عمالكُم أعمالُكم، لماذا نلوم رؤساءنا ونحن باللوم أحق؟
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية:
.. وكانت همَّة الوليد في البناء، وكان النّاس كذلك يلقى الرَّجلُ الرّجلَ فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟ وكانت همّة أخيه سليمان في النساء، فكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ وماذا عندك من السَّراريّ؟
وكانت همَّة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك يلقى الرّجلُ الرّجلَ فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كلَّ يوم؟ ماذا صليت البارحة؟
والناس يقولون الناس على دين مليكهم: إن كان خماراً كثر الخمر، وإن كان لوطياً فكذلك، وإن كان شحيحاً حريصاً كان الناس كذلك، وإن كان جواداً كريماً شجاعاً كان الناس كذلك، وإن كان طماعاً ظلوماً غشوماً فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك!
يُنظر: البداية والنهاية ، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعةالأولى 1408هـ - 1988م، ج9/ 168.
قال تبارك وتعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) الأنعام: 129
لماذا نلوم الزّعماء؟
موقف نهائي حاسم فاصل يوم القيامة، يجسد عقبى استعداد الناس للانحدار، و(الاستحمار) وقبول الباطل ودعمه، بجانب نذالة إبليس لعنه الله، حين يخطب في (جمهوره) وأتباعه، ومن ماتوا في سبيله! خطبة أليمة وجيعة كاشفة فاضحة: (إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)! ابراهيم : 22.
نعم: (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) هذه هي خُلاصة المشهد، وحقيقة الحقائق، فإبليس قام بدوره مستغلاً استعداد بعض الناس، وارتكاس بعض الناس، وتشيطن بعض الناس، وبيع آخرين نفوسهم بالكامل له: دنيا وآخرة، عقولاً وأرواحاً، أموالاً وأولاداً وأعراضاً!
وكثيراً ما يأخذ الشيطان شكل زعيم أساسي، أو رجل اقتصاد، أو عالم دين، أو أراجوز ترويح، أو غير ذلك مِمَّا يغير به إبليس (الزعيم الكبير) كل ما حوله، ليصب في طريق واحد: تدمير الخير والقيم والأخلاق في الدنيا، وتدمير الآخرة، نشر العبودية والفساد والقبح والزنا والربا والمخدرات والقوادة والانحرافات كلها في الدنيا، والمصير الأربد الأسود الأنكد في الآخرة..
لكنه دائماً يجد أنصاراً بالعشرات، أو الألوف، أو الملايين، أو الملايير، ينحنون له، ويقدمون القرابين، كما يعيش طاغية فاسد على أعناق شعبه عشرين وثلاثين وخمسين سنة، يمص دماءهم، ويكسر أنوفهم، وينهب أموالهم، وينتهك أعراضهم، ثم يخرجون له هاتفين:
بالروح بالدم نفديك
تسلم الأيادي
يا بتاع يا حبيب الملايين
ثم تراهم إمعاناً في العبودية والذّلة، يتصدّون – بضراوة – لكل من يحاول أن يواجهه، أو أن يطلب لهم حقوقاً، ويجتهد لينقلهم لحياة الآدميين!
وإذا مثل أحدهم دور الشريف، وأراد أن يستريح من كثرة ما (هبش) خرج من يطالبونه بالبقاء مدى الحياة – باسم الوطنية والوطن والدين، وأقنعوه – من غير يمين – أنه واهب الحياة، وأن الشمس بدونه لن تطلع، والمطر لن ينزل، والزرع سيصوح ويموت!
بل إن أحدهم لمَّا تنحى – في تمثيلية بعد هزيمة فاضحة ورَّط فيها الأمة – خرج ملايين يطالبونه بالعودة، لتحقيق مزيد من الهزائم والجوع والانكسار، ولما مات خرجوا يلطمون ويصرخون، ويتوسَّلون رمته أن تعود للحياة، فهو القائد، وهو الوالد، وهو الأول وهو الآخر.
فإذا حدث وأزاله بعض الأحرار – بشكل ما – اجتهد العبيد بكل ما يملكون في استعادته، كما في الحالة العربية العتيدة مع مبارك، والقذافي، وزين الفاسدين، وعلي صالح، وبشار، وكما في سائر حالات الفساد في أفغانستان والباكستان والشيشان والصومال والبنغال، ودول القرن الأفريقي.. بل وأفريقيا كلها!
والأمر بسيط جداً، واضح جداً، فإن منهم لا تستقيم حياته إلا مع الشيطان، لكونه شيطاناً إنسياً، ومنهم من يؤثر العافية ويكره التضحية، ويريد الحياة – أيَّة حياة – ولو أُهين وصفع على قفاه، ومنهم من أدمن العبودية والذلة، حتى صارت أسلوب عيش، فلا يرى الدنيا بغير منظور العبد، تماماً كخنافس الروث (الجعلان) التي تعيش بـــ.... ووسطه، فلو شمت رائحة طيبة ماتت!
يروي الدكتور محمد عباس حفظه الله تعالى عن أخلاق العبيد قصة سمعها من رجل سعودي منذ عقود: كان الملك فيصل قد أصدر قانون إلغاء الرق عام 1962، وقبلها بنحو 85عاماً كان قد صدر في مصر قانون مماثل، كان أبوا الرجل – وهو بالتالي – من العبيد. ولكم أحسوا بالضياع عند صدور قرار تحريرهم، قال لي إنهم شعروا أنهم يسقطون في هوة لا قرار لها، وأنهم اعتبروا الحرية كارثة لا قبل لهم بمواجهتها! فلقد عاشوا عمرهم عبيداً لا يتخذون قراراً، بل كان من حق سيدهم ومولاهم أن يتصرف فيهم كما يشاء، وأن يفعل بهم ما يشاء، وأن يعاملهم دون الحيوان إن شاء... فإن كان قويم الأخلاق فبها ونعمت، وإن كان بلا رحمة مارس استعبادهم بقسوة، وانتهك الرجال والنساء مختلف أنواع الانتهاك.
