الكهانة المعاصرة في عصر ضجيج الإعلام
ما تبثُّه وسائل الإعلام حول كثير من الأحداث التي تَجري حولَنا خطير، وأثَرُ ذلك على النفوس والعقول عظيم، وأضع بين أيديكم بعض الأفكار المهمَّة في بيان ذلك:
أولًا: يَبدو أن الكهانة في هذا العصر لبست لبوسًا جديدًا، واتَّخذت من وسائل الإعلام المعاصرة طريقًا للتأثير في نفوس الجماهير وعقولهم، والمصيبة تكمن في مَن يُصدِّقها، ومِن هنا جاء النهي عن الذَّهاب إلى الكهان وتحريم تصديقهم؛ لأنهم كذَبة، ويُريدون أن يسير الناس ضمن ما يكذبون عليهم، وسبب هذا الضجيج الإعلامي ذكَرهُ الله بقوله: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].
وأفضل دواء لهذا الداء: التوكُّل على الله تعالى، واستحضار قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، والنتيجة: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174].
وإلا فسنخسر؛ واقرأ قول القوي المُقتدِر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149].
ثم قارن بين قوله تعالى: "﴿ فَانْقَلَبُوا ﴾"، الذي جاء بصيغة تُفيد التحقق، وبين قوله تعالى: "﴿ فَتَنْقَلِبُوا ﴾"، وهي صيغة تفيد التحذير.
ثانيًا: وهذا الدواء مهمٌّ في هذا العصر؛ لأنَّ مِن مَخاطر تضخيم الأمور، وتضليل الناس:
• إحداث شلل في التفكير.
• وغبش في الرؤية.
• وزرع اليأس في القلوب.
• ونشر الخوف من مجهول.
• وزرع الخوف في القلوب.
وهذه هي مهمَّة الإعلام المعاصر؛ فهو سجن بدون جدران، وتعذيب بدون آلات!
ثالثًا: قلتُ لصديق لي: ماذا تعمل؟ فقال: أتناول جرعةَ كآبة!
وكان يستمع إلى نشرة الأخبار التي تَحتوي على كلِّ خبر سيئ في العالم!
رابعًا: متى ستخرج من الشرنقة؟
الإعلام المعاصر مثل الشرنقة التي تَنسجها الدودة حول نفسها..
فكن كالفراشة التي تخرج من الشرنقة، وتحلِّق في جو السماء!
خامسًا: إن كثيرًا من التحليلات والمعلومات وغير ذلك مما نَسمعه في الإعلام المعاصر موجَّهٌ، وعدد غير قليل من المحلِّلين يُحلِّلون وهم داخل الشرنقة التي نسجتها آلة الشيطان، وكثير من الأخبار مُضلِّلة، ومثلها كمثل فرعون الذي حدثَنا الله تعالى عنه بقوله: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29].
وأما استشراف المستقبل، فهو علم مُهمٌّ، وقد سُبقنا فيه سبقًا طويلًا، والأمة مطالبة بتعلُّمه، وإتقانه، وقيام نفر منا بالتخصُّص فيه.
سادسًا: الإعلام المعاصر والتحكُّم في الشعوب:
وصلني مقال مهمٌّ بعنوان: "الإستراتيجيات العشر للتحكُّم في الشعوب"، وهو صادر عن بعض دوائر النفوذ العالَمي، وكشف عنها العالم الأمريكي ناعوم شومسكي، وقد أطلَق عليها وصْف: "الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة"، وتُعدُّ دليلًا للتحكُّم في البشر والمجتمعات، وتوجيه سُلوكهم، والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مُختلف بلدان العالم، وهي:
1- إستراتيجية الإلهاء أو التسلية:
لتكون وظيفة وسائل الإعلام توجيه الرأي العام بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقيَّة.
2 - إستراتيجية افتِعال المشاكل:
لكي تصير حديث الناس في المجتمع، ونشرها عن طريق مضامين وسائل الإعلام؛ حتى يَندفِع الجمهور ليطلب حلًّا لها؛ مثل: العنف، والأزمات الاقتصادية، وهنا تتحرَّك آلة النفوذ من أجل تقديم الحلول المبرمجة مسبقًا، وهكذا يتم تثبيت شعار "الهيمنة".
3- إستراتيجية التدرُّج:
وهي إستراتيجية ناجحة في تقبُّل فكرة ما من عدمه.
4- إستراتيجية التأجيل:
فهي تتلاعب بالوقت؛ حيث تفرض على الجمهور بأن يعتقد أن "كل شيء سيكون أفضل غدًا"، وتقوم وسائل الإعلام بتمرير قرارات مؤجَّل تنفيذها حتى يحين الوقت ويَعتاد الجمهور عليها.
