لمن أكتب؟ .. وعمّن أكتب؟

إنَّ أكبر مآسي الحياة، هو أن يموت الأمل في داخل الإنسان، وهو لا يزال حياً، خامرتني رغبة قوية جامحة في التوقف عن الكتابة والحديث، وقلت ببساطة: (ولمن أكتب؟.. وعمّن أكتب؟)، فلم تكن الكتابة عندي مهنة أو هواية، ولكنها وسيلة للتعبير عن رأي أو الدعوة إلى فكرة أو وجهة نظر، وإذا ما كتبت شيئاً فهو في الغالب رواية من حياتنا التي نحياها في دنيا الناس، من روايات الشقاء والبؤس التي اجتاحت مدينة غزة، فلكل مواطن فيها قصة ومشكلة، فاقت كل الحدود، وأكبر من أن تكون حكاية؛ كانت بداية قصيدة لم تكتمل.

يعجز القلم عن التعبير عما يخالج صدري من شعور أتعبه الحزن، وأنهكته الحيرة، لما آلت إليه الأمور من سوء الأحوال عديدة الأنواع والمظاهر، وقد غشيها ما غشيها من جمود وركود، حتى بلغ الناس الشيخوخة وهم في سن الشباب، حين ضاقت بهم الحياة، يتلمسون طريقهم فلا يعرفونها، بعضهم ينوء تحت همومه، وبعضهم يحمل وحدته في عينيه أو على جبينه، مثل المرضى الذين ينتظرون يومهم المحتوم، وكأننا نعيش في عالم غريب، أصبح كل شيء فيه غير ممكن وغير متاح! إنني آسف أشد الأسف؛ لكن اسمحوا لي - أيها السادة - أن أعبر عن هذه المشاعر المبطنة بشيء من الحزن والألم، تحمل في طياتها الصراحة التامة، والشدة لإظهار الحق، فالعالم هو رواية تمثيلية، ينبغي لكل واحد منا أن يمثّل فيه دوره، حراً من كل قيد، ولو تخلى عنّا كل مَن في الوجود، فالعبد الحقيقي هو ذلك الذي لا يستطيع أن يصرّح بآرائه ومعتقداته.

عمّن أكتب؟ أأكتب عن المصالحة، التي وقعت تحت ضغط الحاجة بعد سنوات من العداء والجفاء، وعلقنا عليها الآمال، ولم تر النور أو تنبض بحياة، ولم يشعر بها الأهالي ولا بشيء من ثمراتها؟ كمن يسمع قعقعة ولا يرى طحناً، حتى التصقت صورة قاتمة في أذهان الناس، من زعزعة راحة البلاد والعباد، فأصبحت المصالحة فضيلة، الكل يتقرب إليها، يمدحونها، ثم يتركونها تموت جوعاً، حيث إن أقصر طريق يكفل لك أن تعيش في هذه الدنيا موفور الكرامة، هو أن يكون ما تبطنه في نفسك، كالذي يظهر منك للنّاس، فالناس مخابر، وليسوا مظاهر، أو كما يقول معروف الرصافي:

لا يخدعنْك هتاف القوم في الوطن   فالقوم في السر غير القوم في العلن

فالوطنية شعور يتأصل وينمو في الناس، ويزداد لهيبه في القلوب كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه، ومَن لا يقدر أن يقوم بواجبه نحو وطنه، لا يحق له أن يتنعَّم بخيراته، ويعيش بين ربوعه، فالوطن هو المنطلق والقبلة والمبدأ والغاية، وهل من حاجة للإتيان بأدلة وضرب الأمثلة على أهمية الوحدة والتضامن في حياة الشعوب، لقد قالوا: (مَن لم يقرأ العواقب، فما الدهر له بصاحب)، و(الخلاف عند النوائب يوصل للخراب)، ولله در مَن قال: (أبعدوني عمن يقول: أنا كالشمعة أذيب نفسي ليستضيء الناس بنوري، وقربوني ممن يحسُّ أنه يستضيء دائماً بأنوار الناس).