قال لي الرجل إنهم بالرغم من هذا كله ذهبوا إلى سيدهم وسفحوا الدمع الهتون بين يديه، وهم يتوسلون إليه أن يبقيهم عبيداً، ولا يحرّرهم! ويا لطيبة قلبه! لقد استجاب لتوسلاتهم ووافق.. وتمّ الاتفاق على استمرار عبوديتهم مقابل إطعامهم.
هل يفسر ذلك ما يحدث لنا الآن؟ وهل له علاقة بالأمر المذهل الذي نراه ولا نكاد نفهمه أو نستسيغه.. لقد عامل الدكتور محمد مرسي الكثيرين معاملة كريمة ورحيمة: الكثيرين ومنهم الكتاب والشرطة والإعلاميون والمسؤولون في الدولة! وكان المتوقع أن يشعروا بامتنان شديد لعهد التحرر من صكوك عبودية العسكر! لكنهم تمردوا عليه: وبدا منهم أسوأ ما عملوا، حتى عاد العسكر يحكمون مرة أخرى، فإذا بهم يستعيدون كل أخلاق وخضوع العبيد! وإذا بالضوضاء الهائلة والبلطجة التي أبدوها تجاه الرئيس الذي احترم آدميتهم تنتهي تماماً، ليكون سقف حريتهم هو بالضبط نعل البيادة، أي بيادة، وكل بيادة!
وقد عبر العبقري شرف الديك أبو ريشة (بيرم الحادي والعشرين) عن شيء من هذه الحالة، في زجليات قال في إحداها:
عليك ألف لعنة .. يا شعب الغنم
يا قايم .. ونايم .. تلمَّع صنم
يا طارح فراعنة ... وكُلَّك خَدَم
يا زارع .. وقالِع .. وبايت جَعَان
وغَارف .. وعَالف .. بِطانةْ هامان
يا شايف .. وعارف .. وراضِي الهوان
تلَمْلِم حَاجَاتَك .. وتِخْلي المكان
وح تسيب لِباسَك تبَرّع عشان
حَ نِعْمِل لـــ "سِيسَك" .. مَسلّه وهَرم
وقال أيضاً:
وقبله قال بيرم التونسي:
يا مصري وانت اللي هاممني .. من دون الكل
هزيل ويحسبك الجاهل .. عيان بالسل
من دي الكفوف التي تصبَّر .. على كتر الذل
ونمت والعالم فايق .. قوم بص وطل
وشوف الشعوب واتغص ودوب .. وارجع إنسان
يا شرق فيك جو منور .. والفكر ضلام
وفيك حرارة يا خسارة .. وبرود أجسام
فيك سبعميت مليون زلمة لكن أغنام
لا بالمسيح عرفوا مقامهم .. ولا بالإسلام
هي الشموس بتخلي الروس كدا هو بدنجان!؟
كما قال صلاح جاهين، وهو مِمَّن صنعوا الصنم، ودهنوه ولمعوه، وروجوا لعبادته سنين طويلة ثقيلة، حتى اتضح له غباؤه وتورطه:
يا شعب نايم ع الرصيف .. وبالمقشة بتتكنس
فيك ناس بتشقى ع الرغيف .. وناس بتتعب م التنس
عجبى!
وقد اخترع العبيد أمثالهم وفلسفتهم لتبرير الذل والقبول به، فهم الذين قالوا:
إن كان لك عند الكلب حاجة قول له: يا سيدي
أنا عبد مأمور
امشي جنب الحيطة
من خاف سلم
الحيطان لها ودان
عيش جبان تموت مستور
ودن من طين وودن من عجين
اللي يجوّز أمي أقول له يا عمي
اربط الحمار مطرح ما يقول لك صاحبه
لو جه الطوفان حط ابنك تحت رجليك
وأنا مالي
احنا هانصلح الكون
كله مقدر ومكتوب
لهم الدنيا ولنا الآخرة
هايسخطوك يا قدر هايعملوا إيه
اللي تعرفه أحسن م اللي ما تعرفوش..
وغيرها من المخدرات والمثبّطات التي تجعلهم يرضون بالمهانة والجوع والعشوائيات والفقر والجهل والمرض!
وفي حوار أجراه أ. محمد علي خير مع الدكتور أحمد عكاشة (وهو من جند السلطان) عن الطوارئ التي حوَّلت أخلاق المصريين إلى أخلاق العبيد، أقتطف فقرات توضِّح المراد (بتصرف يسير، واختصار كثير):
- لقد وصلنا إلى حال أصبح كل إنسان في مصر (حاطط إيده في جيب الآخر) بسبب انهيار الأخلاق، وغياب القدوة! وإن وجدت فهي سيئة:
والطالب في المدرسة يعرف أن المدرس لا يشرح بضمير حتى يذهب التلميذ إليه للحصول على درس خصوصي، والناظر يعرف ذلك، وموافق عليه...
وعندما يكبر هذا الطالب وينضم للمجتمع يكتشف أن كل واحد في مصر يستطيع الحصول على ما يريد بالفهلوة.. فكيف تريد للضمير أن يتكون!
