المس الشيطاني واﻷمراض النفسية
خواطر من الكون المجاور .. الخاطرة 61
الله عز وجل أنعم على اﻹنسان صفات عديدة جعلته كائن مميز يختلف نهائيا عن جميع الكائنات الحية الاخرى ، ولعل أهم هذه الصفات هي المقدرة على المجادلة والمناظرة بين شخصين أو أشخاص عدة في موضوع معين بهدف الوصول إلى الوجهة اﻷصح لهذا الموضوع ، فعن طريق المجادلة والحوار يسمح للطرفين في عرض جميع زوايا الرؤية إلى الشيء فتظهر الحقيقة الكاملة لهذا الشيء ، ولكن حتى يتم ذلك على أفضل وجه لضمان تحقيق هدف المجادلة والنقاش ، لا بد أن يسود جو هذا النقاش نوع من اﻹحترام المتبادل بين اﻷطراف ، وأن يسمح لكل طرف عرض وجهة نظره بشكل كامل ليعلم الطرف اﻵخر اﻷسباب الكاملة التي دفعته إلى اﻹعتقاد بوجهة نظره تلك نحو الشيء المقصود. بهذه الطريقة فقط يمكن أن يصل اﻹنسان مع تعدد المناقشات والمناظرات إلى الحقيقة الكاملة للشيء في يوم من الأيام.
جميع الحضارات والديانات ظهرت وإزدهرت نتيجة إعتمادها هذا المبدأ في المجادلة والحوار، فالمجادلة الحسنة تعتبر من أهم صفات اﻹيمان ،حيث نجد أن الله عز وجل أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع هذا اﻹسلوب في المجادلة كما تذكر اﻵية القرآنية (أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) في هذه اﻵية نجد أن الله عز وجل وكأنه يقول للرجل الذي إختاره ليكون رسوله في نشر دينه بأن علم اليقين هو فقط عند الله ولا يمكن ﻷي إنسان الوصول إليه، لذلك ما على اﻹنسان سوى أن يعطي حججه وإثباتاته التي تثبت صحة رأيه أو خطأ رأي اﻵخرين . وليس له الحق على اﻹطلاق أن يتهم آراء اﻵخرين بألفاظ بذيئة ، ﻷن الله وحده هو من يعلم فقط من هو على صواب ومن هو على باطل.
عندما يحدث النقاش في مناخ تسوده المحبة واﻹحترام بين الطرفين فالنقاش في تلك اللحظات يحدث بين الكائن العلوي من الطرف اﻷول مع الكائن العلوي من الطرف الثاني وعندها يكون الله ثالثهم في المجادلة. أما عندما يحدث النقاش في مناخ تسوده الكراهية والبغض والكلمات البذيئة والشتيمة ، عندها المجادلة تحدث بين الكائنات السفلية لكلا الطرفين وعندها يكون في هذه الحالة الشيطان ثالثهم. لذلك عندما يرى الشخص أن الطرف اﻵخر يقاطعه بإستمرار وبإسلوب حاد ويمنعه من اﻹستمرار في عرض رأيه ، عندها يجب أن يعلم بأنه بدأ يتحاور مع الشيطان في داخل الطرف اﻵخر ، لذلك يجب عليه أن يتوقف مباشرة وينسحب بهدوء ويترك أمره لله ، ﻷنه لو إستمر في النقاش عندها الطرف اﻵخر سيحرض الشيطان في داخله أيضا ليشارك هو في النقاش بدلا منه. وعندها ستكون نتيجة هذه المجادلة فقط زيادة الكراهية والنفور بين الطرفين ، وهذا سيمنع من الوصول إلى الحقيقة التي كانت في البداية هدف النقاش.
