسقط دعواهم، قال ابن إسحاق: (وكان رسول الله فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لبني الحضرمي، فكانوا يقولون : والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني غلام بني الحضرمي، فأنزل الله في ذلك قوله:[ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين][249])[250].
* ومن أساليب التضليل الإعلامي تزويق الخطاب الإعلامي، بحيث يبدو الكلام الجميل المنمق وكأنه يحمل الحقائق في طياته، وما هو إلا كجلد الأفعى الذي يغري منظره، فإذا أعجبت به ولمسته، قتلتك الأفعى بزعافها، قال تعالى يصف تعاون حزب الشيطان في الصناعة الإعلامية المنمقة لصرف الناس عن الدعوة: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)[251].
ومن الكلام المنمق: الشعر، وهو سلاح يصلح للخير والشر، وكثيرا ما يلجأ إليه الكفر لبث الضلال من خلاله ولا سيما في فجر الدعوة الإسلامية، حيث لم يكن للنبي عليه السلام شعراء يذودون عنه، ثم تغير الأمر بالمدينة بعد وجود ثلاثة من الشعراء وهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة في صف النبي عليه السلام، مما سمح بالاستثناء للحكم العام بشأن ضلال الشعراء،قال تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا)[252]، ويدخل في حكم الشعر الغناء وبعض الفنون الجميلة في حالة استخدامها لاستصراخ الغرائز، وتهييج الشهوات، قال تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين)[253]، قال الزمخشري في تفسير الآية: (لهو الحديث نحو السمر بالأساطير والحاديث التي لا أصل لها والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام… ونحو الغناء وتعلم الموسيقا)[254].
* ومن أساليب التضليل الإعلامي استخدام لغة مزدوجة في الحياة، بمعنى أن يفصح الإنسان من خلال لسانه عن شيء جميل، بيد أن قلبه سلوكه وعمله بخلاف ذلك، مما يجعله يأسر الآخرين بالشعارت الجميلة التي يرفعها، وهو في حقيقته مارق بطال، يستخدم هذه الشعارات مطية ليقود الناس ويحقق مصالحه من خلالها، ولا يقبل توجيها ولا نصحا بعد ذلك، قال تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد)[255]، وهكذا كان المنافقون أيضا، أصحاب لغة مزدوجة في الحياة، قال تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون)[256].
* ومن أساليب التضليل الإعلامي الاعتماد على الحلف الكاذب والأيمان الخادعة في لغة حزب الضلال، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين)[257]، والإكثار من القسم سمة الدجالين الذين يريدون ترويج ضلالهم بالحلف، والشيطان عمدة حزبه في هذا الأمر، فقد أقسم لآدم كاذبا، وكان من نتيجة قسمه ما كان عقب ذلك من شقاء لبني آدم، قال تعالى: (وقاسمهما إني لكما من الناصحين)[258].
* ومن أساليب التضليل الإعلامي التبييت والتآمر الخفي، حيث يعمد المخططون على وضع برامجهم الفاسدة ومؤامراتهم اللفظية عبر الظلام، ومن وراء الكواليس كما يقال، قال تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا)[259]، ويدخل في التآمر: النجوى بالإثم، وتحية النبي بغير التحية الطيبة المعهودة من عند الله تعالى، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير)[260].
ويدخل في التبييت والتآمر الوسوسة، وقد يكون صاحبها من الجن أو الإنس، وقد تتجاوز حدود الأمر بالمعاصي لتكون أداة لتنفيذ الخطط والجرائم ضد الدعوة، قال تعالى مبينا خطورة الوسوسة وضرورة الالتجاء إليه للخلاص من ضررها: (قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس)[261].
رابعا: حرب إعلامية شاملة
عندما تبدأ شعلة النور تتوهج، ويصحو الناس من غفلتهم، ويتواردون على منهل الدين الحق، وتخشى أئمة الكفر على مصالحها، فإنها تقود حربا إعلامية شاملة ضد الهدى، وتتمثل لغة الحرب عندها بالوعيد، فهذا شعيب يخاطب قومه منددا بقعودهم في طريق الهدى وصدهم للناس عن الإيمان بلغة الوعيد، فيقول: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ أنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين)[262].
ولا تقتصر الحرب الإعلامية على الكافرين بل ويقودها المنافقون أيضا، وهم طابو خامس يعيش في جسم المسلمين، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)[263].
وتتمثل الحرب الإعلامية في صور مهينة من إسكات الرسل عليهم السلام ورفض الاستماع إليهم، فلا حوار ولا رأي آخر ولا منطق ولا عدالة عند حزب الشيطان، قال تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرتم بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب)[264]، قال الزمخشري في تفسير الآية: (فردوا أيديهم في أفواههم: فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل، كقوله: [عضوا عليكم الأنامل من الغيظ] أو ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه، أو أشاروا بأيديهم إلى أسنتهم وما نطقت من قولهم: [إنا كفرنا بما أرسلتم به] أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا من التصديق، ألا ترى إلى قوله: [فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرتم بما أرسلتم به] وهذا قول قوي، أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء: اطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت، أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون)[265].
وتمتد الحرب الإعلامية لتطال بنارها اتهام المؤمنين بأسوأ الألفاظ، فهذا هو الإعلام الفرعوني يتهم المؤمنين بأنهم شرذمة! وما أحسنها من شرذمة!، يقول تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حذرون)[266]، ومعنى الشرذمة: الطائفة القليلة، وقوله: ([حذرون]: أراد أنهم أقوياء وأشداء، وقيل: مدججون في السلاح)[267]، فالقيادة الفرعونية الضالة على أهبة الاستعداد لمقاومة موسى ومن معه.
وتتواصل التهمة الفرعونية للمؤمنين لتشمل تهمة التآمر وقلب النظام العام، مما يبرر للرأي العام قتل المؤمنين وإبادتهم، قال تعالى: (قالوا إن هذا لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم ائتو صفا وقد أفلح اليوم من استعلى)[268]، وبالفعل فإن فرعون حشد كل إمكاناته للنزال ضد موسى عليه السلام، فهيأ السحرة، وبث الدعاية في المدائن، وتم تحديد الموعد والمكان والوقت، واجتمع الناس لذلك، وهو ما عبر عنه الله تعالى في قوله: (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى)[269].
المبحث الثالث الضغوط الاقتصادية
لا تقل الضغوط الاقتصادية عن الحربين النفسية والإعلامية خطورة، فحين لا تجدي الحرب النفسية تبدأ الحرب الإعلامية، وحين لا تجدي الحرب الإعلامية تبدأ الضغوط الاقتصادية، وربما اجتمعت الحروب كلها في آن واحد معا كما في غزوة الأحزاب، وتتمثل الضغوط الاقتصادية في أمور منها:
أولا: تبرير الفقر والتردي الاقتصادي
يرى قادة حزب الشيطان أن الفقر قضاء وقدر، وذلك من أجل تبرير اكتنازهم للمال من جهة، والتردي الاقتصادي من جهة أخرى والذي يعشه عامة الناس، قال تعالى: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين)[270].
ودأب هؤلاء الطغاة اكتناز المال الذي يحسبونه وسيلة السعادة والخلود، كما قال تعالى: (ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده، يحسب أن ماله أخلده)[271]، وهم يحبسون هذا المال عن مستحقيه من اليتامى والمساكين، قال تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين)[272] ، ويرون أن تملكهم للمال وسيطرتهم عليهم سيجعل المسلمين ينفضون عن نبيهم عليه السلام، فهم يتعاملون مع الإنسان كما لو أنه جسد فقط بلا ضمير ولا روح!، ولا يبحث إلا عن لقمة العيش!، قال تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون)[273].