إن انهيار القيم الأخلاقية داخل أي مجتمع يعني انهيار الدولة.. لأن نمو أي بلد في العالم لا يعتمد على القوى السياسية أو الاقتصادية بل على الأخلاق.. ورحم الله من قال: كل شعب يحكم بما يستحق.
- إنَّ بقاء البطانة في أماكنها مرهون دائماً بقدرتها على نفخ ذات الحاكم أو المسؤول، وتأليهه، حتى يقتنع في نهاية الأمر أنَّ أي نقد يوجه إليه هو بمثابة خيانة، وليس مجرد رأي آخر!
عندئذٍ يصبح الحوار مع هذا المسؤول صعباً جداً حيث لا ينتهي إلى شيء.. فالبقاء الطويل في السلطة يخلق نوعاً من الإنكار للحقائق لمدة طويلة.
والبطانة تقنع نفسها أن بقاء الحاكم في السلطة يعني بقاءها، والعكس صحيح!
- زادت الصورة تعقيداً عندما نظرنا لأنفسنا كما لو كنا أطفالاً، وزاد من هذا الشعور أنَّ حكامنا المصريين جعلوناً فعلاً أطفالاً، عندما طلبوا منّا ألا نفعل شيئاً سوى السّمع والطاعة مقابل توفيرهم المأكل والمشرب والعمل لنا!
ثم تمثلت الصعوبة النفسية في اعتماد الشعب كليّةً على حاكمه، واعتباره بمقام الأب، لأن الأبوة هي التي توفر الطعام والشراب، لذا حدث مشهد فارق، ويحمل دلالات كثيرة، حيث لم يحدث في تاريخ العالم كله أن جرت هزيمة نكراء لحاكم، ثم ينزل الشعب إلى الشارع ليطالبه بالبقاء، و(يتحايل عليه) بعدم ترك السلطة، بل يبكي أفراد الشعب ويتوسلون لهذا الحاكم المهزوم أن يستمر في الحكم، ولا يغادرهم! وهذه كانت غلطة الشعب الذي رفض أن يكبر، وظل طفلاً، ورأى أن أباه هو الحاكم!
وعندما تكون طفلاً، وتستمد الحماية من أبيك، ثم يخطئ هذا الأب أو تتم هزيمته، فستقول له فوراً – وبطريقة لا شعورية – لا تتركني! فكيف تعيش كطفل دون أب!
- لكن هناك مفارقة عندما تقارن بين وضع المصريين أيام الاحتلال وحالتهم مع حكامهم المصريين: لقد أنجز المصريون كثيراً وكبروا وهم مستعمرون.. ويكفي أن أذكر أننا كنا نمشي على أقدامنا لأننا كنا مسؤولين! وقبل أن يحكمنا مصريون!
أما الآن فقد أصبحنا نحبو ولا نتكلم حيث عدنا إلى الطفولة بل الرّضاعة! واستمر الحال من الرضاعة للحبو ثم الطفولة، وانتهينا إلى سريان مشاعر الخوف واليأس!
- عقود عديدة والمصريون يعيشون تحت حكم الطوارئ، والطوارئ تؤدي إلى تغيير الأخلاق، إذ تعني الاستسلام والخضوع والخوف! وهي لا يمكن أن تُنتِج إنجازاً أو تقدماً!
- وقد تغيّرت الشخصية المصرية لخمسة عوامل: هزيمة 67 التي أدّت إلى انهيار الهوية القومية.. ثم جرت اتفاقية كامب ديفيد، التي ألغت الانتماء عند المصري، إلى البلاد الإسلامية أو العربية، بل أصبح منتمياً إلى الهوية المصرية، وفي الهوية المصرية لا توجد قومية، لأن المصرية تعني أن تكون مقهوراً ومقموعاً!
ثم التحول إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي عندما أصبحت الفلوس سهلة جداً بسبب الفهلوة، وضاعت قيمة ومعنى العمل الجاد.. وستجد أن ثروة غالبية الأغنياء في مصر بالأراضي، وفهلوتهم في الحصول عليها (إضافة إلى أسباب أخرى) فمن النادر أن تجد غنياً كوَّن ثروته بسبب العمل، أو إقامة المصانع، وانتشرت بين المصريين الثقافة الاستهلاكية.. وكان الانفتاح أخطر ما يمكن..
ثم جاء قانون الطوارئ ليكمل المنظومة! فالطوارئ تؤدي إلى انتشار أخلاق العبيد بين المواطنين، والمواطن تحت حكم الطوارئ ممكن (يتبهدل دون سبب) ويسجن دون سبب، وهذا الإحساس يجعله جباناً، وخائفاً، ومستسلماً.
فلماذا إذاً نلوم الزعماء وحدهم؟ تعالوا نر لماذا:
لماذا وقد علّمتنا الأيام أننا لا نجني من الشوك العنب! ولا نستخلص العطر الأصيل إلا من الورد، ولا نستخرج من المزابل إلا الدود والعفن والروائح الكريهة...
وقد أكد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى حين قال فيما رواه الشيخان عن سيدي أبي موسى رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (مثلُ الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكِيرِ الحدَّاد، لا يَعدِمُكَ من صاحب المِسك: إما تشتريه أو تجد ريحه، وكِيرُ الحداد: يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجدُ منه ريحاً خبيثةً)!
