لِكُلِّ بَلَدٍ حَفاتِرُهُ
لكل بلد حفاتره ـ أو في كل قطر حفتر ، هل هما مثلان من أمثال العرب القديمة ؟ أم استجدَّت في واقعنا المعاصر ؟ أم أنَّ مجامع الأمثال العربية تضم ما يشبههما ، ويتلاقى مع فكرتهما ؟
لو فَتَّشنا كتب الأمثال لوجدنا ما يوحي بالمعنى الذي أردناه في هذه المقالة ، ومما جاء من أمثالنا العربية فيما يشبه هذا الحال الذي نراه في كثير من دولنا العربية :
ـ لكل ساقطة لاقطة . أي لكل كلمة يخطئ فيها الإنسان مَنْ يتحفَّظها فيحملها عنه .
ـ في كلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ .
ـ لكل قَذَرٍ فَدِرٌ : أي أحمق .
ـ ولِكُلَّ زَعْمٍ خَصْمٌ . أي لكل مُدَّعٍ خصم يباريه ويناويه. يضرب عند ادعاء الإنسان ما ليس له .
ـ لـِكُلِّ قَومٍ كَلْبٌ، فلا تَكُنْ كَلْبَ أَصْحَابِكَ .
ـ لِكُلِّ جَيْشٍ عَرَاةٌ وَعَرامٌ . أي فَسَاد وشر .
لِكِلِّ قَضَاءٍ جَالِبٌ، ولِكُلِّ دَرٍّ حالِبٌ .
وبكل واد بنو سعد ، كما في كل بلد حفاتره .
وفي ظل التمزق والضعف والانهيار ، وهيمنة قوى الشر ، تضعف بعض النفوس التي لا إيمان لها ، فيأتي شيطان الهيمنة فينفخ في أنوفها بأنها الأحق ، والأفضل ، والأقوى ، وأنَّ غيرها لا يستحق المكانة التي هو فيها ، فتنتفخ فيها " الأنا "وتتضخَّم ، حتى تغدو كبالونات الفضاء ، تنظر من علوٍ ، وتتشامخ بأنفها ، وهي تعلم ضآلتها ، وضعفها ، وقلة حيلتها . ومع هذا النفخ المستمر تتعمَّق في قناعاتها نظريةُ إلاحلال ، ويتحوَّل التساؤل لماذا لا أحلُّ مكان فلان ، ومعي شيطاني ينفخ في أنفي ؟ إلى فعلٍ يسيطر على كلِّ حواسها ومشاعرها ، فتقوم هي بعملية النفخ ، وتحلُّ محلَّ شيطان الهيمنة في النفخ في صدور أشباهها من أشباه الرجال ولا رجال ، فيتجمع حولها زمرة من البطالين والعاطلين ، وسفلة القوم ، فيصبحون رأس حربة في تمزيق بلادهم ، وقتل أهليهم ، وتدمير أمنهم .
ونحن نرى أنَّ من يبحث يجد ، فالقلوب الواهنة ، والعقول المريضة ، والنفوس الضعيفة إذا حرَّكنا لها حوارها تحن ، فبمجرد تحريك الشهوات ترى الساقطين في حمأة أحضان الأعداء ، ويُخيَّل إليهم ، وهم يخدمون أعداء بلادهم ، أَنَّهم أصحاب حق ، كما يراهم أتباعم .
وأمثلة التاريخ ناطقة بهذه الحفترية التي تنبت في مستنقع التخلف والضعف والهوان ، ففي الأندلس أصبح حتى من هم من ذوي الهمم الساقطة ينظرون لغيرهم من ملوك الطوائف وأمرائها نظرة التنافس ، فإذا أصبح فلانٌ وهو من هو في ضعة أصله ونشأته أميرًا ، فلماذا لا أصبح أنا ؟
وَيُرْوى عن الشاعر أبي بكر بن عمار أَنَّ شيطان الهيمنة الإسباني نفخ فيه ، فأصبحَ يرى أنَّ المعتمد بن عباد ــ على الرغم من المحبة والصداقة التي عُقِدَت بين الأمير والشاعر ــ لا يختلف عنه في شيء ، فهو شاعر وأنا شاعر ، وله سيف ، ولي سيف ، فلماذا لا أكون أميرًا ؟ فبعد أن كان يقول فيه :
لبيكَ لبيكَ من مُنادٍ = له الندى الرَّحْبُ والنَّدِيُّ
ها أَنا في البابِ عَبْدُ قنٍّ = قِبْلَتُهُ وَجْهُكَ السَّنِيُّ
صار له منافسًا وعدوًّا ، بل صار يهجوه ، حتى أمسك به المعتمد وقتله .
فدعته نفسه الأمّارة إلى الحلم بالإمارة ، فعمل عليها حتى أهلك نفسه ، وأَهلَكَ معه خلقٌ كثير .
ولذلك وجدنا الكثير من هذه النفوس الضعيفة تستقوي على بلادها وأهلها بقوة هيمنة الأعداء ، وتنزو على الحكام ، أو تقيم حروبًا مع شقيقاتها من الإمارات الأخرى ، التي تشبهها في الضعف والتآمر .
ولقد ورد في كتب التاريخ أَنَّ بلاد الشام وصل تعدادها إلى سبع عشرة إمارة في فترة الصليبيين ، ولولا أنَّ الله عز وجلَّ هيَّأ لهذه الأمة أمر رشد ، وقيَّض لها سلطانًا تقيًّا ، نقيًّا ، مجاهدًا ، عادلا ، لوجدنا مئات الحفاتر ، ولتحوَّلت بلاد الشام إلى سبعمائة ولاية . وَ لَوَجَدْتَ لواءَ الحفترية يرفرف على كلِّ قرية ، تنتفخ وتدَّعي أنَّها دولة .
وفي بلادنا العربية في معظم أقطارها تستطيع أنْ تعثر على الخلايا الحفترية القائمة والنائمة ، القائمة متوثبة ، والنائمة تستعد للوثوب ، فهل من خلاص لنا من هذه الحفترية التي ترى نفسها أنها غزالة البلد؟ ، وكما جاء في الأمثال : " بَلَدٌ أَنْتَ غَزَالُهُ، كَيْفَ باللهِ نَكالُه ؟ " إِن طريقة الخلاص تكمن في وحدة الأمة وقوتها ، فعندما يضعف ملك الغابة تتسلطن السراحين ، وتتبوأ الثعالب المناصب ، ألا إنَّها محنةٌ وابتلاءٌ ، والخروج منها يكون بالتمسك بديننا الذي هو عصمتنا من خلايا الحفترية وأدوائها ، ولعلَّ مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام ) هي الأساس الذي نعيد فيه إلى الأمة مكانتها وعزَّتها ، فينكفئ الحفتريون في جحورهم ، يبيتون بياتهم الشتوي بانتظار صيف الضعف والتمزق والهوان ، فهم لا يعيشون إلا كما تعيش الهوام على الرمم ، ولا يطيرون إلا كالخفافيش في حلكة الظلام الدامس .
وسوم: العدد 645