وطالما أنهم أصحاب المال والسيطرة على السوق الاقتصادية فلا غرابة من أن يسخروا من ضعف إمكانات المسلمين المادية، قال تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم)[274].
ثانيا: الانفاق ضد الحق
الغالب على أئمة الكفر الترف، فهم كانزون مكتنزون، قال تعالى في صفة أهل النار: (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين)[275]، وعندما تقرر أئمة الكفر الإنفاق، فسيكون ليس للأرامل والأيتام، وإنما إنفاق ضد الهدى!، قال تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون)[276].
وإنفاق المال ضد الدعوة إلى الله قديم، فهذا فرعون يعد السحرة بالأموال الطائلة والزلفى عنده إذا غلبوا موسى، قال تعالى: (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين)[277]. وهكذا نجد أن المال العام يحرم منه أهله ومستحقوه، ويكون موجها لحماية الأمن الفرعوني تحت شعار حماية مصلحة الأمة.
وقد يكون الإنفاق بقصد الرياء والشهرة، كما قال تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا)[278]، وعلى الحالتين فالمال لا ينفق من أجل مسح الدموع والأحزان، وإنما ينفق ضد من جاءوا لمسح تلك الدموع والأحزان عن جبين الإنسانية من الرسل والأنبياء عليهم السلام تحت شعار حماية الأمة ومصالحها الحيوية.
ثالثا: تبرير التنافس الحر المجرد من الأخلاق
الأصل في العمليات الاقتصادية أن تكون محكومة بقواعد الأخلاق، وأن يكون المال وسيلة لبناء العلاقات الاجتماعية وليس لتفكيكها، بيد أن النهم لجمع المال بأي أسلوب كان يجعل حزب الشيطان يحل جمعه بأية طريقة كانت!، فمن ذلك الربا الذي يزيد الفقير فقرا، والغني غنى، وقد عمد إليه اليهود منذ القدم، وسعوا إلى جمع المال من كل السبل المحرمة، وقد كان هذا كان سببا في تحريم الطيبات التي أحلت لهم، قال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما)[279].
كما سجل القرآن بعض الانحرافات الاقتصادية التي وقعت فيها الأمم الأخرى، ومن ذلك:
* بخس الحقوق في الكيل والميزان ونحو ذلك، قال تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين)[280].
* ومن ذلك اغتصاب حقوق الآخرين ظلما وعدوانا، قال تعالى: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا)[281]، ومن الظلم تلاعب بعض رجال الدين بأوامر دينهم بغية الاكتناز للمال، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)[282].
رابعا: الحصار الاقتصادي
عندما لا يجدي جمع المال واكتنازه بأيدي حزب الشيطان في صرف الناس عن الدعوة، أو تسخيره في الحرب ضد الدعوة لصرف الناس عنها، يأتي دور الحصار والمقاطعة الاقتصادية، وهو عمل لم يلجأ إليه حزب الشيطان إلا لصرف الناس عن هدي الأنبياء عليهم السلام، وفلسفة الحصار لا تتفق والدين، فمعلوم بأن الدين يؤيد الإنفاق في ساعات الشدة وأيام الجوع حرصا على الإنسانية ورحمة بها، قال تعالى: (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ماالعقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة)[283]، بيد أن أعداء الرسل عليهم السلام هم الذين يقومون بصنع الشدائد وتجويع الناس، وقد حاصرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يلوذ به في سنة سبع للبعثة، (قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا آمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمرا قد أسلم فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم)[284].
وفي خضم هذا الحصار تبرز عنجهية أبي جهل وفحولته الجاهلية، (وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا، يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاء أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد، فقال: مالك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده، بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتي بطعامها؟ اخل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه)[285]. إنها الجاهلية التي لا تقيم وزنا لكل القيم الإنسانية، ولا تحقق ذاتها إلا بإلحاق الأذى بالآخرين.
المبحث الرابع ترويج جرائم الشرف والانحرافات الجنسية يلجأ حزب الشيطان إلى المراهنة على إنسانية الإنسان، وذلك بإثارة غرائزه الحيوانية، وتهييجها من أجل قطع الطريق على الرسل عليهم السلام الذين يريدون تهذيب الغرائز الحيوانية، وإيقاظ الروح الإنسانية، وجعلها تنطلق حرة مرفرفة نحو عالم الملكوت، ويعتمد حزب الشيطان الخطوات التالية: أولا: التجارة بالشهوات وإشاعتها
حب الشهوات فطرة في قلوب الناس، قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عند حسن المئاب)[286] ، بيد أن هذه المحبة تحتاج إلى التوجيه والتهذيب، وليس إلى الانفلات وراء الشهوات، ولكن حزب الشيطان يستغل حب الناس لهذه الشهوات، من أجل نشر الفساد الخلقي والاجتماعي، ونشر السعار الجنسي الذي يحطم القيم والأخلاق، قال تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)[287]، ونتيجة لهذا لفساد المتولد من الانفلات وراء الشهوات الجامحة، تشيع الفواحش بين الناس، وهو ما تخطط له قوى البغي والعدوان التي تستخدم مختلف الوسائل لإشاعة الفاحشة، قال تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم)[288].
ثانيا: رمي المحصنات
وفي خطوة أخرى تعقب نشر الفواحش في المجتمعات الإنسانية، يبدأ حزب الشيطان في تدنيس سمعة المؤمنين الأطهار الذين لم ينزلقوا في مستنقعات الرذيلة، قال تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)[289].
وقد اتهم بالفاحشة بعض من صفوة الله في خلقه، مثل السيدة مريم التي اتهمها اليهود بها، قال تعالى: (وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم)[290]، وقد صور القرآن سوء ظنهم واستعجالهم بالاتهام لمريم بالخطيئة، قال تعالى: (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا)[291]. ورغم تبرئة الله لمريم فقد بقي اليهود يتهمونها بالفاحشة إلى يومنا هذا.
كما اتهمت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أيضا ظلما وعدوانا، وأنزل الله في ذلك آيات تتلى يبرئ فيها عائشة، قال تعالى: (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم)[292]. وهكذا حين لا يجد أعداء الهدى حجة يواجهون بها الرسل عليهم السلام، يلجأون إلى تلويث سمعة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام بقذف بعض زوجاتهم، أو من يلوذ بهم، بغية صرف الناس عنهم.
ثالثا: محاولة الاغتصاب الجنسي
ومن أسوأ صور العدوان والحرب على الأنبياء عليهم السلام أن يزج بأحدهم بالسجن لأنه لم يقبل الخيانة، ومحاولة الاغتصاب الجنسي لمن يلوذ بهم، وفي القرآن خبرين عن هذا الأمر:
الأول: يتعلق بقصة امرأة العزيز التي تحاول أن ترغم فتاها يوسف عليه السلام على الفاحشة معها وهو يرفض، فتعلن بكل صفاقة: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين، قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)[293].