وفيه عنه رضي الله تعالى عنه في نص آخر مرفوع: (مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخِ الكير، فحاملُ المسك: إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منهُ ريحاً طيبة، ونافح الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثةً).
وقد ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حتى صاروا ربانيين، يؤثرون الآجلة على العاجلة، ويفدون دينهم بأرواحهم، حتى شفًّت نفوسهم بدرجة عالية، كما أورد مسلم عن سيدي حنظلة ابن حذيم الحنفي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرشكم وفي طرقكم)!
وحتى إن الشيطان لعنه الله كان يفر من أحدهم لرسوخ إيمانه، وثقل كفته: كما ورد في مسلم عن سيدي سعد رضي الله تعالى عنه أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال للفاروق عمر رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطانُ قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) وحتى خرج منهم الصديق، والفاروق، وذو النورين، وأسد الله الغالب، وأمين الأمة، وسيف الله المسلول، وخديجة السيدة، وعائشة الحميراء، وأشباههم من الغر الميامين، رضي الله تعالى عنهم أجمعين!
وحتى أنزل الله العلي العظيم من فوق سمواته تحيته لبعضهم: ففي مسلم وغيره عن سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (أتى جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتتك، معها إناءٌ فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شرابٌ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل، وبشرها ببيتٍ في الجنة من قصبٍ، لا صخب فيه ولا نصب)!
وحتى مدح الله تعالى في غير ما سورة من كتابه العزيز: وانظر: التوبة 100/ الفتح: 18 / الفتح: 29/ الحشر: 8 – 10 وغيرها تجد مصداق ذلك!
وكان أكثر الخير في القرون الثلاثة الفاصلة الأولى، كما ورد البخاري وغيره عن سيدي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس خيرٌ؟ قال: (قرني، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلُونهم، ثم يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)!
فلما شاب الناس دينهم ببعض الدنيا، بدأت الأمراض تتسللل إلى نفوسهم وحياتهم، ويعتريهم من الخلل بقدر ما ضربتهم الدنيا، وقد قال ربنا تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير) الشورى: 30، وأثر عن سيدنا ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور)...
ثم تمادى الناس فتمادى بهم البلاء، حتى فسد كل شيء، كما ورد في مسلم وغيره عن سيدي ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي، إلا كان له من أُمته حواريون وأصحابٌ، يأخذون بسُنته، ويقتدون بأمره ثم إنها تخلفُ من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل).
فإذا صار الفساد هو القاعدة أهلك الله الأمة جزاءً وفاقاً، وضرب دنياها وأخراها، كما قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى) طه 124، ويقول عز من قائل: (أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً) الإسراء: 16، وفي البخاري وغيره أن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم، إذا كثر الخبث)!
من أين يأتي الفساد؟
للفساد منافذ يدخل منها ليضرب الأمة في مقاتها، ويقضي على حضارتها، كما نلحظ من استقراء التاريخ، وقد فصلت ذلك في كتابي عن سقوط الحضارات، ومن أخطر وأوسع المنافذ التي ينفظ منها:
* أولاً: من الحاكم الفرعون.. لعنة الله على كل فرعون:
من أسوأ منافذ الشر على الأمة رأسها الذي يمكن أن يأتي منه الفساد: كسرى أو قيصر أو فرعون أو إمبراطور.
رئيس أو أمير أو ملك أو سلطان.
نظام عالمي، أو حلف، أو تحالف:
فهذه النوعية من الناس تغتر كثيراً بجيوشها وأموالها وسطوتها، حتى يخيل لها أنها آلهة أو حاكمة باسم الله، وأنّ لها سلطة التحليل والتحريم، وقدرة الإحياء والإماتة، كما قال الأحمق النمرود: (أنا أحيي وأميت) البقرة: 285، وكالغبي فرعون الأعمى البصيرة الذي قال لقومه: (أنا ربكم الأعلى) النازعات: 24، والذي تعجب ورفض أن يعرف المؤمنون ربهم الحق، ويتخذوه إلهاً من دونه: (ما علمت لكم من إله غيري) القصص: 38
وهذا النوع من البشر المرتزقة أو العميان أو المضلِّلين يجد من يصفق له، ويمجده، ويشيع مقولاته على أنها الأكمل والأتم، والأصدق، وينبني على ذلك طاعة خفاف الأحلام ضعاف الرؤية: (فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين) الزخرف: 54.
وقد رأينا ما فعل حكام مستبدون طغاة كصدام ومبارك والأسد والقذافي، وهتلر وموسوليني وكرازيديتش، وما فعل متألهون مستعظمون كجونسون وريجان وبوس وأوباما، وما فعل نظام أو تكتل كالناتو ووارسو، والتحالفات على الشعوب، من دمار للبشرية هائل، كما حصل في الحربين الأولى والثانية، وفي فييتنام، والشيشان، والبلقان، وأفغانستان، والعراق، وسوريا، ومصر، وغيرها..
* ثانياً: النخب الفاسدة حول الحاكم المجرم:
ومن أخطر أبواب الفساد: النخب التي سماها القرآن (الملأ) ولم يذكرهم غالباً – خلال 30 مرة ورد فيها اللفظ في المصحف الشريف – إلا في معرض الذم والتقبيح، لكونهم مصدر الإفساد للدين والدنيا!
* فهم الكافرون: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه: لئن اتبعتم شُعيباً إنكُم إذاً لخاسرون) الأعراف: 90!
* وهم المُثِّبتون لأركان الكفر والضلال والانحراف: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم) ص:6!
