مهمة بوتين "المكتملة" في سوريا
منذ أن أعلنت روسيا قدومها رسمياً إلى المنطقة العربية، وبعيد تعزيز تواجدها ليشمل كافة الأشكال والنواحي العسكرية في سوريا، إنهالت التحليلات والتوقعات من كافة بقاع الأرض حول الدور الروسي المرتقب في المنطقة. ورأي أغلب المراقبون بأن إستراتيجية روسيا في المنطقة هي إستراتيجية طويلة الأمد، إلا أن الإعلان الأخير للرئيس الروسي بسحب معظم القوات الروسية من سوريا أصاب الأصدقاء والأعداء بالحيرة على حد سواء. ومن جدبد غدا هذا الإعلان مصدر إلهام للكثير من المحللين ليضعوا تصورات وتكهنات في محاولة لتفسير هذا القرار المفاجئ.
أصدر بوتين تعليماته بسحب "القسم الأكبر" من قواته من سوريا، وكانت الكلمات التي نطقها حين وجه حديثه لوزير دفاعه سيرجي شويجو "المهمة التي أوكلت لوزارة الدفاع وللقوات المسلحة قد إكتملت على أكمل وجه". وعليه، فإن مراجعة الهدف الروسي المعلن لهذا التدخل يجب أن يكون نقطة إنطلاق في سبيل تحليل "المهمة" التي كان يتحدث عنها بوتين. لقد أعلنت روسيا بعيد البدء في الدخول العسكري الرسمي لقواتها في سوريا بأن الهدف من هذه العملية هو محاربة الإرهاب وتدمير تنظيم الدولة (داعش) بعيد فشل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية من تحقيق أي نتيجة تذكر، كما وذكر المسؤولون الروس بأن هذه العملية هي خطوة إستباقية من أجل إجهاض أي محاولة لتصدير العناصر المتطرفة إلى روسيا.
تصريحات بوتين الأخيرة تفند الإدعاء الروسي الأولي وتنفي أن يكون الهدف الرئيس من التدخل الروسي هو محاربة الإرهاب، وخاصة أن تنظيم داعش مازال متواجداً- رغم تكبده لخسائر مستدركة وفق التقديرات العسكرية- ولم تظهر أية دلائل على فقدان التنظيم قدراته في تصدير عناصره المتطرفة لروسيا وغيرها. هذه الخلاصة تأخذنا للأهداف التي توقعها أكثر المحللين للأسباب الحقيقية من وراء التدخل الروسي في سوريا كتدعيم وجودها العسكري والإستراتيجي في المنطقة، ومحاولة فرض حل سياسي على الأزمة السورية بصبغة روسية، إضافة لتحييد النفوذ الإيراني المتصاعد في سوريا وإضعاف منافسي الأسد. يبدو جلياً بأن روسيا إستطاعت تحقيق معظم هذه الإهداف خلال ستة أشهر، وبالتي بدأ البحث عن إستراتيجية خروج.
أما فيما يتعلق بهدف التواجد الإستراتيجي، فخلال ستة أشهر أثبتت روسيا بأنها لاعب هام وعنصر لا يمكن تجاهله في معادلات الشرق الأوسط المتشابكة، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بسوريا. عسكرياَ، وعلى الرغم من مغادرة أعداد كبيرة من الجند والعتاد العسكري من سوريا، إلا أن موسكو أكدت أنها ستبقي العمل في قاعدتي الحميمية وطرطوس. كما أنها أشارت ضمناً بأن نظام الدفاع الجوي المتقدم S-400، وثلاث مقاتلات سوخوي Su-34، وطائرة النقل Tu-154 سيبقون في سوريا. إذاُ، يمكن الحديث صراحة بأن روسيا لم تستطع فقط أن تضع موطء قدم راسخ في المنطقة، بل عززت من تواجدها الإستراتيجي من خلال تقوية القاعدة الروسية المتواجدة في الأصل في طرطوس، بل وأنشأت قاعدة جديدة. جميع هذه المعطيات تصب في خانة سياسية بإمتياز، فخيارات روسيا إزدادت وبدأت بالخروج من عزلة فُرضت عليها عقب أزمتها الأوكرانية، حيث ظهر أن أوراق لعبها على طاولة مفاوضات هذه الأزمة متنوعة وذات تأثير.
وبالحديث عن التأثير السياسي، يظهر جلياً بأن التدخل الروسي في سوريا حرف مجرى أمواج الحرب، ففي الوقت الذي بدت قوات النظام السوري متقهقرة قبيل هذا التدخل، تغيرت جميع المجريات وأعيدت الدفة على الأرض مجدداً لقوات بشار الأسد. خلال ستة أشهر ضعفت المعارضة "المعتدلة" المدعومة "نظرياً" من الغرب وبدأت قوات الأسد في إستعادة مزيداً من الأراضي التي فقدها في السابق. وعليه، ظهرت روسيا كلاعب رائد في هذه المعادلة التي إنعكست بدور روسي واضح حين إستطاعت- وبالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية- من إبرام إتفاق وقف إطلاق نار على الرغم من وجود بشار الأسد على سدة الحكم. إذاً، بالتوازي مع الأعمال العسكرية على الأرض، أنتج النشاط السياسي والدبلوماسي الروسي عن مفاوضات سلام بدت جدية لأول مرة منذ بدء الأزمة السورية.