5- مخاطبة الجمهور على أنهم أطفال:
من خلال اعتماد لغة صبيانية عن طريق الإعلانات والملصقات التي تُستعمل في لغة الأطفال الذين ما زالوا يعيشون مرحلة النمو العقلي والفِكري، وهكذا يكون رد فعل البالغين كردِّ الأطفال؛ لأن وسائل الإعلام غرست فيهم ذلك.
6- مخاطبة العاطفة بدل العقل:
استخدام سلاح العاطفة من خلال التحدُّث عن الانتماء أو الدين أو العادات التي يَمتلك الناس التزامًا عميقًا تجاهها، فيدخل الأفراد في حالة من اللاوعي وعدم التفكير إذا ما تمَّ التعدي على أي من هذه المعتقدات التي تثير عندهم المخاوف والانفعالات.
7- إغراق الجمهور في الجهل والغباء:
وهذه الإستراتيجية هي شكل من أشكال تعزيز علاقات اللامساواة والقهر، وتهدف إلى إبقاء الجمهور غافلًا عن التقنيات التي تُستعمَل من أجل السيطرة عليه، وتبدأ من نوعية التعليم التي تقدمها المدارس الحكومية التي يَدرس فيها أبناء العامة.
8 - تشجيع الجمهور على استحسان الرداءة:
حيث تعمل وسائل الإعلام على تدهور مستوى الذوق الثقافي العام، وتحفز على ارتكاب الجريمة والعنف والشذوذ الجنسي، وتعمَل على تدهور الملكات الفرديَّة والغباء والابتذال والجهل، وتشجع الجمهور على التعامل مع كل هذا وقبوله.
9- تحويل مشاعر التمرُّد إلى الإحساس بالذنب:
غرس مشاعر الذنب والتعاسة في الناس؛ حيث تقوم وسائل الإعلام بتمرير مجموعة من الرموز التي تدفع الفرد إلى الاعتقاد بأنه المسؤول عن عدم حصوله على فُرَص في النظام الاقتصادي العام؛ بسبب عدم توفُّره على المؤهلات التي تسمح له بذلك.
10- معرفة الأفراد أكثر مِن معرفتهم لأنفسهم:
مع تطور الوسائل التكنولوجية أصبح أبناء الصفوة الذين حصلوا على معرفة عالية في علم الأعصاب والنفس، وفي مختلف العلوم الإنسانية يتحكمون في الأفراد في المجتمع بشكل أكبر؛ لأنهم يَمتلكون معلومات تجعلهم يعرفون الأشخاص أكثر من معرفتهم لذواتهم.
سابعًا: الإعلام المعاصر وضياع رأس مال العمر:
قال الأستاذ بديع الزمان النورسي في الشُّعاعات، سألني يوماً إخواني قائلين:
لقد أخذت الحرب العالمية باهتمام الناس وشغلت الكرة الأرضية وأوقعتها في اضطراب وقلق وهي ذات علاقة بمقدرات العالم الإسلامي إلا أننا نراك لا تسأل عنها رغم مرور خمسين يوماً على نشوبها - بل سبع سنين - في الوقت الذي نرى متدينين وعلماء يدعون الجامع والجماعة مهرعين إلى استماع الراديو، فهل هناك قضية أعظم منها تشغل بالك؟ أم أن الانشغال بها فيه خسارة وضرر ؟!
فأجبتهم: إن رأس مال العمر قليل ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمّات التي كلّفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات هي كالدوائر المتداخلة المتحدة المركزة حول الإنسان فابتداءً من دائرة القلب والمعدة والجسد والبيت والمحلة والمدينة والبلاد والكرة الأرضية والبشرية وانتهاءً إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم أجمع، كلّها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر فكلّ إنسان له نوع من الوظيفة في كلّ دائرة من تلك الدوائر.
ولكن أعظم الواجبات وأهمها بل أدومها هي بالنسبة له في أصغر تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما أصغر الواجبات وأقلّها شأناً ودواماً هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه، فقياساً على هذا يمكن أن تتناسب الوظائف والواجبات تناسباً عكسياً مع سعة الدائرة، أي كلّما صغرت الدائرة وقربت عظمت الوظيفة، وكلّما كبرت الدائرة وبعدت قلّت أهمية الوظيفة.
ولكن لمّا كانت الدائرة العظيمة فاتنة جاذبة، فهي تشغل الإنسان بأمور غير ضرورية له، وتصرف فكره إلى أعمال لا تعنيه بشيء، حتى تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه فيهدر عندئذ رأس مال عمره ويضيع حياته سدى، زد على ذلك قد يميل قلبه وينحاز إلى إحدى الجهتين المتخاصمتين لتتبعه بلهفة أخبار الحرب الطاحنة بينهما فلا يجد في نفسه إنكاراً لمظالم تلك الجهة، بل يرتاح إليها ويكون شريكاً في ظلمها!.
وسوم: العدد 661