* وهم المُحرِّضون: (وقال الملأ من قوم فرعون، أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، ويذرك وآلهتك) الأعراف: 127.
* وهم المُتآمرون: (قال يا موسى: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج) القصص 20!
* وهم المُنفذون لأوامر الفرعون: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إلهٍ غيري، فأوقد لي يا هامان على الطين، فاجعل لي صرحاً، لعلي أطلع إلى إله موسى) القصص: 38.
* وهم الفتّانون: (فما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه، على خوفٍ من فرعون وملئهم أن يفتنهم) يونس: 83.
* وهم المستكبرون: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنك يا شعيب) الأعراف: 88/ (إلى فرعون وملأه فاستكبروا، وكانوا قوماً عالين) المؤمنون: 46!
* وهم الظلمة: (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملأه، فظلموا بها) الأعراف: 103!
* وهم السَّاخرون من الأنبياء والمصلحين: (ويصنع الفلك، وكلما مرَّ عليه ملأٌ من قومه سخروا منه) هود: 38
* وهم أصحاب المال والدنيا: (وقال موسى: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك) يونس: 88!
وهذه النخب أقسام وأنواع: أهمها:
- النخب الاقتصادية: كقارون مع فرعون: وكان إمبراطور المال بلا منازعة، جمع ماله (بالفهلوة والشطارة) والحذق التجاري، وأيقن أنه لا فضل لأحد عليه – حتى الله تعالى – فقال: (إنما أوتيته على علم عندي) القصص: 78! ومثل هذا لا يبالي بقيم ولا دين، ولا رب ولا آخرة، كما نلمس من الرأسماليين الكبار، فرأس المال لا دين له، ولا قيم فيه، فالمهم الربح، حتى لو باعوا الدم الفاسد، وتاجروا في الأعضاء البشرية، وفي المخدرات، وباعوا الوطن أرضاً وشعباً! وكم في بلاد المسلمين من قوارين يتضاءل دونهم ما كان عند قارون!
وكلنا نعلم ما حصل من ضرب للاقتصاد العالمي مرات عديدة، وعبثهم بمقدرات الشعوب، دون أن يبالوا بالبشر بالة، أسأل الله تعالى أن يكفي الأمر شرورهم وقساوة قلوبهم.
- النخب السياسية: وهي التي تعد البرامج للفرعون، وتكتب لهم خطاباته، وترسم استراتيجياته، وتتحكم فيه، وتنفخ في سحره أنه الزعيم الأوحد، وأنه على كل شيء قدير، وأن الوطن بدونه منهار منتهٍ! وهم الذين يعقدون الصفقات مع أعداء الوطن، ويتاجرون بمصيره ومستقبل أجياله، ومثلهم في ذلك هامان وزير فرعون مصر، وكم في بلاد المسلمين من هوامين يتضاءل دونهم ما فعل هامان الفرعوني! فهم الذين يملكون، ويخططون، ويصورون، ويتجسسون، وينفذون، وعندهم غرف جهنم، ويحركون الجيوش، والأعوان من غرف نومهم!
قاتلهم الله أنَّى يؤفكون، ربنا آتهم ضعفين من العذاب، والعنهم لعناً كبيراً!
- النخب الدينية: وهؤلاء أيضاً من أكبر أسباب الفساد، فكما كان كهان فرعون يوقدون له البخور، ويضفون عليه البركة، ويعطون أفعاله المشروعية، ويوجهون الشعوب للسجود له باعتباره ابن آمون، تماماً وجدنا الهيئات الدينية الرسمية التي تعيش في ظل النظم الشيوعية والعلمانية والملحدة! فلكل فرعون من أولئكم وزير شؤون دينية، وكبير مفتين، وهيئات إسلامية، ومؤسسات وقفية يعود ريعها عليه، وهم المتخصّصون في صك الفتاوى – حتى بالقتل والحرق والاستئصال – ضد خصوم فرعون! عليه وعليهم لعائن الله تعالى!
- النخب الإعلامية: التي تخايل الناس، وتصنع توجهاتهم وقناعاتهم، وتسلبهم عقولهم وتريهم ما لا يرون، وهم سحرة فرعون، الذين يلقون حبالهم وعصيهم، حتى ليخيل للناس من سحرهم أنها تسعى، وحتى (سحروا أعين الناس، واسترهبوهم، وجاؤوا بسحرٍ عظيم) وتتمثل في عصرنا في قنوات، وصحف، ومجلات، ومثقفين أُجراء، وفنانين فتانين، وهم الذين يغدق عليهم فرعون، وبقربهم (... قالوا: إنّ لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين، قال نعم، وإنكم لمن المقربين) الأعراف: 113 – 114، وعصيهم الآن: برامج، وتمثيليات، وأفلام، ومسرحيات، ومقالات، واحتفاليات، يحقون فيها الباطل، ويبطلون فيها الحق، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً!
قاتلهم الله أنى يؤفكون!
- النخب العسكرية: وهم جند فرعون وذراعه التي بها يبطش، وسلاحه الذي به يستأصل، وهم الذين فتكوا بجيل من الأطفال الرضع زمن نبي الله موسى عليه السلام، كما يحصل من فراعين اليوم الذين يستأصلون الأطفال، ويستحيون النساء، بل إنهم لا يعرفون إلا القتل والذبح، والصلب، والتعذيب: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب: يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم) البقرة: 49.
قال: (آمنتم له قبل أن آذن لكم؟ إنه لكبيركم الذي علمكم السّحر، فلأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمُنَّ أينا أشد عذاباً وأبقى) طه: 71.