عندما تتحول المجادلة إلى سخرية وشتائم ،هنا لدينا حالة بسيطة من أنواع المس الشيطاني ، ﻷن الشيطان هو وحده فقط من لا يريد من اﻹنسان أن يصل إلى الحقيقة ، لذلك فالشيطان الذي ظهر في الطرف اﻷول يبدأ بالتحريض على استفزاز أعصاب الطرف اﻵخر، عن طريق إستخدامه كلمات ساخرة بغرض تحقيره ، فيؤدي إلى غضب الطرف الثاني ومن المعروف أن الغضب يتسبب في فقدان القدرة على ضبط النفس والملاحظة والتفكير السليم ، عندها يظهر الشيطان في الطرف الثاني أيضا ويتحول النقاش إلى مجادلة بين الشياطين.
ربما معظمنا مر بمثل هذا الموقف ولو للحظات قليلة في حياته ، وكثير منا بعد الإنتهاء من هكذا جدال لا يصدق أنه هو نفسه من استخدم ذلك الأسلوب البذيء في المجادلة ، فما شعرنا به في تلك اللحظات يفسر ماديا بأن الإنسان قد فقد السيطرة على نفسه ، أو بشكل أصح أن السيطرة على السلوك قد إنتقلت من الكائن العلوي إلى الكائن السفلي في اﻹنسان ، أما روحيا فيكون تفسير الظاهرة بأن ما حدث للإنسان في تلك اللحظات هو أن الشيطان دخل اﻹنسان في تلك اللحظات وجعله يفعل ما لا يليق أو بمعنى أدق (مسه الشيطان) .
المس الشيطاني الذي يحدث أثناء النقاش هو من أبسط أنواع المس الشيطاني، ولمعرفة الحقيقة الكاملة لما حصل أثناء النقاش وتحوله من نقاش حضاري إلى نقاش حقد وكراهية بين الطرفين ، يجب علينا توحيد التفسير المادي مع التفسير الروحي. وإلا سيبقى كل تفسير لوحده تفسير ناقص عاجز عن فهم الحقيقة الكاملة للمشكلة ، حيث نجد أن المجتمعات المتطورة علميا في عصرنا الحديث عند دراسة هذه الظاهرة تحاول أن تعالجها من خلال دراسة التغيرات العضوية لما حصل في الجهاز العصبي في اﻹنسان لذلك نجد أن أفراد هذه المجتمعات لا تؤمن بوجود عالم الجن والشياطين ، أما في المجتمعات التي يسيطر عليها الدين فيتم دراسة الظاهرة على مبدأ تدخل الروح في اﻷمور سواء كانت هذه الروح روح الخير ،أو روح السوء ( جن ،شيطان ) . لذلك نجد بشكل عام أن نسبة كبيرة من أفراد هذه المجتمعات تؤمن بوجود عالم الجن والشياطين ،ولكن المشكلة في هذه المجتمعات التي تعتمد على التفسير الروحي أن بعض المناطق فيها وبسبب اﻹنحطاط الثقافي الذي يسوده وصلت هذه التفسيرات إلى مرحلة الخرافات والشعوذة. فأصبح عالم الجن وكأنه عالم مادي حقيقي يحيط بهم ويؤثر على سلوك ومصير أفراد هذه المناطق كما تشاء وكأن هذه المخلوقات كائنات أرقى من اﻹنسان ﻷنها تملك مقدرات خارقة تفوق مقدرات اﻹنسان بكثير، وطبعا هذا الاعتقاد يعارض نهائيا معتقدات جميع الكتب المقدسة، ﻷن اﻹنسان هو أرقى المخلوقات لسبب بسيط وهو أنه الوحيد الذي يملك جزء من روح الله في تكوينه.