والثاني: يتعلق بقوم لوط، الذين بلغ من صفاقتهم أنهم حاولوا اغتصاب ضيوف نبيهم، وهو ما يرسمه المشهد التالي من الآيات القرآنية: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب، وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد، قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد)[294]، ولم يكن طلبهم للضيوف استجداء، وإنما كان عن طريق القهر والإجبار كما تصرح به الآيات التالية: (وجاء أهل المدينة يستبشرون، قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، واتقوا الله ولا تخزون، قالوا أولم ننهك عن العالمين)[295]، والشاهد في الآية الأخيرة، وفي تفسيرها يقول الزمخشري: (عن العالمين: عن أن تجير منهم أحدا، أو تدفع عنهم، أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يعترضون لكل أحد، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرض له)[296]، وهكذا لم يتورع أولئك الفجرة من حزب الشيطان عن إعلان رغبتهم في العدوان الجنسي على ضيوف نبيهم، وهو إجرام يستحق عقوبة السماء، حيث جعل الله قريتهم عاليها سافلها، وإنه لعقاب لم نعهد أحدا عوقب به غيرهم.
المبحث الخامس
التصفية المادية الشاملة للوجود الديني
تشمل التصفية الشاملة إنهاء الوجود الفعلي لحزب الله من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وأتباعهم على المستوى الفردي والجماعي، وتدمير بيوت العبادة، وفيما يلي تفصيل ذلك: أولا: هدم دور العبادة
ويبدأ الطريق إلى ذلك بالصد عن دور العبادة وفي مقدمتها المسجد الحرام الذي جعل الله فيه أول بيت وضع للناس، وهذا هدم معنوي لتلك الدور لتكون مقفرة من الناس، قال تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام)[297].
يلي ذلك السعي في هدم المساجد، وطرد مرتاديها منها، قال تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)[298].
وربما حول أئمة الكفر هدم أفضلها وأعظمها وهو المسجد الحرام الذي فيه الكعبة المشرفة، كما في محاولة أبرهة الحبشي الذي أهلكه الله تعالى قبل البعثة، قال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول)[299]
وقد تقتضي مصلحة المفسدين بناء المساجد للدعاية والأذى، لتكون شركا يصطادون فيه الأنبياء عليهم السلام ويقتلونهم، كما هو حال مسجد ضرار الذي بناه المنافقون لاغتيال النبي محمد عليهم السلام عند صلاته فيه، وفيه يقول تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون)[300].
ثانيا: التصفية الجسدية
التصفية الجسدية تبدأ من التعذيب، وتنتهي بالقتل والإبادة، والتعذيب مهما تكن أسبابه أمر معيب ابتليت به البشرية، روى هشام بن عروة، عن أبيه، أن هشام بن حكيم مر بالشام على أناس من الأنباط ـ فلاحة الأعاجم ـ وقد أقيموا في الشمس، وصب على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟. قيل: يعذبون في الخراج. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)[301].
وإذا كانت الشرائع السماوية ترفض تعذيب الناس، فإن شرائع الطاغوت الوضعية تقره وتبرره، ولا سيما بحق المؤمنين والصالحين، وأول من لقي التعذيب في سبيل الله، هم الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، فهذه أم جميل امرأة أبي لهب تؤذي رسول الله عليه السلام، فينزل فيها قوله تعالى: (وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد)[302]، قال ابن عباس والضحاك: (كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم)[303]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحضر صور الأنبياء من قبله وما لاقوه من الأذى فيخفف ذلك عنه، روى ابن مسعود، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)[304].
ويتعدى الإيذاء الأنبياء عليهم السلام ليشمل أتباعهم، فهم يعذبون إلى حد ينطقون فيه بالكفر مرغمين، وقد نزل في ذلك قوله تعالى: (من كفر بالله بعد إيمانه إلآ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)[305]، نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية[306]، وقد لاقى المسلمون في عهد النبي من العنت والمشقة ما لم يلقه غيرهم، ويصف ابن عباس ما كان يلاقيه المسلمون من عذاب قريش فيقول:(والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم، فيقولون له: أهذا جعل الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده)[307].
* يلي التعذيب: السجن، وهو تعذيب نفسي وروحي للإنسان، وقد ابتلي به الأخيار والصالحون فأعانهم الله، فهذا يوسف يحبس بتهمة هو بريء منها، قال تعالى: (فلبث في السجن بضع سنين)[308]، وهذا فرعون يتوعد موسى عليه السلام، فيقول له: (قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين)[309]. هكذا القضية إذا إجبار على الشرك، أو عقوبة في السجن، ولا منزلة ثالثة بينهما!
* عقب السجن يأتي القتل، وهو أسلوب يلجأ إليه أعداء الرسل والأنبياء عليهم السلام للتخلص من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، قال تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)[310]، ومعنى ليثبتوك: ليسجنوك، أو يوثقوك، أو يثخنوك بالضرب والجرح[311]، فقد حاول أعداء النبوة قتل النبي محمد عليه السلام، ولكنهم فشلوا، وقد تعرض النبي عليه السلام لعدد من محاولات القتل في المعارك وغيرها، فنجاه الله من ذلك، وتكررت المحاولة لقتله عليه السلام مرة أخرى بواسطة السم، وقدمت امرأة يهودية شاة مسمومة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فلما سألها عن سبب ذلك، قالت: إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذي أكلوا من الشاة[312].
وقد سرى السم في جسده الشريف، وبقي أثره حتى وفاته عليه الصلاة والسلام، فكان في سلك الشهداء، وجمع الله له أجر النبوة والشهادة معا، (قال الأزهري: قال جابر: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين، حتى كان وجعه الذي توفي فيه، فقال: [ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري] وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا)[313]، ونقل ابن إسحاق عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قوله في التعقيب على محاولة المرأة اليهودية سم النبي عليه السلام يوم خيبر: (فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا، مع ما أكرمه الله من النبوة)[314].
وأول من قتل من أتباع النبي محمد عليه السلام كانت سمية أم عمار بن ياسر، أول شهيدة في الإسلام، وقتلها أبو جهل لعنه الله[315].
وقد تعرض الأنبياء السابقون عليهم السلام لمحاولات القتل، فهذا فرعون يريد موافقة من حوله على قتل موسى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه)[316]، ويأتي رجل ناصح ليقول لموسى: (قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك)[317]، ولم تكن فكرة القتل مقصورة على قتل موسى عليه السلام، بل تجاوزت إلى قتل أبناء المؤمنين معه، من أجل وضع الألم والحرقة في نفوس المؤمنين من الآباء، قال تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب، فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال)[318].
ويبدو أن عقدة القتل انتقلت من الفراعنة إلى اليهود، فإذا بهم بعد أن مكن الله لهم في الأرض يقتلون الأنبياء عليهم السلام ظلما وعدوانا، حتى صار ذلك جبلة فيهم، وطبعا لهم، وإلى هذا تشير آيات كثيرة من القرآن الكريم، فهم ينسبون إلى أنفسهم قتل المسيح الذي نجاه الله منهم، قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)[319]، وهم يقتلون كل نبي لا يوافق هواهم، قال تعالى: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون)[320]، ودافعهم للقتل هذا العصيان الذي تمرغوا فيه، قال تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)[321].
وقد اشتهر اليهود بقتل الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم، قال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم)[322]، وهذه الآية نزلت فيهم، وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي عبيدة بن الجراح: (يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عز وجل)[323].