وواضح تماماً أن فرعون بدون هذه النخب بلا وزن، ولا حول، لذا فإنهم جميعاً عند الله تعالى في كفة واحدة: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) القصص: 8. (فلما آسفونا انتقمنا منهم، فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفاً، ومثلاً للآخرين) الزخرف: 55 – 56، (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم، وهو مليم) الذاريات: 40.
ألا لعنة الله على الظالمين!
* ثالثاً: ويأتي الفساد من الشعب إذا اشترع الفساد والباطل والمعصية:
وذلك كقوم هود الذين قالوا لنبيهم عليه السلام في عناد وصفاقة: (ما جئتنا ببينةٍ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين) هود: 53!
وكقوم لوط الذين استشرى فيهم الفساد، والانحراف النفسي جميعاً، حتى إنهم لما علموا بوجود ضيوف عند سيدنا لوط عليه السلام جاؤوه: (يهرعون إليه، ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال: يا قومِ هؤلاء بناتي هنَّ أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزونِ في ضيفي، أليس منكم رجلٌ رشيد) فقالوا بوقاحة واستباحة: (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد) هود: 78 – 79! فلما رأوا مخالفته لانحرافهم تمالؤوا على نفيه ومن معه: (أخرجوا آل لوط من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون) النمل: 56!
وكقوم شعيب الغشاشين المطففين، الذي عمّ فيهم الظلم والغش، فنهاهم نبيهم عليه السلام، فقالوا ساخرين مستفزين: (يا شعيب: أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟! إنك لأنت الحليم الرشيد؟!) هود: 87.
وكغيرهم من الأقوام الذين يقاتلون ويقتلون الأنبياء والصالحين والمصلحين، ويلفقون لهم التهم، ويكيلون لهم البشاعات، موالاة للباطل، واتباعاً للهوى، ومجاراة للشيطان، ودينونة للقابض على أزمة السلطة.. فبعداً للقوم الظالمين!
وعندما يفسد البنيان بهذا الطريقة (الرأس والنخب والعامة) فقد وجب عليهم العذاب! يقول تعالى: (وكم قصمنا من قريةٍ كانت ظالمة، وأنشأنا من بعدها قوماً آخرين) الأنبياء: 11، وقال تبارك وتعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميراً) الإسراء: 16، وقال القوي العزيز: (فلما آسفونا انتقمنا منهم، فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين) الزخرف 55 – 56، وقال مالك الملك: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين، وبالليل أفلا تعقلون) الصافات: 137/ 138، وقال عز من قائل: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، إن في ذلك لآية لقوم يعلمون) النمل: 52، وأشباهها من الآيات كثير.
الواقع المر
قال بيرم الثورة شرف الديك أبو ريشة واصفاً – في هجائية مرة – الاستسلام التعيس للظلم، والانبطاح أمام الغالب:
قَالَّك: اخْضع .. واركع أكثر.. واخْلع واقْلَع لَجْل العَسْكر
وافْتح حِجرَك... بُكره تمَطَّر
بكْره تشُوفوا مصر معاه.. قالَّك إيه.. قالَّك آآه
فِرقِة رقص وجَالها فريق.. مسْح الجُوخ على شَقِّ الرِّيق
صَنْف اتْعَوِّد ع التنطيق
لحس الجزمة شفَاه ودَواه.. قالَّك إيه.. قالَّك آآه
قالّك إيه.. قالّك آه... قالّك مقلب وشربناه..
قالك ثورة في نص نهار.. انزل فوّض .. للسيردار
حاسب وشك.. اوعى النار
واللي يموت .. ياما فات أعمار.. أوعى تعيّط .. كلب وغار
خليك ويَا العسكر تكسب.. خليك شاطر م الشطّار
أمّك .. أختك.. جتة أخوك
مين ح ينهنه .. ع اللي جابوك
شيخ علي جمعة قال أوباش.. واللي مفوّض .. ما يلومناش
حكم العسكر.. موش ببلاش
قالّك إيه.. قالّك آه.. قالّك مقلب وشربناه
فما هو واقعنا الآن؟
أعتقد أننا بدون أي جهد ولا صعوبة يمكن أن نلحظ حجم السلبية والانسحابية والتردد القيمي والسلوكي في حياتنا اليومية، على الأصعدة كلها:
فالجمهوريات الملكية الوراثية هي السّائدة في بلاد المسلمين كلها، حيث يملك الجالس على الكرسي كل خيوط القوة، بحيث يستطيع أن يذل شعبه كله كيف شاء، ويقصفه كيف شاء، ويدمر الدولة على من فيها كما يشاء، فلا حرمة فيها لشعب، ولا دين، ولا حرية، ولا أمن، ولا حق، ولا هوية!
والهوامين والقوارين والملأ المحيط بكل فرعون يؤلهه فوق الإله الحق، ويجعل كلمته أعلى من القرآن والسنة والقيم والخير والحق والعدل؛ بل هي ذاتها عندهم القرآن والسنة والقيم والخير والحق والعدل!
والمال في أيدي نخبة قليلة مترفة جداً، تعيش حياة فوق أحلام البشر، في بحر من الفقراء التعساء الذي يربح أحدهم في اليوم دولاراً واحداً بصعوبة، ويعيشون خارج الآدمية، والمنطق، والحضارة، وأبسط حقوق الإنسان!