المس الشيطاني الذي يصيب البعض أثناء المجادلة والحوار كما ذكرنا هو من أبسط أنواع هذا المس ، فالشعور بالغضب يحدث تغيرات بسيطة في جسد اﻹنسان كزيادة معدل ضربات القلب وإرتفاع مستوى ضغط الدم ومستوى الادرينالين والنورادرينالين ، فتؤدي إلى تغيير فجائي في سلوك اﻹنسان ، ولكن هناك أنواع أخرى من المس الشيطاني ( اﻹضطرابات النفسية ) المعقدة جدا قد تحدث في اﻹنسان تغيرات جذرية فيصبح سلوكه اﻹجتماعي غير طبيعي ، ويصاب بأعراض مختلفة كالوهم والهلوسة في الرؤية والسمع والشم يصاحبها إضطراب الفكر فتجعله لا يستطيع تمييز ما يحدث واقعيا. فاﻹنسان بالحالة الطبيعية مثلا يرى ما حوله نتيجة إنعكاس الضوء من اﻷشياء الموجودة حوله ودخول أشعة الضوء إلى شبكية العين، الشبكية تستقبل الصورة بواسطة مستقبلات حساسة للضوء ، هذه المعلومات التي إنطبعت على الشبكية تسري في العصب البصري كسيالات عصبية لتصل إلى المخ وهناك يتم ترجمة هذه المعلومات. بهذه الطريقة نرى ما حولنا ، ولكن إذا حصل خلل في خطوات هذه العملية لأسباب عديدة سواء كانت وراثية ،أو إضطربات نفسية أو سوء اﻷحوال اﻹجتماعية، أو ﻷسباب جرثومية، أو بسبب تعاطي المخدرات أو الكحول أو العقاقير المهدئة ،أو بسبب وجود نوع من الحساسية لبعض اﻷطعمة ،....إلخ ، هذه اﻷسباب قد تؤدي إلى ظهور خلل مثلا في دقة السيالة العصبية التي تحمل المعلومات إلى المخ ، أو قد يحدث خلل في جزء من خلايا المخ فيعطي ترجمة خاطئة للمعلومات التي وصلت إليه .فتكون النتيجة شعور المريض بعالم وهمي من حوله أو أيضا بوجود أشخاص وهميين ليس وجود نهائيا بالعالم الواقعي الذي يعيش فيه .
أفضل مثال يمكن به توضيح هذه الفكرة هي الحالة التي أصابت عالم الرياضيات جون ناش ( الصورة ) الحائز مناصفة بجائزة نوبل في اﻹقتصاد لعام 1994 ، والذي تحولت معاناته النفسية إلى فيلم سينمائي يحمل عنوان عقل جميل ( A Beautiful Mind). والمقصود بالعنوان هنا (العقل الجميل ) طبعا ليس عقل عالم الرياضيات ولكن عقل زوجته التي ظلت بجانبه رغم ما عانته من عذاب وخوف من سلوك زوجها الغريب نحوها ونحو أطفالها ،ولكنها في اﻷخير وبفضل حبها ورعايتها لزوجها إستطاعت أن تنقذه من ذلك العالم الوهمي المضطرب الذي كان يعيش به.
قبل يومين شاء القدر بينما كنت جالسا في المترو عائدا إلى البيت، أفكر في موضوع هذه المقالة سمعت فجأة صوت صفعة قوية ، إلتفت نحو مكان الصوت رأيت فتاة صغيرة في بداية مرحلة المراهقة تضرب وتشد شعر أمها ، وأمها المسكينة كانت فقط تحاول تهدئة إبنتها ، كل من تواجد في المترو قربهم لم يتدخل لحل المشكلة ﻷنهم علموا مباشرة بأن الفتاة الصغيرة مريضة نفسية، فهناك نسبة غير قليلة من اﻷشخاص بمختلف اﻷعمار في الدول الغربية يعانون من مثل هذا النوع من اﻷمراض النفسية.
من يرى سلوك عالم الرياضيات كما ظهر في الفيلم وكذلك سلوك الفتاة الصغيرة في المترو ، قد يشعر بأنه نتيجة أمراض نفسية ، وأنها تختلف عن أعراض المس الشيطاني كما هي معروفة في العالم العربي واﻹسلامي ، ولكن من يتمعن جيدا بهذه اﻷعراض وطريقة سلوك المريض سيجد أن مبدأ اﻷعراض في كلا الحالتين ( المرض النفسي والمس الشيطاني ) هو واحد. ولكن طبيعة البيئة الروحية التي عاش وترعرع فيها كل مريض هي التي أدت إلى إختلاف طريقة التعبير في كل مصاب. فالشخص الذي من طفولته يسمع عن قصص الجن وأعراض المس الشيطاني سيصل إلى مرحلة تجعله مقتنعا تماما بوجود هذا العالم الغريب من حوله ، فعندما يصاب بأحد أنواع هذه الحالات النفسية فهو بدون أن يشعر سيجد نفسه يعبر عن مرضه بنفس اﻷعراض التي سمعها عن تلبس الجن والشياطين، والتي منها مثلا تغيير صوته فجأة أو الشعور باﻹنزعاج من سماع آيات القرآن أو رؤيته ﻷشخاص وهمين لهم أشكال غريبة ، وغيرها من تصرفات أخرى .