أم أكتب عن الشعب المطحون، الذي طحنته أعباء الحياة، وإحساسه العميق بما يزلزل كيانه العام، وينتظر مَن يأخذ بيده، ولا يجد من القائمين على حكمه إلا الطغيان والأنانية والمبالغة في تحطيمه، وهو يلوذ بصبره العجيب، وسط هذا الخضم من السيطرة عليه والتحكم في مصيره؟ هذا الشعب الذي آثر السكوت، ووقف يرقب تطور الأحداث، ولم يجد متنفساً لإعلان سخطه على استبداد وجور الحكام إلا في مجالسه الخاصة، أو على صفحات التواصل الاجتماعي، يهمس بالقول ولا يجهر به، ما يدل على مزيد من الحذر، هذا إن لم نقل إنه يدل على الفتور والتقاعس، وإيثار السلامة، وقد نالهم جميعاً من سوء الجزاء ما نالهم، ولسان حالهم يقول:

يا قلب صبراً جميلاً إنّه قدر   يجري على المرء من أسر وإطلاق

والناس أصفارٌ كبيرة، أو أصفارٌ صغيرة. أصفارٌ سعيدة، أو أصفارٌ تاعسة. أصفارٌ فقيرة، أو أصفارٌ ثرية، فلا وجود لوطن حر إلا بمواطنين أحرار، يقول سارتر: (أنا أكره الضحايا الذين يحترمون جزاريهم)، أما شكسبير فيقول: (في لحظات معينة يكون الناس هم الذين يقررون مصائرهم، لذا إذا كانت أوضاعنا متدنية فليس الخطأ خطأ النجوم والأبراج، إنه خطؤنا نحن)، فالوطنية كلٌ لا يتجزأ، والانتماء لا يقبل القسمة، وربما أصاب الأعمى رشداً، وأخطأ البصير قصداً، فلا تسل عما يمكن أن يقدمه لك وطنك، بل اسأل نفسك عمّا يمكنك أن تقدم له، فالرجال تصنع أقدارها بأيديها، والشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف، يقول المتنبي:

تريدين إدراك المعالي رخيصة   ولا بدَّ دون الشهد من إبر النّحل

أم أكتب عن حكومة الوفاق الوطني، التي اتجهت الأنظار نحوها بشوق وعناية، حتى ولدت من رحم المعاناة والألم، وأعرب الناس عن خالص إعجابهم وسرورهم، وبعثوا بابتهاجهم وتهانيهم؟.

ومنذ أن تسلمت الحكومة زمام الأمور، صممت على الاستمرار في عملها دون هوادة دفاعاً عن شعبها، إلى أن أُفشِلت في حل مشاكل الناس التي بلغت ذروتها في هذه الأيام، ولم تمتلك الشجاعة للحديث عن آلامهم، حتى وصل حالهم إلى ما نراهم عليه اليوم، دون أحلام، ودون آمال على وجه الضبط، وكأن الناس في قفص من حديد، وباتت الحكومة غير قادرة على الوفاء بكل ما يتطلبه وجودها في الحكم، بما يحسن خدمة الوطن، ويكفل لأهله العزة والكرامة، وفاقاً مع قول عنترة العبسي:

لا تسقنـي ماء الحياة بذلّة   بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل ماء الحياة بذلة كجهـــنّم ج   وجــهنّــم بالعـــزّ أطيـــــــــــب مـنـــــزل

وبدأ القلق يساور أهل غزة على مستقبلهم في ظل الحكومة التي صفقوا فرحا لقيامها، فالإنسان عبد الإحسان، وأسوأ أنواع الظلم هو الادعاء بأن هناك عدلاً، والحكومة وجدت من أجل الشعب، لا الشعب من أجل الحكومة، ولعلَّ من الشواهد التي ساقها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t قوله: (اجعلوا الناس عندكم في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، وأيّما عامل ظلم أحداً فبلغتني مظلمته فلم أغيّرها فأنا ظلمته)، فالمسؤول الحقيقي هو صديق الساعات الصعبة، ولذلك كله، أتمثل قول كليمنصو وجملته الشهيرة: (أنا ضد الحكومات، بما فيها حكومتي!)، وكذلك وفاقاً مع قول الشاعر العربي:

إذا لم يكن للمرء في حكومة امرئ   نصيب ولا حـــــظّ تمنّى زوالهـــــــــا وما ذاك من بغض لهــا غير أنّـــــه ج   يرجّي سواها فهو يبغي انتقالها

أم أكتب عن مدينة غزة، هذه الدرة الساحلية، من أرض الشرق الساحرة، التي هي قطعة من فلسطين، وتوصف بطائر العنقاء، رمز التحدي والقوة؟ وتلك التي أُتيح لها، على ضيق رقعتها، أن تصبح منارة، فكان من الطبيعي أن يشع نورها فيما حولها؛ حتى كبرت في أعين المؤرخين كمدينة عربية قديمة.