يمكن إيجاز خلاصة التأثير السياسي للعملية العسكرية الروسية في سوريا بالقول أن هذا التدخل أقر بدور روسي محوري في المنطقة وسوريا على وجه الخصوص، وأكد على وجود نظام الأسد في مفاوضات السلام، وبالتوازي أضعف منافسي الأسد على طاولة المفاوضات، كما حيد بشكل كبير منافسي روسيا على النفوذ في سوريا، مثل النفوذ الإيراني الذي تراجع بشكل كبير وما الدور الإيراني الهامشي- مقارنة بالدور الروسي- في مفاوضات السلام إلا خير دليل على تحقيق هذا الهدف غير المعلن.
في الوقت ذاته، بدت روسيا اليوم في وضع تحاول تجنب الاصطدام فيه مع تركيا في حال قررت الأخيرة التدخل في شمال سوريا وخاصة عقب الإعلان الأخير لأكرادها، كما ظهرت روسيا راغبة في التركيز أكثر على الملف الأوكراني، وهو الأمر الذي يستدعي جذب المزيد من المؤيدين لموقفه. الإعلان الروسي بالإنسحاب من سوريا أرسل إشارات إيجابية للعديد من العواصم، وخاصة العربية. هذه النتيجة من شأنها إصلاح بعض من العلاقات التي توترت عقب التدخل الروسي في سوريا.
إذاً، لم إختار بوتين هذا الوقت تحديداً ليعلن الإنسحاب؟
أشارت الكثير من القنوات الإخبارية والعديد من مقالات الرأي عند العرب بأن قرار بوتين جاء للضغط على الأسد لإبداء مرونة في مفاوضات السلام، وآراء أخرى رأت بأن قرار الإنسحاب جاء بعيد سوء للتفاهم بين الأسد وبوتين، وكانت النتيجة قرار الأخير بسحب قواته من سوريا. وفقاً لهذه المصادر، تكمن الخلافات بين الجانبين بسبب حديث الأسد عن رغبته إستعادة السيطرة على كافة أجزاء سوريا وعليه فإن حديث كهذا كفيل بإفشال الجهد الروسي لإنجاح مفاوضات السلام. ولكن، لا يمكن أن تُبنى قرارات دولة كبرى كروسيا بوقف تدخل إستراتيجي في دولة كسوريا وسحب قواته بناءاً على معطيات فضفاضة وأسباب هشة يمكن معالجتها بشكل آخر.
كما رأى البعض أن سبب الإعلان الروسي بالإنسحاب كان بسبب تصاعد عدم الرضى والغضب من قبل الدول العربية لدعم روسيا لنظام الأسد "الطائفي"، ولكن أرى أنه من المستبعد أن تكون هذه الحسابات غائبة عن عقل صانع القرار الروسي حين قرر التدخل في سوريا بالأصل. في جملة هذه المعطيات، يمكن القول أن هذه التحليلات قد تحمل بعض من ملامح الحقيقة، إلا أنها لا تجيب عن التساؤل الأهم: لماذا الآن؟
يمكن القول بأن الإجابة على هذا التساؤل هو مجموعة متشابكة من المعطيات والظروف، ولكن الكلمة الجوهرية في إعلان سحب الجزء الأكبر من القوات الروسية الآن هي: محادثات السلام. فبالحديث عن قرار موسكو التدخل في سوريا منذ البداية، يبدو بأنه لم يكن لدى صانع القرار الروسي دوافع دفينة لإبقاء جنود وعتاد عسكري كبير في سوريا مدة طويلة. الإقتصاد الروسي الذي يعاني من العقوبات قد تكلف بالفعل ما يقارب 800 مليون دولار خلال ستة أشهر أبقى فيها قواته في سوريا، ومنه فإن الهدف في الأصل- بالإضافة للأهداف سابقة الذكر- تحقيق مكاسب نوعية (إضعاف معارضي الأسد ووضعه في وضع أقوى على طاولة المفاوضات) بأسرع وقت ممكن ومن ثم البحث عن إستراتيجية خروج. نعم، بحثت روسيا منذ اليوم الأول عن إستراتيجية خروج من سوريا وإنتظرت اللحظة السانحة التي جاءت بتحسن أوضاع جيش النظام على الأرض، وإستبعاد خيار تدخل عسكري للناتو يوماً بعد يوم، ومع بدء مفاوضات سلام بدت جادة إنتهزت موسكو الفرصة.
خلاصة القول، الحديث عن تخلي روسيا عن سوريا هو أمر غير واقعي والقول بأن روسيا خرجت من سوريا لهو ضرب من ضروب الخيال، فبعد عملية تدخل تكتيكية محدودة النطاق والوقت جاء إعلان الإنسحاب في توقيت مناسب، بعد أن ثبّت مخالب حليف مخلص له على الأرض، ونأى بفنسه عن أي إلتزام مادي مستقبلي يتعلق بعملية إعادة إعمار بلد مدمر إن نجحت المفاوضات، ودفع الخطر الداعشي نحو ليبيا وتقريبه أكثر من أوروبا، ويبقى العنصر الغائب عن إعتبارات صانع القرار الروسي وغير الروسي هو مكافحة الإرهاب ومحاربة داعش.