أما في حالة عالم الرياضيات جون تاش ، وكذلك الفتاة الصغيرة ، فبسبب وجودهم في منطقة سكنية أفرادها لا تتكلم عن الجن ولا تؤمن بوجود عالم الجن ، لذلك كانت طريقة التعبير في سلوكهم عن هذا اﻹضطراب النفسي الذي يعانون منه يختلف ظاهريا عن أولئك المصابون بالمس الشيطاني.
طب النفس إستطاع أن يجد العلاج الشافي لبعض هذه اﻷمراض النفسية وخاصة عندما تكون في مراحلها اﻷولى ، ولكنه لا يزال عاجزا عن فهم حقيقة ما يحدث بشكل عام ، لذلك نجد أن نسبة من المرضى بدلا من أن يستطيع الطبيب النفسي معالجتهم وشفائهم من المرض نجد حالتهم المرضية قد ازدادت سوءا، فلذلك نجد الكثير من أهالي هؤلاء المرضى وخاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق التي تؤمن بوجود عالم الجن والشياطين والسحر ، يضطرون في اﻷخير إلى الذهاب للرقاة ، ليقرأ على مريضهم على إعتبار أنه ممسوس أو مسحور . ونجد أن هؤلاء الرقاة قد إستطاعوا معالجة قسم ضئيل من هؤلاء المرضى ، ولكن نسبة أخرى منهم نتيجة إسلوب الراقي نفسه في المعالجة والتي كثيرا من اﻷحيان تعتمد على تعذيب المريض بحجة أنه يعذب الجني الذي بداخله ليجبره في الخروج من جسم المريض ، تؤدي إلى وفاة المريض، وللأسف كثير من هذه الوفيات لا تذكر في مراكز الشرطة بسبب جهل أهل المريض أو بسبب تعب وعذاب وعناء أهل المريض الشديد من السلوك السيء للمريض نحوهم ونحو نفسه أيضا ، لذلك تكون وفاته بالنسبة لهم نوع من الخلاص من العذاب لمريضهم ولهم أيضا.
القرآن الكريم ذكر هذه الحالات النفسية بشكل رمزي يعبر به عن شكلها الروحي وشكلها المادي ليساعد علماء الطب النفس في فهم حقيقة هذه اﻹضطرابات النفسية التي يصاب بها اﻹنسان ،فنجده يعبر بطريقتين عن الحالة الصحية التي مر بها النبي أيوب عليه الصلاة والسلام ، الطريقة اﻷولى والتي تمثل وجهة نظر الطب النفسي ( النظرة المادية) ، نجدها في اﻵية القرآنية 83 من سورة اﻷنبياء (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) أما الطريقة الثانية والتي تمثل وجهة نظر الرقاة ( النظرة الروحية ) ، فنجدها في اﻵية 41 من سورة ص ( وإذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) فالنبي أيوب عليه الصلاة والسلام في كلا اﻵيتين ينادي ربه لكي ينقذه من نفس الشيء الذي يعاني منه. في اﻵية اﻷولى يبدو وكأنه مرض عضوي ، أما في اﻵية الثانية فيبدو وكأنه مس شيطاني.
إذا تمعنا جيدا في اﻵيات التي تأتي قبل كل آية من هاتين اﻵيتين في كلا السورتين نجد أنها تذكر أن الله سخر لسليمان الجن والشياطين. هنا نجد أن القرآن الكريم يتكلم عن الحالة الروحية لحياة سليمان ، أما في كتب الديانة اليهودية المقدسة فهي تتكلم عن الحالة المادية لحياة سليمان لذلك لا نجد أي أثر لعالم الجن والشياطين في حياة سليمان.