هذه المدينة أُصيبت بداء الانقسام والشقاء، فتدهور حالها، وأملقت بعد يسر، وإنَّ الله إذا أراد إشقاء القرى جعل الهداة بها دعاة شقاق، حتى اندثرت اليوم تحت وطأة الحروب والدسائس والمؤامرات والخلاف، حين تصاعد النزاع، وأصبحت في غزة حكومات تتطاحن وأحزاباً تتقاتل، حتى صار الحزن الحقيقي نزيلاً جديداً عندها، وأضحت مدينتنا، التي أحببناها محبة البنين، رمزاً آخر من رموز الصراع وإعلان النفير، وهي تنتظر مَن يخفف عنها همومها، أو ينسيها بعضاً منها، أو يجفف عنها دموعها، بعد أن تزعمها واعتلى صهوتها مَن فعل، ولسان حالها يقول:

جرّبتُ أهل زماني واختبرتُ فلم   أجد كريماً ولا عوناً على الحـرج ولا محّبــــــــــاً لذي فضـــل ولا ثــقـــة ج   ولا أمينــــــــــاً ولا عدلاً عن العـــوج

تبدو غزة اليوم مدينة باهتة مهجورة، لم تعد مدينة يقصدها الناس، بل أصبحت مدينة منسية، تنام على شاطئ المتوسط، قانعة بما آلت إليه بعدما كانت سيدة المدن والشواطئ، مثلها كمثل المباني المتروكة تبدو بها معالم الخراب وعلامات الغياب وشريط التذكر، ورغم الأذى الذي ينتابها، فإن غزة لا تخون ولا تفشل ولا تنحني، فليكن هدفنا وطننا بأسره، ولا فضيلة في حاكم أشرف من الرحمة، وما أبشع حب الانتقام والقسوة إذا تستر بزي العدالة، يقول الكاتب الكبير محمد فريد أبو حديد: (أفضل الناس هو أجدرهم بالإكبار، وأقلهم قدراً هو الأناني الذي يزاحم لكي يخطف ما ليس من حقّه، وأحقرهم هو الذي يعتدي على الآخرين بقوته وسلطانه).

أم أكتب عن الأحزاب والتنظيمات التي ضلت الطريق، وما انفكت ترفع شعار الحزب فوق الولاء للوطن؟ فالحزب عندهم مقدم على الوطن، ولكل فئة رمز ترفعه إلى منزلة بحيث لا يدانيه فيها رمز آخر، وكل حزب يحاول أن يلغي غيره، ويعدّ نفسه المثل الأعلى، ويعدّ غيره على شفا جرف هار أو في قعر جهنم، فمن شأنهم أن يحمل كل على الآخر حملات عنيفة غايتها تجسيم صغائر العيوب، وتصغير كبائر المحاسن، وأصبحوا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. إنها الفاشية في أجلى رموزها، فمشكلتنا مع الفصائل أنها ترى نفسها وحدها المنزهة عن الأخطاء، تصنع أمواجاً، ثم تجعلك تظن أنها الوحيدة التي يمكنها أن تقود السفينة إلى شاطئ الأمان، فهي لم تضع حاجيات شعبها موضع التفضيل، ولم يعتبرها الناس الناطقة الحقيقية بلسانهم، كونها تخدم أغراضها الفئوية الضيقة، وتحرم الآخرين من برها وخيرها، وتقصره على منتسبيها من المنتمين والمهللين، وهم مَن ينشدون الكفة الراجحة ليدوروا في فلكها، وأصبحت الوظائف الإدارية العليا وقفاً على تنظيمات بعينها، ولمن يدين لها بالولاء، حتى كاد هؤلاء أن يحتلوا جميع مناصب السلطة، وإذا أُسندت المناصب بغير محلها، ووضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب، فكيف نتقدم وهذه حالنا؟ وللأسف أصبحت فلسطين البقرة الحلوب التي عصر ضرعها دون أن يترك فيه فضلة للفلسطينيين، فالهدف من بناء أي دولة هو سعادة أبنائها أجمعين، وليس سعادة فئة واحدة معينة منها.