واستباحة الربا صارت أساساً في الاقتصاد، حتى انتقل إلى أفراد مرابين مصاصي دماء يعيشون على (الفايظ) وينتعشون على دماء فقراء يستحيل عليهم أحياناً أن يسدوا الدين فضلاً عن الفائدة!
والرشوة صارت أساساً في التعامل على كل المستويات، فمن البشر من رشوته قصر في أوربا،
أو فيللاً في منتجع من منتجعات المترفين، أو سيارة بي إم! ومنهم من رشوته شريط فياجرا، أو
حتى علبة سجاير! وبدونها تضيع مصالح، وتتكسر آمال، ويضيع مستقبل عشرات الألوف!
والثقافة صارت سبزوبة، وباب شهرة كاسحة، وثراء فاحش، شرط التواطؤ مع الطغاة والفاسدين، والعمل في خدمتهم.
والإعلام لعبة كذوب في أيدٍ مجرمة إرهابية مدمرة لدين الأمة وهويتها وتاريخها وأمنها وحاضرها ومستقبلها، من خلال جملة منتخبة من شديدي السقوط والخيانة والولاء لمن يدفع!
والإسلام الرسمي طيع مُوالٍ عميل – في أنحاء العالم الإسلامي كله – ورجاله عاملون بهمة على تثبيت النظم الإرهابية المستبيحة لكل شيء، الخائنة لكل قيمة!
والغش في التجارة، وبيع الوهم، والاحتكار، والأيمان الكواذب لتنفيق السلعة صارت كشرب
الماء!
وعدم إتقان العمل، ولغة الفهلوة، ومخادعة (الزبون) واستغلال جهله، والإغلاء عليه.. صارت
في الجملة منهجاً في الصّنائع.. حتى سادت أمثال من نوعية: (الشغل ال.. رة يداريه المعجون
والسنفرة) (الزبون مابيفهمش حاجة) (مشي حالك)!
والشعوب - بشكل عام – فقيرة، جاهلة، مستضعفة، مُهانة، مضغوطة بأثقال من المشاكل المتعلقة بالكساء والغطاء والمسكن والتعليم والعمل ومستقبل الأولاد، فضلاً عن القهر والقمع والتهديد الدائم بالطوارئ التي لا تزول من بلاد المسلمين! ما يدفعها للاستسلام والاستكانة، والرضا بالواقع، وعدم مقاومة الظالم، خصوصاً مع عمليات مسح الأدمغة، عن طريق إعلام كذاب بامتياز، فاجر بامتياز، خائن بامتياز!
وإذا كانت الأمور كذلك فلماذا يقع اللوم على الحاكم وحده، ولماذ نلومه على فساده إذا كانت النخب كلها حوله فاسدة: السياسيون والمثقفون والإعلاميون والشيوخ الرسميون ورجال المال والأعمال وغيرهم؟!
وإذا كان الشعب بهذه الاستكانة، والانهزامية، والذلة فلماذا يقع اللوم على الحاكم وحده، ولماذ نلومه على تجبره وتفرعنه وتطوله، مادامت الجباه عانية، والظهور مطأطئة، والهمم مُتسفِّلة!؟
أليس الدود إفراز المزابل، والروائح العفنة نتاج المجارير، وهزيمة الخير ثمرة انكسار أهل الحق، وتهاونهم، وتنازلهم، واستسلامهم الشائن المُريع؟
كما تكونوا يُولَ عليكم! كلام صادق واضح، وقاعدة مضطردة فيما يبدو لي، والله تعالى قالها لنا جليّة واضحة في كتابه الكريم: (وكذلك نُولِّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) الأنعام: 129، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة:
... تأمّل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم؛ بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم: فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك! وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا بها عليهم.. وإن أخذوا مِمَّن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة؛ فعمالهم ظهرت في صور أعمالهم! وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا رضي الله عن قوم ولَّى أمرهم خيارهم، وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تفسيرها (آية الأنعام): هو أن الله إذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم. يدل عليه قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)! الشورى: 30.
وقال ابن زيد: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله. وهذا تهديد للظالم؛ إن لم يمتنع من ظلمه سلَّط الله عليه ظالماً آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه، أو يظلم الرعية.
وأخرج أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون إذا فسد الناس أمَّر عليهم شرارهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مالك بن دينار قال: قرأت في الزبور: إني أنتقم من المنافق بالمنافق، ثم أنتقم من المنافقين جميعاً، وذلك في كتاب الله قول الله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون)!
وأخرج البيهقي عن الحسن أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام: سل لنا ربك يبين لنا علم رضاه عنا، وعلم سخطه، فسأله فقال: يا موسى أنبئهم أن رضاي عنهم أن أستعمل عليهم خيارهم، وأن سخطي عليهم أن أستعمل عليهم شرارهم.
وقال الطرطوشي في سراج الملوك: لم أزل أسمع الناس يقولون: أعمالكم عمالكم، كما تكونوا يولى عليكم" إلى أن ظفرت بهذا المعنى في القرآن قال الله تعالى: (وَكَذَلكَ نوُلِّي بَعْضَ الظَّالمينَ بَعْضاً) وكان يقال: ما أنكرت من زمانك فإنما أفسده عليك عملك.
وقال عبد الملك بن مروان: ما أنصفتمونا يا معشر الرعية، تريدونا منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم سيرة الصالحين!
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله: وفي الأثر: (كما تكونوا يولّ عليكم) يعني: أن
الله يولي على الناس على حسب حالهم، وهذا الأثر وإن لم يكن صحيحاً مرفوعاً إلى الرسول
صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنه صحيح المعنى، اقرأ قول الله تعالى: (وَكَذَلكَ نوُلِّي بَعْضَ
الظَّالمينَ بَعْضا)! أي: نجعل الظالم فوق الظالم، بماذا؟ (بمَا كَانُوا يَكْسبُونَ)!