وهذا التاريخ الدموي لبني إسرائيل يجعلهم يستكبرون عن اتباع النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كما قال الله عنهم: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين)[324]
ولا يقتصر قتل المشركين للمؤمنين وحدهم، بل يتجاوزهم إلى قتل الطفولة البريئة، قال تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)[325]، هذا في بني إسرائيل، وأما العرب فحسبك بأن بعضهم كانوا يئدون بناتهم، وهو جرم عظيم يدل على قلوب سوداء!، قال تعالى: (وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت)[326]، وربما قتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد نهاهم الله عن ذلك، قال تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم)[327]
* ومن عقوبة القتل إلى عقوبة الرجم، قال الراغب: (الرِّجام: الحجارة، والرجم: الرمي بالرجام، يقال رجم فهو مرجوم)[328] وهو صورة مهينة من صور القتل، حيث يرمى المقتول بالحجارة إلى حد الموت، وقد هدت أمم كثيرة أنبياءها بهذه الميتة الشنيعة، فهذا نوح عليه السلام يقول له قومه متوعدين: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)[329]، وهذا إبراهيم عليه السلام يتوعده أبوه بالرجم، فيقول له: (قال أراغب أنت عن آلهتي يإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك)[330]، وقد فسر الرجم هنا بالشتم والذم وهو قول ابن عباس، أو الرمي بالحجارة، أو الطرد[331]، وهذا شعيب عليه السلام يمن عليه قومه بعدم رجمه، وذلك بسبب وجود أتباع له لا تكريما لمقامه، فيقولون بكل صفاقة: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)[332]، وهذا موسى عليه السلام يستعيذ بالله من الرجم وهو يواجه فرعون وملأه، فيقول: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون)[333]، وهؤلاء الرسل الذين أرسلهم الله إلى إحدى القرى يتهددهم أهل القرية بالرجم، قال تعالى: (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم)[334].
ولا يقتصر التهديد بالرجم على الأنبياء عليهم السلام، بل قد يعاقب به المؤمنون أيضا، ولذلك كان الخوف من الرجم يدب في كيان أهل الكهف، وهم فتية من المؤمنين الصالحين، حيث قالوا بعد نوم طويل لم ينسهم طغيان قومهم: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم)[335].
* ومن أساليب التصفية الجسدية: الحرق، وقد ابتلي به إبراهيم عليه السلام، حين قرر قومه بأن يعاقبوه عقوبة لا يعاقب بمثلها إلا الله رب العالمين، قال تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم)[336]، وهناك آية أخرى تبين تردد قومه بين أن يقتلوه أو يحرقوه، بيد أنهم اختاروا الأشد والأنكى وهو الحرق، قال تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار)[337].
* ومن أساليب التصفية الجسدية: الصلب، وهو تعليق الإنسان للقتل، قيل هو شد صلبه على خشب، وقيل إنما هو من صلب الودك[338]، وقد توعد به فرعون السحرة حين أعلنوا إيمانهم بالله واتباعهم لموسى وهارون عليهما السلام، يقول تعالى: (فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى، قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا)[339].
* ومن أساليب التصفية الجسدية: إخراج الداعية من وطنه، وقد توعدت كثير من الأمم أنبياءها بالنفي والإخراج الإجباري، وهو عقاب عام لكل الرسل عليهم السلام من أقوامهم كما قال تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)[340].
وقد جاءت حكاية التوعد بالإخراج مفصلة عن عدد من الأقوام، فمنهم قوم لوط عليه السلام، وكانوا يتعاطون الفواحش القبيحة، ويرفضون مواطنة من لم يتعاطاها معهم!، قال تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)[341]، وتصور آية أخرى بلادة قومه وحسهم الغليظ حين قرروا إخراج لوط وأهله بسبب طهارتهم!، قال تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)[342].
ومنهم قوم شعيب عليه السلام، قال تعالى: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها)[343].
وكذلك سعى كفار قريش لإخراج النبي محمد عليه السلام، قال تعالى: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها)[344]، ومعنى الاستفزاز: الازعاج، أي كاد أهل مكة ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم لتخرج من أرض مكة[345]، وقد تم للمشركين ما أرادوا فأخرجوا الرسول عليه السلام من أرض مكة، وأخرجوا معه صحابته الكرام، وجريرتهم جميعا الإيمان بالله وحده!، وفي هذا قال تعالى: (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم)[346]، وضيقت قريش على من بقي من المؤمنين المستضعفين بمكة، حتى صارت أكفهم ترتفع إلى الله، وألسنتهم تلهج بهذا الدعاء: (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها)[347].
والإخراج من الأوطان جريمة كبرى، قال تعالى: (وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)[348]، قال الزمخشري: (الفتنة: الإخراج أو الشرك …[ولا يزالون يقاتلونكم]: إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها، حتى يردوهم عن دينهم، وحتى معناها التعليل، كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أي يقاتلونكم كي يردوكم)[349]، ومثل هذه الجريمة ربما كانت أسوأ من القتل، قال تعالى: (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل)[350]، قال الزمخشري: (أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل، وقيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت)[351].
وحتى لو هاجر المؤمن وترك بلاده لحزب الشيطان، فإن حزب الشيطان سيتعقبه في هجرته، ويطلب استرداده من غربته، ليوقع به الهوان والأذى!، وهو ما حصل لمن هاجروا إلى الحبشة، (قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثم بعثوهما إليه فيهم)[352]، وهكذا تصبح البلاد وكأنها بلادهم وحدهم، ويصبح جند الله في العراء!
* ومن الجرائم التي يرتكبها حزب الشيطان: تهديد الأمن العام كقطع الطرق مثلا، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا)[353]، وقطع الطريق هو من عمل قوم لوط، قال تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين)[354]، قال الزمخشري: (قطع السبيل: عمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال)[355].
وبعد: فهذه هي طريق الأنبياء والرسل عليهم السلام، شوك وابتلاء، ومحن وشدائد، لا يرتاح المؤمن منها إلا عندما يلقى ربه، قال تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)[356]، قال الزمخشري في تفسير الآية: (والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب، وفي الأموال: الإنفاق في سبيل الخير وما يقع عليها من الآفات، وما يسمعون من أهل الكتاب المطاعن في الدين الحنيف، وصد من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف في هجائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريض المشركين، ومن فنحاص، ومن بني قريظة والنضير)[357].
ثالثا: الإبادة الجماعية
عندما يعجز حزب الشيطان عن تصفية الرسل والأنبياء عليهم السلام، وعندما تنتشر الدعوة انتشار الضوء في السماء، يلجأ حزب الشيطان إلى التصفية الجسدية الشاملة، أو بتعبيرنا العصري: (المحرقة).
فقد يتخذون قرارا جماعيا بالقتل، كما هو الحال مع موسى عليه السلام، قال تعالى: (وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين)[358]، وقد يسعون إلى التفرقة بين الطوائف ليقتل بعضها بعضا، كما صنع فرعون، قال تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين)[359]، ومما جاء في معنى الآية أنه جعلهم (فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة وهم بنو إسرائيل والقبط، والطائفة المستضعفة: بنو إسرائيل)[360]، وقد يبطشون أو يضربون بيد من حديد!، قال تعالى في وصف الظلم الفرعوني: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون)[361]، وربما ألبسوا ظلمهم مظهر الوطنية والحرص على الناس، وذلك كما حاول فرعون، قال تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)[362].
وربما عمدوا إلى إشعال الحروب والتضحية بالأبرياء كما هو دأب اليهود، قال تعالى: (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين)[363].