الحكمة اﻹلهية في طريقة ذكر اﻷحداث في الكتب المقدسة ، توضح لنا بأن عالم الجن والشياطين هو عالم رمزي وليس عالم حقيقي كما يفهمه العديد من أفراد الشعوب اﻹسلامية ،فالجن ليست مخلوقات واقعية ولكنها رمز للكائن السفلي في اﻹنسان كما شرحناه في المقالتين السابقتين (الخاطرة 59-والخاطرة 60 ) . ويمكن التأكيد على صحة هذه الفكرة من خلال ما عبر به رسول الله عن سبب غيرة زوجته عائشة رضي الله عنها ( روى عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلا ، قالت: فغرت عليه ، فجاء فرأى ما أصنع ، فقال: مالك ياعائشة أغرت؟ قالت : ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال : أفأخذك شيطانك ؟ قالت : يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال : نعم ، قلت : ومع كل إنسان؟ قال : نعم ،قلت ومعك يا رسول الله؟ قال : نعم ، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم. )
هذه الحادثة تؤكد صحة الفكرة التي طرحناها عن حقيقة عالم الجن والشياطين ، فليس من المعقول أن يدخل الشيطان بهذه السهولة في جسد زوجة الرسول. ولكن اﻷصح كما يظهر في الحادثة هو أن تكوين اﻹنسان بعد خروجه من الجنة أصبح يحوي في داخله كائن القرين (الجن) والذي يكمن في القسم السفلي من جسم اﻹنسان ووظيفته تأمين الحاجات المادية ولكن عندما يتخلى اﻹنسان عن الإيمان واﻷخلاق الحميدة والقيم السامية يتحول هذا القرين إلى كائن شيطاني كما ذكرنا في المقالات السابقة ، وهذا الكائن السفلي هو المسؤول عن كل اﻷمراض الجسدية والنفسية التي يصاب بها اﻹنسان في مختلف مراحل حياته.
الإنسان كائن ذو تكوين معقد جدا ويختلف كثيرا في تكوينه عما يعتقده أطباء النفس ، فهؤلاء ينظرون إليه ككائن حي ينتمي إلى المملكة الحيوانية وهذا خطأ فادح ، لذلك كانت الحكمة اﻹلهية في تطور علم الطب عبر التاريخ قد سار بجهتين : طب غربي، وطب شرقي. الطب الغربي وهو الطب النمطي المعروف والذي يبحث في تركيب وعمل أعضاء جسم اﻹنسان وينظر إليها كمادة حية تتألف من خلايا خالية من التأثر الروحي لذلك علاج اﻷمراض فيه يعتمد على إستخدام الأدوية الكيميائية والعمليات الجراحية لتصحيح الخلل المادي الذي تحدثه اﻷمراض.
بينما الطب الشرقي البديل فهو ينظر إلى اﻹنسان على أنه كائن روحي تسري في أعضاء جسمه شحنة من الطاقة بشكل منسجم ومتناغم تؤمن اﻹرتباط السليم بين العقل والجسد ليقوم كل منهما بعمله على أكمل وجه ضمن هدف واحد وهو تحقيق الصفاء الروحي. لذلك فهو يختلف عن الطب الغربي في المبدأ فعادة الطب الغربي يبدأ عمله بعد ظهور المرض ، بينما الطب الشرقي البديل فهو يعتمد في عمله مبدأ الوقاية خير من العلاج ، لذلك فرغم أنه يستخدم اﻷعشاب كأدوية في علاج اﻷمراض ولكنه لا ينظر إليها كمادة كيميائية تقوم بقتل الجراثيم أو بتعديل الضغط أو الحرارة كما يحدث في الطب الغربي ، ولكن ينظر إليها كمادة منظمة لسريان الطاقة ، ،أما الطرق اﻷساسية التي يستخدمها الطب الشرقي لتأمين حالة توازن بين وظائف الجسد والعقل وإنفعالات الروح ، فهي تعتمد على ممارسة نوع من الرياضة الروحية ، كممارسة اليوجا ، والتأمل السامي ، والمساج ، وكذلك يحاول معالجة اﻷمراض عن طريق التنويم المغناطيسي والوخز باﻹبر والعلاج باﻷوان.
