الحضارةُ والقيمُ
د. حامد بن أحمد الرفاعي
التاريخُ يُنبئُنا..والحاضرُ يُقرئُنا..أنَّ تخلُّف الحَضارات..وانتكاس مسيرتِها..وزوال سلطانها وانكسار سيادتِها..لا يكونُ إلا معَ تَدهورِ قيمِها..وتَهدُّمِ حُصونِ ثقافتِها..وانحِدارِ أدائِها..وترهل عزيمتها..وعجزها عن مواجهة التحديات في ميادينِ الحياةِ.
إنَّ حَصانَةَ الحضارةِ الإسلاميِّةِ..ومنَاعَةَ بُنيتِها..وعَزيمَةَ ثباتِها..ومُرونَةَ استِجابتِها للتحدياتِ..واستعدادَها للنهوضِ والاستئنافِ والشموخِ..يَكمُنُ في قوةِ مُرتَكزاتِها الإيمانيِّةِ..وصلابَةِ مُنطلقاتِها الثقافيِّةِ لِقولِه تعالى:"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"وحصن وقلعة الحضارة الإسلامية في قُدراتِها الذاتيِّةِ على التَجّديدِ والارتقاءِ لِقولِه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ يَبعثُ لِهذهِ الأُمَةِ على رأسِ كُلِّ مائةِ سَنةٍ منْ يُجدِدُ لها أمرَ دينِها".
قد تَنتكسُ الحضارةُ الإسلاميِّةُ..وتتخلفُ في شَقِها الماديِّ..وتَتراجعُ في أدائِها الأخلاقيِّ في ميادينِ الحياةِ ..إلا أنَّها بأي حالٍ من الأحوال لا تَنتكِسَ قيمها وسمو رسالتها..لأنَّ بِناءَ الحياةِ من العِبَادةِ والتقرُّبِ إلى الله تعالى..لقولِه جلَّ شأنُهُ"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"ولِقولِه سُبحانَه:"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"ولقولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ يُحبُ إذا عَمِلَ أحدُكم عَملاً أنْ يُتقِنَهُ"فإن غفل جيل وضعف وتلكأ عن أداء هذه العبادة..؟قيّض اللهُ لها أجيالاً يؤدونها وينهضون بمسؤولياتها..ويتبتلون في محاريب أسواقها وميادينها لقوله تعالى:"وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ"ويتنافسون في ميادين المهارات والإبداع والارتقاء لتجديد رسالتها وغاياتها لقوله تعالى:"فاستبقوا الخيرات"وهكذا لتقوم الحياة ويعمّر الكون بأمره جلَّ شأنه:"وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".