وقد لا يعتبر قادة حزب الشيطان بالمعجزات الظاهرة أمام أعينهم في سبيل القضاء على خصومهم من المرسلين عليهم السلام، فتجد أحدهم مثلا وهو فرعون يلاحق بجيشه موسى ومن معه رغم انفلاق البحر لموسى عليه السلام!، قال تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا)[364].
ومن أسوأ صور المحرقة: الإبادة الجماعية لشعب آمن بالله، وهو الذي قصته سورة البروج، وهذا مقطع منها يصور الكارثة، قال تعالى: (والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد)[365]، ولهذه الآيات قصة عجيبة، فقد روى صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب، فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر، قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم: أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر؟ قال: فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس. ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس فعمي، فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن، فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك، فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال الملك: يا فلان! من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي! فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله. قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله. فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني! بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل. قال: أنا؟ قال: لا. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه أيضا بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب، فقال: ارجع عن دينك. فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لن تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهما من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: باسم الله رب هذا الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم، ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، فقد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق)[366].
وهذا الحديث يبين مدى الظلم والإرهاب الذي تمارسه بعض السلطات الغاشمة ضد الإيمان، فالملك الكافر لم يكتف بما آتاه الله من الملك والنعمة، فادعى الربوبية، ليكون مصدر السلطات كلها لشعبه!، وحين انكشف عواره، وانفضح أمره، على يد غلام كان قد رشحه لتعلم السحر، ليكون أداة طيعة له، يستخدمها لتسويق الكفر والدجل، انسلخ من إنسانيته، وتجرد من كل مشاعر الرحمة والخير، ودفعته غريزة الانتقام إلى إحراق شعبه، ولكن ليس ثمة بأس من هذا كله، فقد انتصرت العقيدة، وهوى الصنم، حتى إن الطفل الرضيع ليقول لأمه اصبري إنك على الحق، فالموت في سبيل العقيدة خير من الحياة بدونها.
وإذا كان الطغاة لا يتورعون عن حرق الناس وإيذائهم، لأن مناهجهم وعقولهم وسلوكهم يقوم على التعسف والظلم والأذى فإن المنهج الرباني بعكس هذا كله، فهو منهج بر ورحمة وإحسان للكائنات جميعا، وهو يرفض أساليب القتل الجماعي مثل الحرق ابتداء، بل إنه ليرفض أيضا حتى إيذاء بعض الحشرات التي تسبح الله مثل النمل ناهيك بالإنسان، روى أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قرصت نملة نبيا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة فأحرقت أمة من الأمم تسبح؟) متفق عليه، وزاد في مسلم: (فهلا نملة واحدة!)[367]، هكذا يعلم الله نبيه بأن لا يبادر للقتل الجماعي حتى ولو كان المقتول هو النمل الذي تسبب بالأذى لذلك النبي، وهنا ينجلي الفرق الشاسع بين دين الله الذي يحرم الظلم وبين مناهج الطاغوت التي تبرر العدوان أحيانا لمجرد العدوان!
ونختم هذا الموضوع بالحديث عن الفكر العدواني والأسلوب الإرهابي الذي لقيه النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من قومه، قد كانوا لا يخافون من ربهم، وإنما من قعقعة السلاح، ولذلك وصى الله نبيه والمؤمنين بالحذر الدائم، قال تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)[368]، وبين له بأنهم أصحاب سلوك إرهابي عند النصر، قال تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون، اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون، لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولاذمة وأولئك هم المعتدون)[369]، ومعنى الإلّ: الحلف والعهد، وقيل القرابة[370]، وأما هدفهم من الحرب فهو تصفية الدعوة ورجالها، قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط)[371]، قال الزمخشري: (هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير، فأتهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة: أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل، وقال: حتى نقدم بدرا، نشرب بها الخمر، وتعزف علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب)[372].
وقد ساعد المشركين طابور المنافقين الذين يتخاذلون عند الشدائد، ويبثون الوهن في نفوس المؤمنين، فهم كما وصفهم الله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا، يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا)[373].
وفي غزوة الأحزاب تكالبت كل قوى الأرض على المؤمنين ونبيهم فنصرهم الله تعالى بعد محنة ومصابرة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)[374].
ولا يزال هذا ديدن حزب الشيطان، وهو قتال المؤمنين حتى النهاية، قال تعالى: (والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)[375]، وهم البادئون بالعدوان، قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)[376]، ولن يتورعوا عن الحشد الجماعي للمعركة ضد المؤمنين، قال تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين)[377]، وهم على الاستعداد التام للمعركة، يتحصنون للقتال، قال تعالى: (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)[378]، ويأخذون بأسباب القوة المادية، حتى إنهم ليعتمدون عليها دون الله، قال تعالى: (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله)[379]، وهم عند الظفر لن يتورعوا عن الفتك والإبادة، قال تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)[380]، ومعنى يثقفوكم: يظفروا بكم ويتمكنوا منكم[381]، فإذا ظفروا كانت المجازر الجماعية، والأعمال الوحشية، حتى إنهم ليمثلون بالجثث، ويبقرون بطون الحوامل من النساء!.
وعلى العكس من هذا كله سلوك المؤمنين الموحدين، فدينهم يمنعهم من الفتك، روى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)[382]، بل إن دينهم ليأمرهم بالأخذ على أيدي الظالم ولو كان أخا أو قريبا ورده إلى الحق، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، فقال رجل: يا رسول الله! انصره ظالما، فكيف أنصره مظلوما؟ قال: (تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه)[383]، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه سلوك حزب الله في الأرض، وهو أن تكون الجماعة المؤمنة مصدر الخير والإحسان والالتزام بمنهج الله في هذا العالم المتخبط في الظلمات، فعن حذيفة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإ أساؤوا فلا تظلموا)[384].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يعلم أصحابه قواعد الخلق والرحمة حتى وهم يتوجهون للجهاد في سبيل الله، فعن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: (اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلو، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم…)[385]، ولا عجب أن يوصي الرسول الكريم بترك الظلم والابتعاد عنه في كل الحالات، أليس هو القائل: (الظلم ظلمات يوم القيامة)[386]؟.
الخــاتمـــــــــــة
تبين لنا من خلال هذا البحث بأن الناس حزبان: حزب الله وحزب الشيطان، والحزب الأول هو حامل لواء الحق، وهو قوي بربه، ضعيف بإمكاناته المادية، وأما الحزب الثاني، فهو حامل لواء الهوى والتمرد على سلطان الله في هذه الأرض، راياته كثيرة، وفحواها واحد، وهو حزب ضعيف بحجته، قوي بإمكاناته المادية.
والصراع بين الحزبين قائم عبر التاريخ وإلى قيام الساعة، حيث يستخدم الحزب الأقوى عادة بإمكاناته المادية كافة سبل الظلم والإرهاب بأشكاله المتعددة من: نفسية، وإعلامية، واقتصادية، وأخلاقية، وحربية متمثلة بالتصفية الجسدية الشاملة، وذلك من أجل القضاء على حزب الله، ولا يتورع حزب الشيطان عن إقامة محرقة شاملة لكل من آمن بالله واليوم الآخر.