كلمة اليوجا في اللغة السنسكريتية تعني ( التوحيد) والمقصود منها هو التوحيد بين الروح والجسد والذي يحدث عندما يتم اﻹتحاد بين العقل والجسم بهدف اﻹتصال بروح الخالق. وبمعنى أوضح هو توحيد الكائن السفلي مع الكائن العلوي عن طريق إيجاد حالة توازن بين عمل كل منهما بشكل يضمن لذلك الجزء من روح الله في الكائن العلوي للإنسان السيطرة المطلقة على وظائف أعضاء الكائن السفلي.
إذا تمعنا جيدا بمبدأ عمل اليوجا سنجد شبه بينها وبين الصلاة في اﻹسلام ،فصلاة المسلم هي في الحقيقة نوع من الرياضة البدنية والروحية هدفها إحداث وحدة بين الصحة البدنية والعاطفية والروحية عن طريق التركيز الفكري والتأمل أثناء الصلاة والتي تسمح له الدخول في علاقة منسجمة بين روحه هو و روح الله، ولكن حتى تحقق الصلاة هدفها هذا يجب أن يكون المسلم بكامل خشوعه أثناء الصلاة ﻷنه في تلك اللحظة يكون في إتصال روحي مباشر مع الروح اﻹلهية ، ولكن عندما تكون الصلاة تلاوة ببغائية ﻵيات القرآن ( كما يحصل اليوم ) دون ظهور أي إحساس برهبة التواصل الروحي مع الروح اﻹلهية، عندها روح المسلم لن تشعر بهذا التواصل وستفقد الصلاة معناها الروحي. وتتحول إلى رياضة بدنية لها فائدة جسدية أكثر من فائدتها الروحية .
الصلاة في الديانات السماوية الثلاث بشكل عام تعتمد على التركيز والتأمل من خلال تلاوة آيات من الكتب المقدسة ، هذا النوع من الرياضة الفكرية الروحية تساعد على تقوية الشعور بذلك الجزء من روح الله في داخل جسد المؤمن ،فكلما كان الشعور بهذا الجزء الروحي أقوى كلما كانت سيطرته على الكائن السفلي أقوى ، وهذا يخلق نوع من التوازن في عمل العقل و جميع أعضاء الجسم.
حسب مبدأ الطب الشرقي البديل أن اﻷمراض التي تصيب اﻹنسان جميعها مصدرها اﻷرواح الشريرة والشياطين ، تماما كما نوه عنها القرآن الكريم في حالة النبي أيوب عليه الصلاة والسلام ، فالمقصود هنا من الشياطين واﻷرواح الشريرة ليس مخلوقات تعيش في عالم غير مرئي ولكن المقصود بها هي الكائن السفلي للإنسان. وعلى هذا اﻷساس ظهر الطب الشرقي وتطور ليستطيع حل مشكلة القسم الروحي من تلك اﻷمراض التي تنشأ بسبب خلل توازن العلاقة بين الكائن السفلي والكائن العلوي والتي تنشأ منها تلك الحالات النفسية التي تصيب اﻹنسان والتي في علم الطب الغربي تسمى أمراض نفسية ( انفصام ، هذيان. ..إلخ ) وبالنسبة للرقاة فتسمى مس شيطاني. لذلك للوصول إلى علاج شامل لهذه الإضطرابات النفسية لابد من إتحاد الطب الشرقي مع الطب الغربي ، ليتم تحديد الأسباب من جذورها ليتم القضاء عليها ليصل المريض ( الممسوس ) إلى الشفاء الكامل.
أعود وأؤكد في نهاية المقالة ، أن عالم الجن والشياطين هو عالم رمزي ليس له أي وجود مادي.
وسوم: العدد 644