فإذا ظلمت الرّعية سلطت عليها الرعاة، وإذا صلحت الرّعية صلح الرّعاة، وكذلك بالعكس:
إذا صلح الراعي صلحت الرعية" .
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين أيضاً: من الناس يريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون، ولا شك أنّنا نريد من الرّعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون، لكننا لا نعطيهم في المعاملة أكمل ما يكون،
أهذا عدل؟ لا والله ما هو بعدل، إذا كنت تريد أن تعطى الحق كاملاً، فأعط الحق الذي عليك كاملاً، وإلا فلا تطلب.
ومن حكمة الله عز وجل أن المُوَلَّى على حسب المولَّى عليه! وهذه من الحكمة أن يكون المولّى - ولي الأمر - على حسب من ولي عليه، إن صلح هذا صلح هذا، وإن فسد هذا فسد هذا، فإذا ظلمت الرعية سلطت عليها الرعاة، وإذا صلحت الرعية صلح الرعاة، وكذلك بالعكس:
إذا صلح الراعي صلحت الرعية! وإذا نظرنا إلى أحوال الرعية وجدنا أنفسنا نحن الرعية عندنا تفريط في الواجبات، وإخلال وتهاون، وتهافت على المحرمات: نجد الغش في المعاملات، والكذب والتزوير وشهادة الزور وأشياء كثيرة!
فلو أن الإنسان تعمق وسلط الأضواء على حال المجتمع الإسلامي اليوم لعرف القصور والتقصير؛ فالمجتمع الإسلامي مجتمع صدق ووفاء وأمانة، وكل هذه مفقودة الآن إلا ممن شاء الله.
فإذا أضعنا نحن الأمانة فيما نحن أمناء فيه - وليس عندنا ولاية كبيرة - فكيف من له ولاية أمرنا؟ قد يكون أشد منا إضاعة للأمانة، لكن استقيموا يول الله عليكم من يستقيم قال شرف الديك، ناعياً الاستسلام وقبول الذلة والهوان:
تستاهلو يا شعب الكَنَبْ
قالو البلادَ لمَنْ غَلَب
وانتو اتغَلبْتو .. وبالثُلُثْ
عتريس نزلْ .. عتريس ركبْ
وخلاص كتاب سيدْكُو انكتَب
لمُّوا العلَبْ .. وامنَع شغبْ
ح نْسيب حاجات .. لَجْلِ الْخَلَف
لكن خلاص .. جزّوا الشَنَب
دَلْ دل قَفاك .. كدَه بالأَدب
شيلو الشنَب ... مالهوش طَلب
شدّو السَلَبْ ... وامْنع شَغبْ
دَلْ دل قَفاك .. واصْرخ "وَجَبْ "
(زرّ الْبطاطا كان السبَبْ)
والخلاصة:
* هل هذا شكل من أشكال تبرير وجود الظم والظلاَّم؟ يقيناً لا!
* هل هذا تيئيس، وإجهاض للأحلام؟ يقيناً لا!
* هل انقطع الأمل في الأمة؟ يقيناً لا!
* أليس هناك نوافذ أمل للشّعوب لتنهض من هذا الوحل المحيط الذي ارتكست فيها!؟
* هل أمامها فرص أن يزيل هذه الكوابيس العسكرية والحكومات الفرعونية عن كواهلها، وتعود
ثانية على سبيل واضح وصراط مستقيم؟
يقيناً بلى.. فالله تعالى موجود، وهو مالك الملك ورب السموات والأرض، وهو على كل شيء قدير.. تبارك وتعالى..
وقد وضع سبحانه لنا سنناً لو اتبعناها لتغيّر حالنا قولاً واحداً، وأعلاها:
* سنة التغيير: تغيير النفس والحال، حتى يغير تبارك وتعالى ما بنا: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى
يغيروا ما بأنفسهم) الرعد: 11.
* المبادرة في التغيير حتى لا يزمن المرض، وتموت الهمم، ويضرب اليأس النفوس، وعندها لا
تستحق الأمة غير الاستبدال، ونمثل في ذلك قول موسى عليه السلام: (وعجلت إليك رب لترضى) طه: 84 ، وفي مسلم يقول سيدي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً:
(بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم : يصبحُ الرجلُ مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبحُ كافراً؛ يبيعُ دينَه بعرض من الدنيا)!
* والاستقامة والعمل بمطلق معناه، فقد وعد تعالى بالتمكين للعاملين المؤمنين: (وعد الله الذين
آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) النور: 55.
* وسيترتب على هذا الخير والوفرة والبركة؛ فقد قال تبارك وتعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) الأعراف: 96.
* وخارطة الطريق موجودة: ففي صحيح الترغيب والترهيب عن سيدي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ خطبَ النَّاسَ في حَجَّة الوداع فقالَ: (إنَّ الشَّيطانَ قَد يَئسَ أن يُعبَدَ بأرضكُم، ولكنْ رضيَ أن يطاعَ فيما سوى ذلكَ مما تَحاقَرون من أعمالكُم؛ فاحذَروا: إنِّي قد ترَكْتُ فيكم ما إن اعتصمتُمْ به فلن تضلُّوا أبداً: كتابَ اللَّه وسنَّةَ نبيِّه!
وسوم: العدد 650