إنك أنت الأعلى

كانت صدمة مُفجعة لأهل الإيمان يوم “أُحد”، فمن ذا يستوعب أن جند الله يتساقطون أمام حزب الشيطان، ومن الذي دار بمُخيلته يوما أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تُكسَر رباعيته، ويُشجُّ جبينه، ويفقد سبعين من خيرة أصحابه؟.

لكنّها سنن الله التي لا تحابي أحدا، فالنصر مفتاحه الطاعة، والحيْدَة عن أوامره نذير الخسران، فما إن تساءلوا: “أنّى هذا” كيف حدثت الهزيمة؟ جاءهم البيان واضحا جليا ساطعا: “قل هو من عند أنفسكم”.

وبينما كان المسلمون في ذروة الألم يجترّون أحزانهم، جاءهم النداء الرباني يجبر قلوبهم المنكسرة، ويبعث فيهم الأمل، ويُلقي في روعهم أنهم مهما فقدوا من أدوات القوة والنصر، فإن معهم الإيمان الذي يتميزون به عن سائر البشر، ومن ثمَّ فلا مجال لطأطأة الرأس أمام حقيقة الاستعلاء بالإيمان: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”.

يا ابن دمي وديني، أيها القابع في غيابات الشعور بالضعف، يا من خضع لتسلط الوهن، وهالَهُ سطوة الباطل، ارفع رأسك فإنك أنت الأعلى.

*بهذه الكلمات كان النداء الرباني لموسى عليه السلام، بعد أن أوجس في نفسه خيفة، لما رأى زهو الباطل، وعلا ضجيح طبوله، وهيمن على إدراك الشعب، وصوّر له العصي والحبال على أنها حيّات تسعى.

في هذا الوقت الحالك جاء النداء، ليُذكِّر موسى عليه السلام بحقيقة الاستعلاء المبني على رسوخ الإيمان: “قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى”.

*لما دخل ربعي بن عامر على رستم قائد الفرس، لم يعبأ بالمجلس المزين بالنمارق المُذهبة، وأُبرزت فيه اليواقيت واللآلئ، ولم يخطف بصرَه تاج الملك وسريره الذهبي.

دخل المسلم العربي البسيط كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية “بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.

فقالوا له: ضع سلاحك.

فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.

فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامّتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.

*إنه الاستعلاء بالإيمان، الذي يجعل الباطل في العيون المؤمنة كأمثال الذر، وكما يقول صاحب الظلال: “حين ينتفش الباطل، فتراه النفوس رابياً، وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته.. ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المُنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه”.

*الاستعلاء بالإيمان هي الحقيقة المشبعة، التي تمتلئ بها النفس المؤمنة، فتكسبها الرضا والشعور بالفوقية ولو كان صاحبها في ميزان الناس من الضعفاء والفقراء، وهو ما جعل إبراهيم بن أدهم في بعض أسفاره يخوض في النهر حتى ركبتيه، ويرتشف من الماء العذب، ثم يُعبّر عن تشبّعه بحقيقة الاستعلاء فيقول: “لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف”.

*الاستعلاء بالإيمان، هي تلك الحقيقة التي تقي المرء سطوة التهويل وشقاء النظرة السوداوية القاتمة التي لا ترى من الكوب إلا نصفه الفارغ، فعندما تتخلل هذه الحقيقة مسالك الروح، ترى أبعاد الوقائع كما هي، بل تبصر في كل محنة منحة.

ولله در شيخي ومعلمي ابن تيمية، كلما قرأت له تلك الكلمة وددت لو أنني تلقيتها عنه وجها لوجه، لأرى ملامح وجهه وهو يطلقها للتاريخ تسبح في نهر الزمن: “ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة”.

*ذلك الاستعلاء الذي يُجري كلمة الحق على ألسنة المصلحين، فيصدعون بها لتهز أركان الباطل، لأنه لا يقيم لذلك الباطل وزنا.

أرأيت إلى صاحب الجسد النحيل الذي دق المرض عظامه، أبى أن يجعل مداهنة الباطل والاعتراف به ثمنا لنجاته وبقائه على قيد الحياة، فقال وقد طُلب منه التوقيع على اعتذار للطاغية: “لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”.

“إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية” رحمك الله يا أديب، عشت سيدا ومت سيدا.

*ما أحوجنا اليوم إلى تمكين حقيقة الاستعلاء الإيماني من قلوبنا، في زمن دبّ فيه الوهن، وزُلزلت فيه القلوب، وصار الاستخذاء منهجا، والمُداهنة مسلكا، والخضوع لسطوة الغرب طريقا.

ما أحوجنا لقصم هذا الطوق من الهزيمة النفسية، والتي جعلتنا نطأطئ الرأس أمام سطوة الأعداء، وانسحبت على منطلقات التفكير فهيمنت عليها، فأفرزت محاولات عفنة لتطويع النصوص بما ينسجم مع قيم الغرب ومخرجات حضارته الزائفة، فلا عجب إذن أن يخرج من يقول: إن القرآن الكريم ذكر الطائرة النفاثة قبل صناعتها، ويستدل بقوله تعالى: “ومن شر النفاثات في العقد”، وهن السواحر ينفثن في عُقد يعقدنها كضرب من ضروب السحر.

ارفع رأسك فإنك أنت الأعلى، مهما علا الباطل وانتفش فأنت الأعلى.

وتذكر أن العاقبة للمتقين، تذكر أن الأيام دول بين الناس، فتّش في ذاكرة التاريخ عن المحن التي تبعها الخلاص، عن الأقصى الذي ظل أسيرا لدى الصليبيين قرابة مائة عام لم يرفع فيه الأذان، كيف قيض الله له صلاح الدين بجند الإيمان وتم تحريره.

فتّش في ذاكرة التاريخ عن الاجتياح التتري لبلاد المسلمين، والذي جعل من جماجمهم جبالا في بغداد، وأصابهم باليأس حتى أن التتري كان يوقف المسلم ويقول له: قف هنا حتى أحضر سكينا لأذبحك، فيفعل، لأنه يظن أن التتري سوف يدركه ولو بين النجوم أو قاع البحار.

سيُنبئك التاريخ أن الله قيّض للمسلمين سيف الدين (قطز) وجند الإيمان، ليكسروا شوكة التتار في عين جالوت.

تذكر: إنك أنت الأعلى…

وسوم: العدد 655