وقد كان سلاح الأنبياء والمرسلين عليهم السلام هو الدعوة بالحسنى، والكلمة الطيبة، والالتجاء إلى الله، وربما قُتل بعضهم ظلما وعدوانا، فنال إحدى الحسنيين وهي الشهادة في سبيل الله تعالى، وربما دافع بعضهم عن نفسه وأصحابه بما رزقه الله من حيلة، ولكن النصر كان حليفهم في النهاية، لأن الله معهم، والحقيقة في صدورهم، والحق عل ألسنتهم، والخير في أيمانهم، والنور في وجوههم، والصواب في منهاجهم، والفطرة في ندائهم، وقد ثبتوا على دينهم حتى لقاء بارئهم بلا تغيير ولا تبديل ولا تحريف، وقد انتقم الله من ظالميهم في الدنيا، وسوف ينتقم منهم في الآخرة، قال تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)[387].
وإذا كانت ثمة أمنية في نهاية هذا البحث، فإننا نود وقد بلغت البشرية طور الرشد وأخذت بأسباب العلم والتقدم أن يعيش الناس أحرارا ولو يوما واحدا في هذا العالم تحت لواء الحرية التي هي أثمن ما في الوجود، وليتذكروا جهاد الأنبياء وصبرهم وما لاقوه من أذى الطواغيت، لعل البشر إذا عاشوا أحرارا، يرفضون العبودية إلا لله رب العالمين، وينتهي الظلم والعدوان الذي يمارسه الناس بحق بعضهم البعض، وأكثر ما يمارسونه ضد أتباع الرسل والأنبياء عليهم السلام من المستضعفين في الأرض.
المصادر والمراجع
البداية والنهاية لابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الثانية، 1411هـ/1990م
ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، دار الفكر.
الروض الأنف للسهيلي، دار الفكر، الطبعة الثانية.
السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مؤسسة علوم القرآن.
السيرة النبوية لابن هشام، دار الفكر، الطبعة الثانية.
القاموس المحيط، للفيروز آبادين مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1407هـ/1987م.
الكشاف للزمخشري، صححه مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1406هـ/1986م.
مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة السابعة، 1402هـ/1981م.
مشكاة المصابيح للتبريزي، بتحقيق الألباني المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة 1405هـ/1985م.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية، إستانبول، 1984م.
المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت.
[1] - الآية (30) من سورة البقرة.
[2] - الآية (56) من سورة الذاريات.
[3] - الآية (34) من سورة البقرة.
[4] - الآية (27) من سورة الأعراف.
[5] - الآية (43) من سورة الفرقان.
[6] - الآية (256) من سورة البقرة.
[7] - الآية (28) من سورة هود.
[8] - الآية (99) من سورة يونس.
[9] - الآية (22) من سورة المجادلة.
[10] - الآية (19) من سورة آل عمران.
[11] - الآية (85) من سورة آل عمران.
[12] - الآية (285) من سورة البقرة.
[13] - الآية (40) من سورة الأحزاب.
[14] - الآيتان(150-151) من سورة النساء.
[15] - الآية (19) من سورة المجادلة.
[16] - الآية (140) من سورة النساء.
[17] - الآية (6) من سورة البينة.
[18] - سورة الذاريات، الآيتان (52-53).
[19] - الآية (146) من سورة الأعراف.
[20] - الآية (179) من سورة الأعراف.
[21] - الآية (55) من سورة الأنفال.
[22] - الآية (32) من سورة الأنفال.
[23] - الآية (31) من سورة الزخرف.
[24] - الآية (109) من سورة البقرة.
[25] - الآية (25) من سورة سبأ.
[26] - الآية (59) من سورة المائدة.
[27] - الآية (82) من سورة المائدة.
[28] - الآية (6) من سورة الكافرون.
[29] - الآية (13) من سورة التوبة.
[30] - رواه الترمذي وابن ماجه، وإسناده صحيح، انظر: مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الألباني (2/832) المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة 1405هـ/1985م.
[31] - الآية (26) من سورة الأنفال.
[32] - من حديث متفق عليه عن عائشة، انظر: مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الألباني (3/1624).
[33] - الآية (2) من سورة المائدة.
[34] - الآية (62) من سورة المائدة.
[35] - انظر: القاموس المحيط، مادة (رهب).
[36] - الآية (28) من سورة غافر.
[37] - انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، مادة (رهب)
[38] - الآية (60) من سورة الأنفال.
[39] - مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، (2/115).
[40] - الآيات (39-42) من سورة الشورى.
[41] - الآيتان (27-28) من سورة المائدة.
[42] - أخرجه الجماعة سوى أبي داود، انظر: مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، (1/508).
[43] - الآيتان(29-30) من سورة النجم.
[44] - الآية (50) من سورة المائدة.
[45] - الآيات(23-25) من سورة غافر.
[46] - الآية (251) من سورة البقرة.
[47] - الآية (32-33) من سورة التوبة.
[48] - الآية (31) من سورة الفرقان.
[49] - الآية (51) من سورة غافر
[50] - الآيات (48-51) من سورة إبراهيم.
[51] - الآيتان (50-51) من سورة الأعراف.
[52] - الآيتان (42-43) من سورة الأعراف.
[53] - الآيات(45-47) من سورة النحل.
[54] - الآية (18) من سورة المائدة.
[55] - الآية (135) من سورة البقرة.
[56] - الآية (146) من سورة البقرة.
[57] - الآيتان(159-160) من سورة البقرة.
[58] - الآية (174) من سورة البقرة.
[59] - الآية (70) من سورة المؤمنون.
[60] - الآية (71) من سورة آل عمران.
[61] - الآية (72) من سورة آل عمران.
[62] - الآيتان (142-143) من سورة النساء.
[63] - الآيتان(8-9) من سورة البقرة.
[64] - الآية (168) من سورة آل عمران.
[65] - الآية (141) من سورة النساء.
[66] - الآية (30) من سورة التوبة.
[67] - الآيتان(23-24) من سورة النمل.
[68] - الآية (165) من سورة البقرة.
[69] - الكشاف (1/211)
[70] - الآيات(49-51) من سورة النساء.
[71] - الكشاف للزمخشري، (1/520).
[72] - الكشاف للزمخشري (1/521)
[73] - الآية (64) من سورة الزمر.
[74] - الآية (45) من سورة الزمر.
[75] - الآية (60) من سورة الفرقان.
[76] - الآية (181) من سورة آل عمران.
[77] - الآية (64) من سورة المائدة.
[78] - الآية (21) من سورة الفرقان.
[79] - الآية (153) من سورة النساء.
[80] - الآية (75) من سورة البقرة.
[81] - الآية (79) من سورة البقرة.
[82] - الآية (59) من سورة البقرة.
[83] - الآية (28) من سورة الأعراف.
[84] - الآية (31) من سورة التوبة.
[85] - الآية (35) من سورة النحل.
[86] - الآية (123) من سورة الأنعام.
[87] - الآية (120) من سورة البقرة.
[88] - الآية (29) من سورة غافر.
[89] - الآية (167) من سورة النساء.
[90] - الآية (36) من سورة الزمر.
[91] - الكشاف (4/129)
[92] - الآية (25) من سورة العنكبوت.
[93] - الكشاف (3/450).
[94] - الآية (81) من سورة الأنعام.
[95] - الآية (175) من سورة آل عمران.
[96] - الآية (12) من سورة الشعراء.
[97] - الآية (14) من سورة الشعراء.
[98] - الآية (21) من سورة الشعراء.
[99] - الآية (46) من سورة طه.
[100] - الآيتان(67-68) من سورة الأحزاب.
[101] - الآيات(31-33) من سورة سبأ.
[102] - الآية (34) من سورة سبأ.
[103] - الآية (22) من سورة نوح.