أم أكتب عن قادة الشعب الفلسطيني المُبجلين، سدنة مَعبد السلطة، الذين نشأوا في حمى العصبية والزعامة الحزبية، والذين امتلكوا صولجان السلطة ومقاليد الحكم حيناً من الدهر، فكانوا قادتها وعدتها، باعتبارهم الأمناء على تحقيق آمال الناس وتطلعاتهم وأهدافهم، وهم الذين يتناطحون في أحبولة ثالوث المال والسلطة والنفوذ؟.

أم أكتب عن بطانتهم، حملة البخور المتحركين بالمشاعر، المنغمسين في تنفيذ مآربهم الخاصة للحصول على أكبر قسط من الغنائم؟ ففي تلك الحالة السيئة، يعجم الأمر وتبهم الآراء، ولا تعرف الأمة طريقها البين نحو الاستقلال والإصلاح والنهوض بالشعب إلى مدارج الرقي، يقول مونتسيكو: (إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل من الرجال، فضع في يده سلطة أو مالاً، ثم أنظر كيف يتصرف)، ويقول توفيق الحكيم: (المصلحة الشخصية هي الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ). وإن كان علينا أن نذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولا نحطم بأيدينا ما فعله السابقون، وفي تاريخ كل وطن محاسن ومساوئ، وإنَّ الأحداث التي تجري في كل أقطار الأرض، فيها الحسن وفيها القبيح، إلا في حالتنا الفلسطينية المعاصرة؛ فأمام الأعاصير والأنواء التي اكتسحت الشعب الفلسطيني فإن كل قادتنا مسئولون عن هذه الحالة المتردية، حتى وصل الناس في بؤسهم إلى الهذيان، كما غدا مدراء منظمات حقوق الإنسان ذوو الأسماء والوجوه الفلسطينية والقلوب الغربية يسيرون في طريق مظلم مليء بالعقبات بسبب مطامعهم الجشعة، فسكتوا، ولم يحركوا ساكناً. ويضرب الرئيس الأندونيسي "أحمد سوكارنو" المثل في قيادة ورئاسة الشعوب، بكل معنى الكلمة والدلالة عندما يقول: (إذا كنت قد نبذتُ كلّ أسباب الرفاهية، وإذا كنتُ قد أبعدتُ عني جميع أقاربي وأصدقائي، وإذا كنتُ أعيشُ عيشة الفاقة، فذاك لأنني أعتقد أن رئاسة الشعوب ليست تجارة ومنصباً، بل خدمة وتضحية)، إن مؤهلات الحاكم تتلخص في كلمة واحدة هي: (الأمانة)، وإذا ماتت الأمانة ماتت نهضة بلادنا، فما من شخص نال شرفاً على ما أخذ، فالشرف هو دائماً جائزة لمن يعطي، والجدير بالحكم هو مَن يحب الناس كما يحب نفسه.

ويبقى السؤال، الذي يخالج كل فلسطيني: إلى متى سيبقى العذاب متدفقا كالنهر؟ والحزن يغمرنا كالشلال؟ وحالنا على هذه الدرجة من السوء، لا يمكن التعبير عنها؟ أليس من حقنا أن نعيش كباقي الأحرار سعداء؟ وأن تكون فلسطين قبلتنا؟ وأن يتحلى كل واحد بروح المسؤولية الوطنية؟ لذلك وقفت واجماً متألماً أتساءل ببساطة: (ولمن أكتب؟.. وعمّن أكتب؟)؛ لكن يبقى الأمل والخير في الغد، فالتفاؤل خير مُزيل للحزن.

يعيش بالأمـــلِ الإنسانُ فهــــــــو إذا   أضاعَهُ زال عنه السعيُ والعملُ لم يعبدْ الناس كل الناس في زمنٍ ج   سوى إلهٍ له شــــأنٌ هــــو الأمل

وسوم: العدد 654