[104] - الكشاف (4/619)
[105] - الآيات(94-99) من سورة الشعراء.
[106] - الآية (44) من سورة الشعراء.
[107] - الآيتان(38-39) من سورة القصص.
[108] - الآيتان (23-24) من سورة النازعات.
[109] - الآية (54) من سورة الزخرف.
[110] - الآية (258) من سورة البقرة.
[111] - الآية (55) من سورة النور.
[112] - الآية (13) من سورة إبراهيم.
[113] - الآيتان(88-89) من سورة الأعراف.
[114] - الآية (73) من سورة طه.
[115] - الآية (71) من سورة طه.
[116] - الآية (45) من سورة الأعراف
[117] - الآية (51) من سورة الأعراف.
[118] - الآية (12) من سورة العنكبوت.
[119] - الآيات(27-30) من سورة الصافات.
[120] - بإيجاز: الكشاف (4/40)
[121] - الآيتان(88-89) من سورة طه.
[122] - الآية (148) من سورة الأعراف.
[123] - السيرة النبوية لابن هشام (2/36). دار الفكر، الطبعة الثانية.
[124] - الآية (90) من سورة آل عمران.
[125] - الكشاف (1/382).
[126] - الآيتان(150-151) من سورة النساء.
[127] - الآية (91) من سورة الأنعام.
[128] - الآيتان (98-99) من سورة آل عمران.
[129] - الآية (5) من سورة المجادلة.
[130] - انظر: الكشاف(4/489).
[131] - الآية (33) من سورة الأنعام.
[132] - الآية (61) من سورة النساء.
[133] - الآية (3) من سورة الأحقاف.
[134] - الآية (5) من سورة الشعراء.
[135] - الآيات(49-51) من سورة المدثر.
[136] - الآيات (5-7) من سورة نوح.
[137] - الكشاف (4/616).
[138] - الآية (24) من سورة المؤمنون.
[139] - الآية (62) من سورة هود.
[140] - الآية (87) من سورة هود.
[141]- الآية (43) من سورة سبأ.
[142] - الآية (170) من سورة البقرة.
[143] - الآية (104) من سورة المائدة.
[144] - الآيات(128-131) من سورة الشعراء.
[145] - الآيات(136-138) من سورة الشعراء.
[146] - الآية (4) من سورة فاطر.
[147] - الآيتان(11-12) من سورة الطور.
[148] - الآية (103) من سورة المائدة.
[149] - الآية (6) من سورة الشعراء.
[150] - الآية (30) من سورة يس.
[151] - الآيتان(4-5) من سورة الأنعام.
[152] - الآية (109) من سورة البقرة.
[153] - الآية (88) من سورة يونس.
[154] - الآية (35) من سورة الصافات.
[155] - الآية (83) من سورة يونس.
[156] - الآية (75) من سورة يونس.
[157] - الآية (78) من سورة يونس.
[158] - الآية (15) من سورة فصلت.
[159] - الآية (20) من سورة الأحقاف.
[160] - الآيتان(34-35) من سورة الجاثية.
[161] - الآيتان(8-9) من سورة الحج.
[162] - الكشاف، (3/146).
[163] - الآية (42-43) من سورة الأنعام.
[164] - الآية (212) من سورة البقرة.
[165] - الآيات(108-111) من سورة المؤمنون.
[166] - مختصر ابن كثير (2/578)
[167] - الآيتان(59-60) من سورة النجم.
[168] - الآيات(29-32) من سورة المطففين.
[169] - الآيتان(46-47) من سورة الزخرف.
[170] - انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة (هزؤ).
[171] - الآيتان(41-42) من سورة الفرقان.
[172] - الآية (36) من سورة الأنبياء.
[173] - الآية (41) من سورة الأنبياء.
[174] - الآية (11) من سورة الحجر.
[175] - الآيات(14-16) من سورة البقرة.
[176] - الآيتان(57-58) من سورة المائدة.
[177] - الآية (47) من سورة النمل.
[178] - الكشاف (3/371).
[179] - الآية (18) من سورة يس.
[180] - الآية (131) من سورة الأعراف.
[181] - الآية (120) من سورة آل عمران.
[182] - الكشاف(1/406).
[183] - الآية (50) من سورة التوبة.
[184] - الآيتان(75-76) من سورة غافر.
[185] - الآيات(31-33) من سورة القيامة.
[186] - الكشاف (4/664)
[187] - الآية (8) من سورة فاطر.
[188] - الآية (104) من سورة الكهف.
[189] - الآية (44) من سورة الأنعام.
[190] - الكشاف (2/23)
[191] - الآيتان(73-74) من سورة مريم.
[192] - الكشاف (3/36-38).
[193] - الآية (2) من سورة ص.
[194] - الآية (168) من سورة النساء.
[195] - الآية (78) من سورة القصص.
[196] - الآية (7) من سورة الروم.
[197] - الآية (10) من سورة البقرة.
[198] - الآية (7) من سورة البقرة.
[199] - ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العكبري، (3/228).
[200] - الآيتان (11-12) من سورة البقرة.
[201] - الآية (13) من سورة البقرة.
[202] - الآية (135) من سورة البقرة.
[203] - الآيتان(8-9) من سورة محمد.
[204] - الآية (102) من سورة البقرة.
[205] - الآية (116) من سورة الأعراف.
[206] - الآية (52) من سورة الذاريات.
[207] - الآية (57) من سورة طه.
[208] - الآية (109) من سورة الأعراف.
[209] - الآية (63) من سورة طه.
[210] - الآية (2) من سورة يونس.
[211] - الآية (4) من سورة ص.
[212] - الآية (101) من سورة الإسراء.
[213] - الآية (47) من سورة الإسراء.
[214] - الآية (52) من سورة الذاريات.
[215] - الآية (9) من سورة القمر.
[216] - الآية (6) من سورة الحجر.
[217] - الآية (27) من سورة الشعراء.
[218] - الآية (39) من سورة الذاريات.
[219] - الآية (29) من سورة الطور.
[220] - الآية (36) من سورة الصافات.
[221] - الآية (51) من سورة القلم.
[222] - الكشاف (4/597).
[223] - الآية (5) من سورة الأنبياء.
[224] - الآية (30) من سورة الطور.
[225] - الآية (36) من سورة الصافات.
[226] - الآية (29) من سورة الطور.
[227] - الآيتان(41-42) من سورة الحاقة.
[228] - الآية (111) من سورة الشعراء.
[229] - الكشاف (2/388).
[230] - الكشاف (3/324).
[231] - الآيتان(59-60) من سورة الأعراف.
[232] - الآيتان(65-66) من سورة الأعراف.
[233] - الآيات(23-25) من سورة القمر.
[234] - الكشاف (4/437).
[235] - الآية (58) من سورة الروم.
[236] - الآية (78) من سورة آل عمران.
[237] - الكشاف (1/377).
[238] - الآية (26) من سورة فصلت.
[239] - مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، (3/261).
[240] - الآية (176) من سورة آل عمران.
[241] - الآيتان(65-66) من سورة آل عمران.
[242] - الآية (121) من سورة الأنعام.
[243] - الآية (4) من سورة غافر.
[244] - الآيتان(26-27) من سورة البقرة.
[245] - الآية (32) من سورة هود.
[246] - الآية (8) من سورة الأحقاف.
[247] - الآية (11) من سورة الأحقاف.
[248] - السيرة النبوية لابن هشام (2/86). دار الفكر، الطبعة الثانية.
[249] - الآية (103) من سورة النحل.
[250] - السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، (1/393). مؤسسة علوم القرآن.
[251] - الآية (112) من سورة الأنعام.
[252] - الآيات(224-227) من سورة الشعراء.
[253] - الآية (6) من سورة لقمان.
[254] - الكشاف (3/490).
[255] - الآيات(204-206) من سورة البقرة.
[256] - الآيتان(1-2) من سورة المنافقون.
[257] - الآيات (14-16) من سورة المجادلة.
[258] - الآيات (21) من سورة الأعراف.
[259] - الآية (النساء) من سورة108.
[260] - الآية (8) من سورة المجادلة.
[261] - سورة الناس، الآيات (1-6).
[262] - الآية (86) من سورة الأعراف.
[263] - الآية (118) من سورة آل عمران.
[264] - الآية (9) من سورة إبراهيم.
[265] - الكشاف، (2/542).
[266] - الآيات(52-56) من سورة الشعراء.
[267] - الكشاف (3/315)
[268] - الآيتان(63-64) من سورة طه.
[269] - الآية (60) من سورة طه.
[270] - الآية (47) من سورة يس
[271] - الآيات (1-3) من سورة الهمزة.
[272] - الآيات (1-3) من سورة الماعون.
[273] - الآية (7) من سورة المنافقون.
[274] - الآية (79) من سورة التوبة.
[275] - الآية (45) من سورة الواقعة.
[276] - الآية (36) من سورة الأنفال.
[277] - الآيتان(41-42) من سورة الشعراء.
[278] - الآية (38) من سورة النساء.
[279] - الآيتان(160-161) من سورة النساء.
[280] - الآية (85) من سورة الأعراف.
[281] - الآية (79) من سورة الكهف.
[282] - الآية (34) من سورة التوبة.
[283] - الآيات (11-16) من سورة البلد.
[284] - السيرة النبوية لابن هشام (2/101). دار الفكر، الطبعة الثانية.
[285] - السيرة النبوية لابن هشام (2/113). دار الفكر، الطبعة الثانية.
[286] - الآية (14) من سورة آل عمران.
[287] - الآية (27) من سورة النساء.
[288] - الآية (19) من سورة النور.
[289] - الآية (23) من سورة النور.
[290] - سورة النساء، الآيتان (156-157).
[291] - سورة مريم، الآيات (27-28).
[292] - الآية (11) من سورة النور.
[293] - الآيتان(32-33) من سورة يوسف.
[294] - الآيات (77-79) من سورة هود.
[295] - الآيات (67-70) من سورة الحجر.
[296] - الكشاف (2/585).
[297] - الآية (25) من سورة الحج.
[298] - الآية (114) من سورة البقرة.
[299] - سورة الفيل.
[300] - الآية (107) من سورة التوبة.
[301] - رواه مسلم، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (3/1045).
[302] - الآيتان (4-5) من سورة المسد.
[303] - مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، (3/690).
[304] - متفق عليه، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (3/1416).
[305] - الآية (106) من سورة النحل.
[306] - مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، (2/348).
[307] - السيرة النبوية لابن هشام (2/68-69). دار الفكر، الطبعة الثانية.
[308] - الآية (42) من سورة يوسف.
[309] - الآية (29) من سورة الشعراء.
[310] - الآية (30) من سورة الأنفال.
[311] - الكشاف (2/215)
[312] - مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (2/1667-1668)، الحديث رقم (5931)، وقد رواه أبو داود والدارمي، قال الألباني: وهو حديث صحيح.
[313] - البداية والنهاية، لابن كثير، (4/210).
[314] - السيرة النبوية، لابن هشام، (4/44).
[315] - الروض الأنف للسهيلي، (2/78).
[316] - الآية (26) من سورة غافر.
[317] - الآية (20) من سورة القصص.
[318] - الآيات(23-25) من سورة غافر.
[319] - الآيات(155-157) من سورة النساء.
[320] - الآية (87) من سورة البقرة.
[321] - الآية (61) من سورة البقرة.
[322] - سورة آل عمران، الآية (21).
[323] - مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، (1/274).
[324] - الآية (91) من سورة البقرة.
[325] - الآية (49) من سورة البقرة.
[326] - الآيتان (8-9) من سورة التكوير.
[327] - الآية (137) من سورة الأنعام.
[328] - المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة (رجم).
[329] - الآية (116) من سورة الشعراء.
[330] - الآية (46) من سورة مريم.
[331] - انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة (رجم)، والكشاف للزمخشري، (3/14)، ومختصر تفسير ابن كثير للصابوني (2/454).
[332] - الآية (91) من سورة هود.
[333] - الآية (20) من سورة الدخان.
[334] - الآية (18) من سورة يس.
[335] - الآية (20) من سورة الكهف.
[336] - الآيتان(68-69) من سورة الأنبياء.
[337] - الآية (24) من سورة العنكبوت.
[338] - انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة (صلب).
[339] - الآيات(70-72) من سورة طه.
[340] - الآية (13) من سورة إبراهيم.
[341] - الآيات (80-82) من سورة الأعراف.
[342] - الآية (56) من سورة النمل.
[343] - الآيتان(88-89) من سورة الأعراف.
[344] - الآية (76) من سورة الإسراء.
[345] - انظر: الكشاف (2/685)
[346] - الآية (1) من سورة الممتحنة.
[347] - الآية (75) من سورة النساء.
[348] - الآية (217) من سورة البقرة.
[349] - الكشاف (1/259)
[350] - الآية (191) من سورة البقرة.
[351] - الكشاف، (1/236).
[352] - السيرة النبوية لابن هشام (2/86). دار الفكر، الطبعة الثانية.
[353] - الآية (33) من سورة المائدة.
[354] - الآية (29) من سورة العنكبوت.
[355] الكشاف (3/452)
[356] - الآية (186) من سورة آل عمران.
[357] - الكشاف(1/449-450).
[358] - الآية (20) من سورة القصص.
[359] - الآية (4) من سورة القصص.
[360] - الكشاف (3/392)
[361] - الآية (127) من سورة الأعراف.
[362] - الآية (26) من سورة غافر.
[363] - الآية (64) من سورة المائدة.
[364] - الآية (90) من سورة يونس
[365] - الآيات(1-9) من سورة البروج.
[366] - أخرجه أحمد، ورواه مسلم والنسائي بنحوه، انظر: مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، (3/623-624).
[367] - متفق عليه، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (2/1202).
[368] - الآية (102) من سورة النساء.
[369] - الآيتان(8-10) من سورة التوبة.
[370] - انظر: الكشاف(2/250).
[371] - الآية (47) من سورة الأنفال.
[372] - الكشاف (2/227).
[373] - الآيات(18-20) من سورة الأحزاب.
[374] - الآيات (9-11) من سورة الأحزاب.
[375] - الآية (217) من سورة البقرة.
[376] - الآية (190) من سورة البقرة.
[377] - الآية (36) من سورة التوبة.
[378] - الآية (14) من سورة الحشر.
[379] - الآية (2) من سورة الحشر.
[380] - الآية (2) من سورة الممتحنة.
[381] - الكشاف (4/513)
[382] - رواه أبو داود، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني،(2/1053).
[383] - متفق عليه، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (3/1385).
[384] - رواه الترمذي، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (3/1418).
[385] - رواه مسلم، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (2/1150).
[386] - متفق عليه عن ابن عمر، انظر: مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، (3/1417).
[387] - الآية (51) من سورة غافر.
وسوم: العدد 644